عبده… كيف ارتقى فنال هذه الشهادة العظيمة… إنه عبد الله حقا… لم تكن رحلة الإسراء يسيرة، ليست رحلة السنوات العشر تقريبا حتى الآن، بل وحتى رحلته للطائف، حيث خرج إليها يجر حزنه الجديد في قلبه المملوء هماً.

لكنه لاحقا سار عائدا بين الجبال من الطائف ذات البساتين الغناء التي ترحب بكل الغرباء ليصطافوا فيها هاربين من حر مكة، خاصة أنها كانت واديا ذا زرع، وثمار، لكن هذا كله لم يعن مطلقا أن تكون قلوب أهلها لينة دانية للحق.

عاد وقدماه مملوءتان دما، وقلبه يتألم، بغير حقد على القوم، لكنه الأمل في أن ينجو بهم، القوم لا يعلمون… اللهم اهدهم.

ضاقت عليه الأرض، فدعا من أشرقت بنور وجهه ظلمة السماوات والأرض.

جاءه التخيير… هل يعاقبون لفورهم أم يمهلون؟

فاختارت الرحمة الإمهال.. ما زالت فسحة الأمل قائمة.

ودخل مكة.. في جوار المطعم بن عدي الذي طاف بالكعبة وبنوه حوله بالسلاح، ومعه النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة رضي الله عنه، قفز أبو جهل فوق كل التفاصيل وسأل المطعم: أمجير أم متابع؟

فبعد ما حصل له مع حمزة رضي الله عنه منذ سنين، حين تسببت شتائمه في أن يسلم حمزة، لم يرد أن يستفز المطعم دون تبين الموقف.

ولأن الأرض إذا ضاقت فالسماء رحبة دائما بعطائها الذي لا ينضب.

في ليلة الإسراء انفتح باب السماء له.

مضى قدما على متن البراق… ومعه جبريل الأمين الرفيق السماوي النقي، ونزل عند المسجد الأقصى مقر الأنبياء القدامى، والأمانة التي ستتحملها أمة قادمة لا تزال تحبو وتشق طريقها رويدا رويدا هناك في الحجاز، لكنها يجب أن تعي مسؤولياتها منذ اللحظات الباكرة.

في رحلة الإسراء والمعراج اجتمع الحبيب صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في قمة سماوية رفيعة، وتقدم بهم الصلاة… إيذانا بنسخ رسالاتهم برسالته، وتأكيدا لعلو نبوته، وأنها النبوة الخاتمة.

ثم علا… وارتقى في السماوات ليرى آيات كونية…

النظر إلى الجنة والنار…. وأبرز الطرق المؤدية إليهما… حيث المنتهى والمصير. لكن يجب النظر في التاريخ، ولهذا مر بالأنبياء، فتاريخ الإنسانية ملخصا في تلك الرحلة.. منذ آدم والهبوط الأول والتوبة الأولى، والأنبياء بكل معاناتهم، وإرهاق الجدال مع الأقوام، والإيذاء والتخيير، وحتى إبراهيم عليهما السلام، والتوحيد، وتسمية الأمة بأمة المسلمين.

لقاء الأب بالابن عليهما السلام، واستلام راية التوحيد عند باني البيت العتيق المستند إلى البيت المعمور في السماء السابعة.

والسلام من أبي الأنبياء لآخر الأمم يصلنا من تلك السماء العليا… حيث لا علا بعدها.

يعود الحبيب بوسامين… واحد لنفسه… وآخر لأمته.

(بعبده)… ارتقى بها.

وبالصلوات الخمس لأمته… لترتقي أمته.

وأما ثرثرة التجار في الوادي فتسكتها العلامات والأوصاف التي أعطاهم إياها.

فقد جاؤوا من زوايا الوادي، وحنيات صخوره، وتساءلوا….

كيف؟.. كل ما جرى.

أعطاهم وصف القافلة القادمة، وعلامة ما جرى لذلك الوعاء الذي شرب منه.

أما الصادقون فلا يحتاجون كل هذا..

فبمنطق الأشياء من صدق بقدرة الله الفائقة سيصدق ما والاها من معجزات، ويؤمن بها، ولذا فلا حاجة به لمزيد براهين، وإن احتاج فلمزيد اليقين، لا لرفع الشك.

لذا فهم الصديقون.