عاطفة جياشة تجاه إنجازات العرب العظيمة تولدت لدى هذا المؤرخ الذي قضى دهرا من حياته في الجزيرة العربية مكرسا جهده في بحث موضوع أحبه.

أثمر هذا العشق عدة دراسات اتخذت مسارين في آن واحد: استعراض سردي للتاريخ العربي يتداخل مع دراسة تطور وانتشار اللغة العربية.

القارئ المطلع على الثقافة العربية سيكون على اطلاع بقصص القادة التاريخيين مثل الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف الثقفي، إلا أنه غالبا لا يهتم بسير أولئك الأقل شهرة. وقد يخفى عليه أن اللغة العربية لم تنتشر بالسيف فحسب، بل رافقتها بضائع التجار، وقصائد الشعراء الصعاليك والقوافل الحاملة لمهور زواج الأمراء.

عبرت هذه القوافل الصحراء العربية واتجهت صوب غرب أفريقيا، أو شرقها وتحديدا إلى المناطق الناطقة بالسواحلية. ومن هناك أبحرت إلى جنوب شرق القارة الآسيوية و تركت آثارها على اللغتين الإندونيسية والملاوية بآلاف الكلمات . ورحلت هذه القوافل أيضا إلى جنوب القارة الأوروبية، لذلك نجد 4,000 كلمة عربية متضمنة داخل اللغة الإسبانية، بل إنها تظهر أحيانا في اللغة الإنجليزية مثل كلمة “tally-ho” حيث يرى سميث أن الكلمة قادمة من اللهجة الشامية “تعا لهون”.

عاش تيم ماكينتوش سميث في العاصمة اليمنية صنعاء نحو 30 عاماً بمنزل ضيق بالقرب من ساحة توقفت بها قافلة الإمام علي بن أبي طالب عندما جاء مبعوثا من قبل ابن عمه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرب أحد من أقدم المساجد في العالم الإسلامي.

انغماس ماكينتوش سميث بهذا التاريخ عرض حياته للخطر و شهد المآسي والأضرار الناتجة عن ثلاثة حروب أهلية، ووثق ذلك في كتابه الجديد. وأدى هذا  الاقتتال – لا يزال مستمرا حتى اليوم – إلى حبسه طوال السنوات الأربع الماضية.

ورب ضارة نافعة، فرغم  الاعتقال غير المرغوب فيه، ما كان ليتسنى له إكمال هذا المشروع الضخم، الذي جمع فيه روايات 3000 سنة من التاريخ السردي لشبه الجزيرة العربية ومصير عشرات الإمبراطوريات العربية وأرخ انتشار اللغة ولهجاتها.

يمكن تشبيه عمل ماكينتوش سميث بأنه جمع بين تاريخ بروديل في توثيق الفترة من أواخر القرون الوسطى لمنطقة البحر الأبيض المتوسط إلى الأيام المظلمة من الحرب العالمية الثانية ، وبين حماسة المؤرخ اليوناني هيرودوت والمؤرخ المسلم أبو الحسن المسعودي.

ضم الكتاب ملحقا مترجما لبعض الكلمات تجعل القارئ يعيش تجربة 3000 سنة و يكشف مدى العلاقة الوطيدة بين الخدع اللفظية، والكتابات على الجدران، والمقولات الشائعة و ألفاظ الغوغاء، أتقن المؤلف في إضافتها وتخليدها بعناية فائقة.

يوضح ماكينتوش سميث في كتابه إن الشعب العربي لا يمكن تعريفه إلا بلغته حيث لا توجد هوية عرقية خالصة، لأنه مزيج من شعوب الشرق الأوسط تشكلت من خلال لغة تطورت في ملاذ صحراوي.

إعجاب العرب بلغتهم لا يمكن لأحد في الغرب أن يفهمه، فما زال الجمهور العربي يملأ ملاعب كرة القدم للاستماع إلى صوت شاعر قديم، وفي المقابل من الصعب أن تجدهم يتذوقون خطابا سياسيا.

لقد حاول ماكينتوش سميث أن يقف على درجة حساسة بين تأثير اللغة والتاريخ وأن يكون الكتاب أصيلا في محتواه. وتعمق في بحث أحد أوجه الحضارة العربية: الصراع الأبدي بين ماهو (بدوي ) و (حضري)، بين الرعاة الرحل الذين يسكنون الخيام وبين سكان المناطق الحضرية ، بين اللغة الشفهية المبتكرة والمجتمع المثقف، بين روايات القبيلة والشعب.

عرف سميث هذه الازدواجية كما نظر إلى استعمالات اللغة كعلامة هوية، أولئك الذين يفهمون اللغة يطلقون عليه (عربي) ، وأولئك الذين لا يستطيعون فهم اللغة  (عجمي) وهؤلاء أعداء محتملون، يخافونهم، ولكنهم أيضاً يشكلون حدود الهوية.

تخيل ماكينتوش سميث السيناريو المحتمل لأصل اللغة العربية وتتبع مواطن اللاجئين القادمين من حضارتين مجاورتين للجزيرة العربية، الهلال الخصيب في الشمال والمملكة الجبلية في الجنوب . لذلك نجد أساس تشكل الفكر العربي يقوم على ثنائية سوريا و اليمن منذ البداية.

شعر الآشوريون بالرعب من أهل الصحراء في أول لقاء، اكتشفوا أن العرب لا يعرفون معنى “حاكم أو مسؤول”. لقد منحتهم هذه الطبيعة فكرة الحرية، حرية التنقل بالجمال. كانت ثقافة تدجين الجمل شيئا أساسيا بالنسبة لهم وشكلت عالم ما قبل الإسلام قبل التحول الذي بدأ في مكة عام 622 للميلاد. كان من الصعب قبل ذلك التاريخ تجميع العرب للعمل كشعب واحد.

الكتاب يفتح نافذة لفهم أعمق ويتيح للقارئ فرصة الانخراط في السرد الرائع والترحال عبر 3000 سنة من الفتوحات العربية، ويساعد على فهم واستيعاب أهمية الخط العربي باعتباره الشكل الفني الأساسي للحضارة – النحت ميز الحضارة اليونانية القديمة – وعززوا هذا العشق بتعلقهم بالورق منذ وقت مبكر.

وتبادر سؤال للمؤلف حول عدم تمكن اللغة العربية، بكل ما تملك من مرونة وحيوية من الالتحام مع ثورة القرن الخامس عشر والاستفادة من تكنولوجيا الطباعة -شرح المؤلف هذه الفكرة في فصل كامل من كتابه-  وكيف يمكن أن يقوض ذلك من احترام اللغة العربية العالية، التي بدأت تتأثر بعشرات اللهجات الإقليمية.

وعرج ماكينتوش سميث على تأثير العامل التاريخي والتفاعل مع الإمبراطوريات الأخرى للأتراك والفرس والمغول والعثمانيين والاستعمار الفرنسي والبريطاني بالإضافة إلى عوامل ومتغيرات أخرى أدت إلى وصول العالم العربي إلى هذه الحالة المروعة، باتت المنطقة التي لا تشكل سوى 5 % من سكان الأرض تصدر 58 في المائة من إجمالي اللاجئين و تشكل 68 في المائة من ضحايا الحروب.