لا يمكن فهم حياة الأفراد ولا تاريخ المجتمع  منفصلين، دون فهم الآخر والعلاقة التي تربط بينهما ” – رايت ميلز

ألف عالم الاجتماع تشارلز رايت ميلز عام 1959م كتاب “الخيال السوسيولوجي” وهو الكتاب الذي شجع الناس على استبدال النظر للأمور واستعراض حياتهم الخاصة وتغيير وجهة نظرهم،  وشجع ميلز كل فرد من أفراد المجتمع على التوقف عن مهاجمة الأوضاع الشخصية والانطواء في زوايا معزولة والانفتاح على المشهد العالمي.

فهم الخيال الاجتماعي

وضرب مثالا شائعا للخيال الاجتماعي يتعلق بالبطالة، فالفرد العاطل قد يشعر بالهزيمة والإحباط. ومن المرجح أن ينظر هذا الشخص للمرآة ويقول لنفسه “أنت لم تعمل بجد، وبما فيه الكفاية، أنت لم تبذل قصار جهدك، أنت، أنت، أنت .. “.

لو كان ميلز بجوار هذا العاطل سيقول له : “لست وحدك، أنظر للعالم من حولك.”

يعتقد ميلز أن عجلة الحياة تسير بصورة صحيحة عندما يدرك الانسان العلاقة بين يقظة الوعي والخبرات المتوفرة في المجتمع الأوسع ، كما شجع الناس على توقف التركيز على الزاوية الآحادية والنظر إلى الصورة الأشمل.

إذا اقتنعت بفكرة ميلز، ستبدأ في الاعتقاد بأن كل مشكلة تواجه الفرد لها جذور في المجتمع، وتؤمن بأن آخرين غيرك مروا بنفس العقبات والتحديات. من النادر أن يواجه شخص ما تحديا فريدا من نوعه، هناك مئات بل آلاف، إن لم يكن ملايين واجهوا نفس الصعوبات.

السلوك اليومي

وضرب ميلز مثالا يوميا يوضح السلوك على الخيال الاجتماعي، مثل شرب كوب من الشاي، أو القهوة، والنظر للأمر من عدة وجهات نظر مختلفة.

– يمكن اعتبار شرب الشاي وسيلة للحفاظ على صحة جيدة مثل تلك المكملات الغذائية اليومية أو الفيتامينات.

– شرب الشاي أو القهوة يمكن أن يعتبر تقليدا أو طقوسا، كما يختار كثير من الناس لجعله بنفس الطريقة كل يوم في وقت معين.

– شرب الشاي أو القهوة يمكن أن يعتبر إدمانا لاحتوائها على مادة “الكافيين”.

– يمكن اعتبار شرب القهوة نشاطا اجتماعيا لأن “الذهاب للقهوة” يركز أقل على المشروبات وأكثر على التحدث مع الآخرين.

بمجرد التفكير في قضايا أو أنشطة مختلفة عن وجهات نظرك ، تكون قد دخلت في  عالم الخيال الاجتماعي.

وقس هذه التقنية على سلوكيات يومية أخرى : ممارسة الرياضة، ومشاهدة التلفاز أو امتلاك حيوانات الأليفة.

كم وجهة نظر مختلفة عنك  يمكنك التفكير بها من خلال هذه الأنشطة؟

خيارات الدراسة الجامعية

بالنظر إلى الخيارات المتاحة عند التقدم إلى جامعة معينة، قد تعتقد أن هذا هو المسار الآحادي : يجب أن تجتاز الامتحانات، ويجب عليك كتابة مقالات تؤهلك للقبول. ولكن هل هذا المسار الوحيد ؟

ناهيك عن أن ملايين يمرون بنفس تجربة التسجيل الجامعي. يجب النظر بطريقة أوسع من عالمك الضيق عندما تأخذ في الاعتبار حالات مشابهة من أفراد في العائلة أوالأساتذة أو الأصدقاء.

هل سقف توقعات المقربين عالية ؟ هل يدفعك معلمك بشكل غير مباشر للتسجيل في أحد الجامعات المرموقة ( هارفارد ، يال ، كولومبيا ) أم تريد الالتحاق بكلية فنون في مانهاتن؟ أم لدى عائلتك تاريخ طويل مع جامعة معينة؟

تخيل نفسك ملاكما وابدأ في تسديد الضربات لخياراتك الجامعية ستجدها تهتز على طريقة “الخيال الاجتماعي”.

الانحراف السلوكي

يجب الإقرار أولا أن الانحراف موجود، سواء رأينا ذلك على شاشة التلفزيون أو  على الواقع ،  هناك سرقات، جرائم قتل ، عنف عصابات، تعاطي للمخدرات.

هل الانحراف السلوكي فعل فردي أم من ردة فعل يائسة؟

قد يتخذ أعضاء في عصابة ما قرارات سيئة كل يوم. هل هذا لأنهم فاسدون؟ لا نملك إجابة لهذا السؤال ولكن، إذا  فكرنا قليلا ووضعنا السؤال في سياق أوسع، وطرحناه بهذا الشكل: ماذا لو كان أحد أعضاء العصابة قد وصل إلى هذا الطريق بسبب اعتداء والده عليه وتخلي أمه عنه، وخلال بحثه عن عائلة بديلة وجد هذه العصابة وأصبح منحرفا ؟

الخيال الاجتماعي لا يقصد به أبداً تقديم أعذار لمواقف في الحياة، وسواء كنا نتعامل مع البطالة أو أعضاء العصابات، المجتمع لا يتحمل مسؤولية أخطاء وقعت من قبل بعض الأفراد.

إن تلك الحياة القائمة وفق النظرة الآحادية يجب أن تخضع اختياراتنا وأفعالنا للمساءلة خاصة عندما تكون هذه الخيارات الفردية غير متماسة مع المتغيرات المجتمعية أو الثقافية.

وسائل الإعلام الاجتماعية

قد نعتبر وسائل الإعلام الاجتماعية ظاهرة في القرن الحادي والعشرين. ربما ميلز كان  سيقول “هل هي ذلك؟ ”

وسائل التواصل الاجتماعي لم تخرج من العدم فجأة لجيل الألفية. لابد أن لها جذورا وقدمت من مكان ما أو شكلا متطورا من أشياء أخرى.

 

لذلك يجب أن لا نعتبر إنستاجرام على سبيل المثال مجرد نزوة عابرة، هناك نظرة أشمل يجب أن تستخدم عند استخدامه وفكرنا في حياتنا من خلاله .

مؤشرات الواقع تقول لنا أن كل ما نختبره اليوم هو امتداد لفترات سابقة.

سيكون من الصعب تسمية وسائل الاعلام الاجتماعية تجربة شخصية. فقط انظر إليها ومدى تأثيرها اليومي عليك؟ كيف تغيرت عادات الدراسة وفرص العمل بسببها؟ كيف يمكن تشكيل علاقاتك أو مساعدتك في التعرف على نفسك؟ هذه هي الأسئلة التي سيكون لها إجابات مختلفة لدى الجميع

وفي كل مرة تتتصفح فيها موقع إنستاجرام على هاتفك، تذكر أن هناك 500 مليون شخص آخر يقوم بالأمر ذاته.

الزواج والتأثير الاجتماعي

هل تعتقد أن أجدادنا تزاوجوا بسبب وقوعهم في الغرام ؟ أم أن بعضهم فرض عليه الزواج من قبل والديه ؟ أم أن آخرين شعروا أن التوقيت المناسب ؟

ماذا عن اليوم؟ هل الزاوج هو تتويج لتلك القصة الرومانسية الخيالية؟ أم أن المجتمع طلب القيام به لأنه الأمر الصحيح ؟

هنا نتساءل فقط ولا نطلق الأحكام على خيارات الناس الشخصية، قضية الحب والرومانسية ليست دائما تجربة فريدة من نوعها.

إذا أعدنا النظر قد نرى أن الزواج له علاقة ولو بسيطة بما نسمعه من تجارب الأصدقاء والعائلة، أو شعور بالخوف من وصمة العار أو الخشية من الموت في عزلة.

منظور جديد

وفي نهاية المطاف فإن حالات البطالة والتعليم والانحراف والزواج ليست فريدة. غالبا آلاف من البشر مروا بهذه التجارب وربما ملايين، ومن جميع أنحاء العالم.

ثانيا هذه الحالات لم تخرج من العدم، بل تطورت بسبب حوادث الماضي أو بسبب ظروف المعيشة. كل شخص يعتقد محطته الحالية في الحياة فريدة من نوعها، وهنا تخيل ميلز وهو يسأل: هل هذا هو الحال؟ هل تعتقد أن كل نتيجة لديها قضية اجتماعية؟

استخدم هذه النظرة الشاملة لإدراك العلاقة بين تجربتك الشخصية والمجتمع وسوف تساعدك على تغيير وجهة نظرك وعلاقاتك وصولا إلى المؤسسات وإلى التاريخ.

الآن أنت بدأت في استخدام الخيال الاجتماعي.