يلاحظ الباحث في النظام السياسي الإسلامي وأسسه ومعالمه، أن حديث القرآن الكريم عن “الشورى” قد جاء مبكرًا جدًّا؛ حيث ورد ذلك في سورة سُميت بهذا الاسم (سورة الشورى) والمسلمون ما يزالون في مكة لم تقم لهم دولة، بل لم يستقر لهم وضع يأمنون فيه على أنفسهم ودعوتهم!

فكان أول ما نزل عن الشورى قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: 38)([1]). فقد نزل في تشاور الأنصار بعضهم مع بعض حين سمعوا بظهور رسول الله ، وورد النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به ونصرته.

ولعل هذه الإشارة في صدر الإسلام إلى مبدأ “الشورى”- حتى قبل قيام الدولة!- تدل بعمق على أنه مبدأ، كما يقول المودودي: “أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن يكون نظامًا سياسيًّا للدولة؛ إذ هو طابع أساسي للجماعة كلها”([2]).

وقد كان النبي حريصًا على ترسيخ “الشورى” في حياة المسلمين؛ حتى وصفه أبو هريرة رضي الله عنه قائلاً: “مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” (رواه الترمذي أحمد).

ومع هذا التأكيد المبكر على أهمية الشورى وضرورتها- كركيزة أساسية للمجتمع والدولة- ومع ما تلا ذلك من تطبيقات متعددة لها في سيرة النبي ، وسيرة الخلفاء الراشدين من بعده؛ إلا أن الشورى- كفكرة وقيمة ومبدأ ثابت وأساسي- لم تتحول إلى “مؤسسة”، تكون كفيلة بأن تحرس تطبيق المبدأ، وتحدِّد معالمه، وتفصِّل جزئياته التي تركها الشرع الحنيف؛ مراعاةً لتطور واقع الناس، واختلاف ظروفهم.

وكان هذا الأمر- عدم تحول الشورى من فكرة ومبدأ، إلى مؤسسة وممارسة جماعية منظمة- أحدَ الأسباب التي جعلت المجتمع الإسلامي في عقود كثيرة لقمةً سائغةً لتسلُّط الحكام الظلمة المتجبرين، حين لم يجدوا أمامهم مؤسسةً رادعة، ولا أعرافًا راسخةً تأخذ على أيديهم، وتردعهم وتمنعهم من استعباد الناس الذين خلقهم الله أحرارًا.

يقول د. العمري في كلمات مهمة ترصد ما أُهدر من فرصة تحويل الشورى إلى مؤسسة: “إن تنظيم النخبة كان يمكن أن يطوِّر (أهل الحل والعقد)، وأن تنبثق عنه مؤسسة للشورى، ذات طبيعة مستقرة ودائمة، تكون نظامًا سياسيًّا موازيًا للنظام البرلماني الغربي، ولكنه منضبط بضوابط العقيدة والشريعة، وأخلاقيات الإسلام، وموازين الشخصية الإسلامية. واختفاءُ هذه المؤسسة في تاريخنا رغم النص القرآني {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} و{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، ولَّد شرخًا كبيرًا في تاريخنا السياسي، وفي حياتنا المعاصرة، وهو سبب الفراغ السياسي الذي نعاني منه”([3]).

ويؤكد العمري أن اختفاء مؤسسات الشورى القوية في الدولة الإسلامية، قد ولَّد “الطغيان السياسي، والحكم الاستبدادي، والتسلط الفردي، والعبث بمصالح الأمة، وفقدانها الحريات- التي منحتها الشريعة لها- في معظم أحقاب تاريخنا”([4]).

وعلى الرغم من أن تاريخنا الإسلامي قد تأصلت فيه- كما يقول الغنوشي- مفاهيمُ الإجماع، والجماعة، والبيعة، وأولي الأمر، وأهل الحل والعقد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وارتبطت “الشورى” في تجربتنا بهذه المفاهيم- بوصفها (أي المفاهيم) صورًا لها وتطبيقاتٍ في المجتمع- فإن أسبابًا كثيرة صرفت الشورى إلى المستوى الفردي، بدل تحويلها من خلال الاجتهاد الجماعي إلى مؤسسات للحكم؛ وذلك ما أنجزه إلى حد كبير الفكرُ الغربي الحديث([5]).

ويتفق د. عبد العزيز الدوري مع تلك الخلاصة، ويقرر أن الفكر الإسلامي مع أنه يعتبر الأمة هي الأساس ولا تجتمع على ضلالة، وأنها هي التي تختار الإمام، دون تحديد لطريق الاختيار، وأن أهل الحل والعقد هم ممثلو الأمة، وإنْ فُقد التحديد عدديًّا أو مؤسسيًّا؛ إلا أن الثغرة الكبرى هي في تكوين المؤسسات والنظم التي تمكِّن من تطبيق الآراء، وتضمن استمرار الأخذ بها أو تطويرها؛ فقد غابت المؤسسات التي تعبر عن المفاهيم الإسلامية([6]).

وهذا المعنى الذي نلفت النظر إليه يفيدنا في أمرين:

الأول: أن ندرك بأن الإسلام في جوانب المعاملات وفي تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية كان حريصًا على أن يرسخ مبادئَ وقيمًا أكثر من حرصه على تحديد أُطر وقوالب وتفصيلات؛ وذلك بخلاف منهجه في العقائد والشعائر؛ لأن العقائد والشعائر ثابتة، لا تتغير، ومصدرها الوحي لا العقل (وإنْ كانت لا تتناقض مع العقل)؛ أما المعاملات بفروعها فإنها تُبنَى على حركة الناس، التي هي بطبيعتها متغيرة وغير ثابتة.

وهذا يدل أبلغ الدلالة على يُسْرِ الإسلام وقدرته على مجاراة متطلبات الأزمان والأمكنة المختلفة؛ فلو ألزم الناسَ بإطار معين أو بوسيلة محددة لَمَا أمكن تغييرها مع تطور حركة المجتمعات، واختلافها من بيئة لأخرى، ومن زمن لآخر.. فهو إذن أمرٌ يُحسب للإسلام، لا عليه؛ وإنْ كان على المسلمين أن يترجموا هذه القيم والمبادئ واقعًا في دنيا الناس، وألا يكتفوا بتقريرها؛ حتى لا يحدث فراغ يُملأ بما يخالف تلك القيم والمبادئ.. ثم يكون الباب مفتوحًا لتغيير الأطر والوسائل متى ظهر أفضل منها.

 الثاني : ما دام منهج الإسلام في المعاملات والنظم على هذا النحو، فلا حرج إذن من الاقتباس من تجارب غيرنا من الأمم والحضارات، بشرط ألا يخالف الاقتباسُ الأصولَ والقواعد المقررة إسلاميًّا؛ فإن تجارب الأمم والحضارات- فيما دون العقائد والقيم- تتشابه، وينبغي أن يستفيد بعضها من بعض.

والالتفات لهذين الأمرين هو ما يدعونا لدراسة تجارب الآخرين، والانفتاح عليها، وعدم رفضها بالكلية؛ حتى نفعّل قيم الإسلام، ونحوّلها إلى آليات ومؤسسات تضمن بقاءها وفاعليتها في دنيا الناس.

 


([1]) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: “الآيَةُ نَزَلَتْ فِي الأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَدَحَ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَهَلْ حَصَلَ الأَنْصَارُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ إِلا بَعْدَ سَبْقِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهَا؟ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْ جَمِيعِهِمْ بِمَنِّهِ”، انظر: تفسير ابن عطية، “المكتبة الإسلامية” على موقع “إسلام ويب.

([2]) “الحكومة الإسلامية، أبو الأعلى المودودي، ص: 92، 93، المختار الإسلامي، ط1، 1977م. نقلاً عن “الشورى وأثرها في الديمقراطية.. دراسة مقارنة”، د. عبد الحميد الأنصاري، ص: 7، دار الفكر العربي، 1996م.

([3]) “قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي”، د. أكرم ضياء العمري، 1/ 71، 72، سلسلة “كتاب الأمة”، العدد رقم 39، إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، ط1، 1414هـ، قطر.

([4]) المصدر نفسه، 1/ 75.

([5]) “الحريات العامة في الدولة الإسلامية”، راشد الغنوشي، 2/ 192، دار الشروق، ط1، 2012م.

([6]) “الديمقراطية في فلسفة الحكم العربي”، د. الدوري، مجلة “المستقبل العربي”، السنة 2، العدد 9، سبتمبر 1979م. نقلاً عن: “فكر وفعل”، د. أحمد صدقي الدجاني، ص: 137، 138، دار المستقبل العربي، ط1، 1985م، بتصرف.