في ختام كتابه، الصغير الحجم العظيم الفوائد، عن موقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني (1838- 1897م)، كتب الشيخ عبد القادر المغربي فصلاً مهمًّا عقد فيه مقارنة بين الأفغاني وابن خلدون (732هـ، 1332م/ 808هـ، 1406م)، راصدًا أوجهَ شبهٍ بين المصلحين والعالِمين اللذين تشعَّبت بهما سبل المعرفة وميادين الإصلاح.

 

والشيخ المغربي (1867- 1956م) عالم سوري، كان نائب رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، درس العلوم الشرعية واللغوية، وتتلمذ على يد الشيخ حسين الجسر، ثم قابل الأفغاني في الأستانة ورافقه لمدة عام؛ فتشرف بالتلمذة على يديه وجهًا لوجه، بعد أن نهل من أفكاره المبثوثة في (العروة الوثقى) هو والشيخ رشيد رضا (لكن رشيدًا لم تتسن له مقابلة الأفغاني).. فكان وفيًّا لأفكار المدرسة التي أرساها الأفغاني ونذر لها حياته.. وسجَّل شيئًا من ذلك في كتاب المهم (جمال الدين الأفغاني.. ذكريات وأحاديث)، الذي- رغم وجازته- يرسم صورة إجمالية ودقيقة عن الأفغاني وأفكاره وتأثيره..

وفي هذا الفصل الأخير من الكتاب يقارن المغربي بين ابن خلدون والأفغاني، من عدة أوجه؛ تشمل العلوم التي درساها.. ومجال السياسة الذي اشتغلا به.. والصفات النفسية والخُلقية التي تمتعا بها.. والبيئة التي جاهدا لإصلاحها.. وما لقياه من مقاومة من بعض العلماء المحافظين (الجامدين).. إضافة إلى تشابههما في الخاتمة، حيث توفي كل منها بعيدًا عن البلد الذي نشأ فيه، غريبًا عن أهله.

فيما يتصل بالعلوم التي درسها ابن خلدون والأفغاني يوضح المغربي أن كلاًّ منهما درس العلوم الإسلامية، ثم تفوق على شيوخ زمانه بمهارته في الحكمة والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع، وترغيب المسلمين في دراستها والاستفادة من حقائقها.

ومع أن المغربي كان شديد الاقتصاد في رصد وجه الشبه هنا، ولم يدلل عليه، بل اكتفى بما يشبه العناوين؛ فإن مراجعةً لما كتبه الأفغاني في (العروة الوثقى)- تلك المجلة التي سجَّل فيها أهم الأفكار التي رآها ضرورية لإيقاظ المسلمين وبَعْثِهم من رقادهم- لتوضح لنا أن الأفغاني كان منتبهًا لسنن الله في الخَلق والاجتماع، وكثيرًا ما لفت النظر إليها في ثنايا مقالاته، بل وأفرد لذلك مقالاً بعنوان: (سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين).. وأما ابن خلدون فالحال عنه فيما يتصل بذلك، مما لا يخفى؛ فهو واضع علم الاجتماع والعمران كما قرر المنصفون.

وبجانب هذا العلم الشرعي والنظر الاجتماعي، اشتغل كل من ابن خلدون والأفغاني بالسياسة، وعانيا من تقلباتها ودسائسها.

ويضيف الشيخ المغربي: كان كل من ابن خلدون وجمال الدين يُعمل عقله في فهم تعاليم الإسلام مستقلاً مجتهدًا، لا متابعًا مقلدًا، وكان كل منهما يُعنى في توفير مصالح المسلمين العامة، ويحرص على إصلاح الجماعات الإسلامية من طريق التوفيق بين أصول الإسلام الصحيحة وبين قواعد علم الاجتماع التي ظهرت فائدتها في إصلاح شئون البشر، وانتظام أحوال الجماعات.

أما فيما يتصل بالصفات النفسية والخلقية، فيذكر المغربي أن كلاًّ منهما كان سليم الصدر، سهل الاستمالة، طاهر القلب، ظاهره وباطنه سواء؛ كما كان كل منهما متسرعًا حديد المزاج. فابن خلدون وصفه صديقه وزير الأندلس، لسان الدين بن الخطيب، بأنه بعيد عن التأني، وقال (أي ابن الخطيب): إن هذا الخلق هو السبب في نكباته، وتحامل رجال الدولة عليه.

وبمثل ذلك وصف الشيخ محمد عبده جمالَ الدين؛ فقد كانا معًا في باريس ينشئان جريدة (العروة الوثقى)، ويسعيان في تحقيق التعاون والتفاهم مع أقطاب السياسة الأوروبية من أجل الوصول إلى بعض أماني الشرقيين؛ لكن جمال الدين كان يحتد أحيانًا أثناء المناقشة مع رجال السياسة، كغلادستون مثلاً. وينتج عن حدته وتسرعه ما كانا أسَّساه؛ حتى قال الشيخ عبده في وصف حدة جمال الدين: “وطالما هدمت الحدة ما بنته الفطنة”.

وذكر المغربي أن كِلا الفيلسوفين (ابن خلدون وجمال الدين) حرص على تطبيق فكرتهما في العالم الإسلامي من دون تقية، وكذا مقاومتهما للخرافات والتقاليد الملتصقة بالدين؛ مما أثار في وجههما الخصوم، وأوجد لهما حسادًا منافسين في كل بلد نزلا فيه، أو بلاط ملكي استدعاهما صاحبه إليه. فما أشبه حالة ابن خلدون في بلاط غرناطة وفاس تونس والقاهرة منذ خمسة قرون، بحالة جمال الدين في بلاط كابل وطهران والقاهرة والأستانة.

وأما عن العقبات التي واجهاها من العلماء المحافظين، فيقول المغربي: وإن كان السيد الأفغاني قد ابتلاه الله من الشيوخ الجامدين بالشيخ عليش، الذي كان يحمل عكازته ويروغ بها على السيد وتلاميذه، وهم يدرسون الفلسفة في زوايا الأزهر؛ فإن ابن خلدون ابتلاه الله وهو في تونس بشيخ جامد أيضًا هو ابن عرفة، الذي كان يحسد ابن خلدون على إعجاب الناس به، وإقبال الطلاب على حلقة درسه؛ حتى قال ابن خلدون نفسه: إن ابن عرفة هذا كان يسعى به لدى حكام تونس، ويغريهم بتغريبه والبطش به.

بل وامتد التشابه في المحن التي واجهاها، إلى حد عجيب! فقد عرض (بترو) ملك الإسبانيول (هكذا؛ ولعله يقصد: إسبانيا) على ابن خلدون أن يريح نفسه من العناء، ويقيم عنده؛ وهو في مقابل ذلك يغدق عليه من زهرة الحياة الدنيا ما تقر به عينه وينعم عيشه، فأبى.

وكذلك السلطان عبد الحميد عرض على جمال الدين أن يريح نفسه من عناء السياسة، ومقاومة خصومه؛ وهو في مقابل ذلك يفرد له قصرًا مجهزًا بأثاثه، ورياشه وخدمه، ويزوجه إحدى وصيفات يلدز؛ فأبى عليه ذلك وقال: إنه لو فعل، لاستغرب منه كما يستغرب من الشيخ عليش إذا جلس مع نتلاميذه في أحد مقاهى الأزبكية!

كذلك امتد التشابه إلى الوفاة! فقد مات ابن خلدون غريبًا في مصر، ودُفن في مقابر الصوفية خارج (باب النصر)، وقبره غير معروف شأن من يموت غريبًا عن وطنه. وهكذا جمال الدين الأفغاني؛ فإنه مات في الأستانة غريبًا، ودفن في تربة (شيخلر مزارلغي) في نشانطاش، وكاد قبره يندرس لو لم يتداركه المستر (كراين) الأمريكي؛ فبنى له ضريحًا فخمًا [بعد وفاته في سنة ١٩٢٦]، ثم نُُقل رفات السيد إلى بغداد فبلاد الأفغان.

إضافة لذلك، كان التشابه كبيرًا في أحوال العالم الإسلامي التي عاصرها المصلحان الكبيران. فقد عاش ابن خلدون- كما ينقل الشيخ المغربي عن المستشرق فون فيزدندونك- “في أشد أزمان العالم الإسلامي إظلامًا من الوجهة الاستقلالية والسياسية؛ فكان كنجم أنار تلك الظلمات ثم أفل”.

كان مسلمًا شديد الغيرة على دينه، وملك قومه. وقد رأى هذا الملك مفكك العرى مضمحل القوى، استولى عليه الأعاجم من أواسط آسيا إلى شمال أفريقيا إلى غرب أوروبا: دويلات مغولية وتركية وبربرية، قامت في كل مكان على أنقاض الدولة العربية الصريحة. ساح بنفسه في تلك الممالك: من أشبيلية في الغرب، إلى الحجاز والشام في الشرق. رأى بعيني رأسه (تيمور) المغولي في الشرق يجتاح بلاد الشام، كما رأى بعيني رأسه (بترو) الإسباني في الغرب يجمع نفسه للوثوب على غرناطة آخر مملكة عربية في الأندلس.

ويضيف المغربي: انطفأت تلك الشعلة، وأغمض ابن خلدون عينيه في ذلك الظلام الدامس؛ وبعد خمسة قرون من موته عاد فعاش، ونُشر من قبره ممثَّلاً في جسم جمال الدين الأفغاني.

فتح جمال الدين عينيه، ورأى ما كان رآه ابن خلدون من خمسة قرون! وساح في العالم الشرقي والغربي: إلى مكة ومصر وطهران والأستانة، وإلى بطرسبرج وفيينا ولندن وباريس.. رأى موتًا في جانب وحياة في آخر، رأى اتكالاً في قوم وكدحًا وطمعًا في آخرين، رأى جهلاً وبطالة وكسلا هنا وعلمًا وعملاً ونشاطًا هناك. هذا الشيخ عليش في مصر وحسن فهمي أفندي في الأستانة يقاومان جمال الدين، كما قاومه ابن عرفة في تونس والقاضي البساطي في القاهرة منذ خمسة قرون وهو في شكل ابن خلدون؛ والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون!

وبعد هذه المقارنة، التي لم تَخلُ من “طرفة ومتعة وفائدة”، كما قال الشيخ المغربي في تقديمه لها، يمكن لنا أن نقول: إنها مسيرة واحدة يسلكها المصلحون والمجددون، كما تراءى لنا ذلك في ابن خلدون والأفغاني، رغم خمسة قرون تفصلهما..! وإن الجبهات التي تَفرض نفسَها على أهل الإصلاح تتشابه إن لم تتطابق: جبهات داخلية ضد فَهْمٍ جامد، وسلطان غاشم، ودول مشتتة.. وجبهات خارجية ضد عدو متربص، وطمع مفترس!

ومن ثم، فإن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المصلحون تكاد هي الأخرى تتشابه، إن لم تتطابق: زهدٌ في متاع الحياة الفاني، عِلمٌ عميق يبصِّر بالطريق، إدراك لسنن التغيير والاجتماع، عزم على بلوغ الغاية وبذل الجهد واستنفاد الطاقة بلا كلل.. والله غالب على أمره، منه وحده الجزاء وعليه التكلان.