يعتبر اليوم العداء اليوت كيبشوجي Eliud Kipchoge  أعظم عداء في تاريخ الماراثون على مدار التاريخ . اعتلى العداء الكيني البالغ من العمر 34 عاما – بطل أوليمبي وحامل الرقم القياسي العالمي بزمن قدره ( 2:01:39 ) – منصة التتويج في 11 مرة، وحقق في 12 من أكتوبر الجاري بالعاصمة النمساوية فيينا هدفا سعى له عدة مرات بإنهاء سباق الماراثون ( لمسافة 42 كيلو مترا و195 مترا  ) في أقل من ساعتين.

دارت أسئلة كثيرة بعد محاولة سابقة للعداء إليوت كيبشوجي عام 2017 حول قدرة الإنسان على كسر حاجز الساعتين بعد أن أنهى السباق في زمن قدره 2:00:25 . واقترحت الدراسات استغراق التحدي وقتا أطول إلى عام 2032 حتى يتم التغلب على الرقم المسجل، وأن السقف الزمني الذي يستطيع أن يصل إليه الإنسان هو 1:58:05، لكن النتيجة التي حققها العداء كيبشوجي في فيينا أظهرت أن الدراسات تحتاج إلى مراجعة جديدة.

الرقم القياسي الجديد لم يتم اعتماده رسميا من قبل الاتحاد الدولي لألعاب القوى بسبب عدم إجراء السباق وفق قواعد وأنظمة الاتحاد وجرى الحدث تحت رعاية شركات خاصة لكن المهم هنا ملاحظة اعتماد السباق على مسائل علمية جادة.

قبل التطرق لتفاصيل ماجرى تجدر الإشارة إلى أن عبور خط النهاية في زمن قدره 1:59:40 يستحق التوقف والنظر إليه من باب الإعجاب والتقدير، ولتوضيح حجم الإنجاز أكثر يكفي معرفة قطع العداء مسافة كيلو متر واحد بزمن أقل من دقيقتين و50 ثانية وتكرار ذلك 41 مرة !! وبمقارنة إيقاع العداء كيبشوجي في هذا السباق مع بقية البشر يجعل الإنسان في موقف من الصعب تصديقه !!

وفقا للأرقام المسجلة سنجد أن متوسط الوقت لإنهاء مسافة 5 كم للرجال في بريطانيا على سبيل المثال هو 29 دقيقة و 8 ثوان بينما أنهى العداء كيبشوجي نفس المسافة في زمن قدره 14 دقيقة و 13 ثانية وكرر ذلك 8 مرات خلال الماراثون.وبمقارنة ذلك مع سباق 10 كيلو متر فإن الرقم القياسي للسباق هو 26 دقيقة 16 ثانية نجد أن العداء كيبشوجي أنهى نفس المسافة في 28 دقيقة و 26 ثانية مع تكرار نفس المعدل 4 مرات.

الطعام المناسب

اتباع نظام غذائي لتحميل الكربوهيدرات هو إحدى إستراتيجيات تحسين الأداء الرياضي الخاصة بالتحمل من خلال زيادة كمية الوقود المخزنة في العضلات حيث تعتبر الكربوهيدرات مفتاح أداء الرتم العالي خاصة في رياضات التحمل ومنها سباق الماراثون.

قام المنظمون بالتحضير لهذه المحاولة في فترة محددة من الزمن (من 12 أكتوبر إلى 20 أكتوبر) أي في الوقت المحتمل لإجراء السباق وبالتالي بسبب عدم تحديد يوم معين أعطى دلالة أن الاستعدادات الغذائية للعداء كيبشوجي لم تبدأ منذ وقت مبكر.

يعلق الدكتور ستيفن ميرس أستاذ علوم الرياضة في جامعة لفبرا البريطانية  ” بسبب عدم علم المنظمين باليوم المحدد لإجراء السباق عملوا على تأجيل بعض الإستراتيجيات الغذائية المراد تطبيقها “.

وأضاف دكتور ميرس  قبل انطلاق الماراثون في الساعة 8:15 صباحا يوم 12 أكتوبر قام العداء كيبشوجي بزيادة جرعات الكربوهيدرات في نظامه الغذائي، حيث تعتمد  العضلات عليها وتقوم بتخزينها في الجسم. أثناء عملية الهضم يقوم جسم الإنسان بتكسير الكربوهيدرات وتحويلها إلى سكر ثم  يدخل السكر مجرى الدم، وينتقل إلى الخلايا ، ويتم تخزين السكر في الكبد والعضلات على شكل مادة تسمى  الجليكوجين – مركب كربوهيدراتي يتكون من سلسلة من جزيئات الجلوكوز وهو مصدر الطاقة –  وفائدة هذه العملية بالنسبة للماراثون أو عند ممارسة رياضات تتطلب قوة تحمل لفترات طويلة أن الجليكوجين المخزن في العضلات سيستخدم لإنتاج القوة وبالتالي تشغيل الطاقة اللازمة، وفي حال نفاد الكربوهيدرات من جسم الانسان فسيتم حرق الدهون لتغذية الرياضي – وهذه عملية غير فعالة للرياضيين المحترفين.

لم يكتف العداء الكيني كيبشوجي بالنظام الغذائي الخاص بالماراثون بل تزود بكربوهيدرات إضافية أثناء السباق. قال الدكتور ميرس  “استهلاك الكربوهيدرات أثناء ممارسة الرياضة يحافظ على الأداء أو على الأقل سيمنع انخفاض المستوى”. وكان من المتوقع أن يأخذ العداء الكيني 60 إلى 100 غراما من الكربوهيدرات في الساعة على شكل مشروب يسمى Maurten يحتوي 80 جرام كاربوهيدرات في كل نصف ليتر من السوائل.

الدفعة النفسية

على صعيد السباقات الدولية، حقق الكيني كيبشوجي رقما دوليا رسميا خاصا بسباق المارثون وهو 2:01:39 ( سباق ماراثون برلين  2018) ويعتبر هذا الإنجاز أكبر قفزة في سجل ماراثون الرجال خلال  60 عاما.

الزمن المتحقق في فيينا هو 1:59:40 أي أن كيبشوجي استطاع ركض نفس المسافة في زمن أقل بدقيقتين من رقمه العالمي تقريبا، وخلافا لما حدث في المحاولة السابقة ، تم حشد جمهور داعم له على طول المسار بأكمله رغم أن الحضور اقتصر على بضع مئات من الأشخاص.

ومن أجل توفير أفضل الظروف للبطل كيبشوجي لتحطيم الرقم القياسي العالمي، لم تترك الشركة الراعية أي شيء للصدفة حيث استغرقت ثلاثة أشهر ونصف الشهر من أجل إعداد الحلبة من الأسفلت لتفادي أي عيب، كما تمت تجربتها أكثر من مرة مع اختيار يوم وجدول زمني وفقا لظروف الطقس المواتية (درجة الحرارة والرطوبة وجودة الهواء).

وبعد انتهاء السباق قال العداء  كيبشوجي “انا أسعد رجل في العالم ليكون أول إنسان يركض ماراثون في أقل من ساعتين ، وأستطيع ان أقول للناس أنه لا يوجد إنسان محدود الإمكانيات ، أتوقع قيام مزيد من الناس في جميع أنحاء العالم انهاء الماراثون في أقل من ساعتين بعد اليوم”.

مقاومة عامل الرياح

محاولة تحسين الأداء الرياضي لدى أصحاب المستويات العالية يكمن في التفاصيل الدقيقة، قد يشكل عامل صغير في رفع الكفاءة أو تحقيق نتيجة أفضل بنسبة نصف في المائة. ومن هذه العوامل التي تم الاهتمام بها في هذا السباق ” الديناميكا الهوائية” بمعنى بدراسة القوى المؤثرة على جسم ما أثناء حركته في الهواء .

عرف راكبو الدراجات الهوائية منذ فتره طويلة أن الوقاية من تأثيرات الرياح وعدم مواجهتها تشكل فارقا في النتائج. وقد أظهرت الأبحاث ان الدراجين القابعين وسط “البيلوتون peloton ” – في سباقات الدراجات على الطرق العادية تقوم مجموعة من الدراجين إلى التكتل بهدف الحد من تأثيرات مقاومة الرياح بنسبة تترواح مابين 50 و 70 في المائة – لكن في سباقات الجري يقل تأثير عامل مقاومة الرياح بسبب قلة السرعة مقارنة بالدراجات ولكن يبقى عامل مؤثر على النتائج.

رافق العداء الكيني كيبشوجي في سباق فيينا 35 عداء (بالإضافة إلى 6 احتياطيين) من أفضل العدائين في العالم مهمتهم التقليل من عامل الرياح .

تشكلت مجموعة من سبعة عدائين أمام كيبشوجي على شكل حرف V ويكون هو خلفهم بالإضافة إلى اثنين خلفه. تناوبت المجموعات حول  العداء كيبشوجي  بمعدل 9.6 كيلو مترا لكل مجموعة. وأمام كل مجموعة تبث سيارة إشارة ليزر حتى تضبط إيقاع السباق للمجموعات.

الأحوال الجوية الصحيحة

اختيار العاصمة النمساوية فيينا لإجراء السباق لم يكن من قبيل الصدفة ليس فقط لأن المدينة مسطحة إلى حد كبير بل لأن الظروف الجوية في شهر أكتوبر تساعد على الركض بسرعة. في يوم السباق كانت الظروف المناخية ملائمة بدرجات حرارة ( 10 درجات مئوية ) ونسبة الرطوبة منخفضة .

وهناك أيضا عوامل بيئية أخرى زادت من فرص العداء الكيني كيبشوجي وهي انخفاض ارتفاع مدينة فيينا  (165متر  فوق مستوى سطح البحر)  مقارنة بكينيا المرتفعة عن سطح البحر وبالتالي تعود العداء الكيني على الركض في ظروف تقل فيها نسبة الأكسجين زاد من نسبة استهلاكه للأكسجين، كذلك وجود مدينة فيينا على خط طول قريب من كينيا ساعد في سرعة تأقلمه بعد وصوله إليها.

الاحذية وتعزيز الكفاءة

 أفاد تحليل نشر في صحيفة نيويورك تايمز ودراسة أكاديمية مستقلة صحة تأثير عامل الأحذية على  الكفاءة. ويزعم عدد من المدربين أن جودة الحذاء الرياضي المستخدم يزيد من كفاءة الحركة بنسبة 4 في المائة. واستخدم العداء الكيني كيبشوجي حذاء خاصا للسباق بتقنية جديدة.