بدأنا فيالمقال الماضي حديثا عن حقوق الحيوان في الإسلام، وذكرنا فيه أول تلك الحقوق وهو الحق في الحياة، ونواصل ما بدأناه فنتحدث في تلك السطور القادمة عن الحق الثاني ضمن الحقوق الخمسة، وهو الحق في الرعاية الصحية.

الحق في الرعاية الصحية داخل بالأصل في القواعد الكلية مثل “لا ضرر ولا ضرار” [1] ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن ما يلحق بالحيوان (أو الكائن الحي أو ذي الروح من المخلوقات) من الأذى داخل في معنى الضرر المنهي عنه، ومع هذا فقد جاءت الشريعة بأمور أخرى على وجه التفصيل.

لقد جاءت الشريعة بتحريم أكل ما لم يمت مذبوحا: كالتي ماتت من المرض، أو التي جرحت فظلت تنزف حتى ماتت، أو المنخنقة التي ماتت خنقا، أو الموقوذة التي ماتت من الضرب، أو المتردية التي ماتت بالسقوط من شاهق، أو النطيحة التي ماتت بنطح حيوان آخر لها. قال تعالى قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]

وهذا التحريم هو بذاته حفاظ على صحة الحيوان، فإنه إذا مات لم يُنتفع به، فإذا وقع أمر لا يد للإنسان فيه كالمرض أو الجرح كان عليه أن يسارع بالذبح ليستفيد منه، وفي هذا الذبح تخفيف لآلام الحيوان.

ومن ذلك ما جاء في السنة أن جارية كعب بن مالك  أبصرت شاة من غنمهم في مرض ويُخشى عليها الموت فسارعت وكسرت حجرا فذبحتها به، فقال كعب: “لا تأكلوا حتى أسأل النبي  أو أرسل إلى النبي من يسأله، وأنه سأل النبي عن ذاك أو أرسل فأمره بأكلها”[2].

وقد حافظ الإسلام على صحة الحيوانات بالنهي عن سبل العدوى، فقد نهى النبي  أن تختلط الحيوانات الصحيحة بالمريضة، كيلا ينتقل المرض بالعدوى[3]، وقال r: “لا يُورِدَنَّ مُمْرضٌ على مُصِحّ”[4]. والمُمرض: هو من كانت إبله مرضى، والمُصحُّ: هو من كانت إبله صحيحة[5]، وكان أشهر مرض في عصرهم حينذاك هو الجرب إذ ينتقل من المريض إلى الصحيح من الإبل. ولهذا فهو عام في كل مرض يمكن أن ينتقل بالعدوى بين الكائنات الحية.

ومن محافظة الإسلام على صحة الحيوان اشتراطه براءة الأضحية من العيوب، والأضحية من الشعائر التي يقدمها كل مسلم قادر، وقد سئل البراء بن عازب : ما كره رسول الله r من الأضاحي، أو ما نهى عنه من الأضاحي؟ فقال: قام فينا رسول الله ، قال -ويده أطول من يدي، أو قال: يدي أقصر من يده- قال: “أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البيِّن عَوَرُها، والمريضة البيِّن مرضها، والعرجاء البيِّن عرجها، والكسير التي لا تُنْقِي”[6]. فقيل للبراء: فإنا نكره أن يكون في الأذن نقص، أو في العين نقص، أو في السنِّ نقص. قال: فما كرهته فدعه، ولا تُحَرِّمه على أحد[7].

وجمع العلماء ما ورد في شروط الأضحية، فجعلوا مما يُتقى فيها ” كل عيب ينقص اللحم، أو مرض الحيوان وكذلك كالأعمى، وبَيِّن العور، والعجفاء[8] والظلع[9] وقطع بعض الأعضاء المأكولة أو نقصانه في أصل الخلقة، وكذلك الشديدة المرض، والمكسورة القرن إنْ كان يدمى”[10]، وكذلك: “الهتماء[11]، والعصماء[12]، والعمياء، والتولاء[13]، والجرباء التي كثر جربها”[14]. ومآل هذا كله أن يحافظ المسلمون على صحة الدواب، إذ لا ينتفعون بمن كان هذا شأنها من الأضحيات. فبهذا ضمن الإسلام للحيوان الرعاية الصحية في المجتمع المسلم.

ومن لطيف ما يدخل في الحفاظ على صحة الحيوان ما قرره الفقهاء في مسائل الغصب، إذ يلزم على الغاصب أن يرد ما غصبه إلا أن يكون في ذلك ضرر، فعدَّ الفقهاء من أنواع الأضرار ما إذا كان من المغضوب خيطا استعمل في خياطة جرح الحيوان، فحينئذ قرروا أنه “لا يُرَدُّ الخيط يخاط به جرح الحيوان؛ فإنه لا يحتمل النقض؛ لأن له حرمة”[15].

وإن مجرد التفصيل في هذا الشأن حتى يصل إلى هذا الحد لدليل على ما تميز به الحسُّ الإسلامي من الرفق والرعاية لشأن الحيوان..


[1] رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا ، ورواه مالك في  الموطإ

[2] البخاري (2181).

[3] في موضوع العدوى وثبوتها والأحاديث الواردة فيها كلام طويل، كتبنا خلاصته في مقال منشور بعنوان “الموقف الحضاري لعلماء الإسلام، حديث العدوى نموذجا“، وفيه أثبتنا أن الصحيح من الأحاديث يثبت وجود العدوى، وأن حديث “لا عدوى” إنما هو محاربة لفكر الجاهلية الذي يظن أن الأشياء تفعل بطبعها لا بقدر الله، وذكرنا أن أول من أثبت العدوى عمليا هم المسلمون، وأول من تحدث فيها هو علي بن المجوسي من علماء القرن الرابع الهجري (ت نحو 400هـ)، وللغزالي كلام دقيق سبق به عصره، ثم لابن خاتمة وابن الخطيب كلام صريح آخر، ومن أرد التفصيل فلينظر هناك تفضلا.

[4] البخاري (5437)، ومسلم (2221).

[5] النووي: شرح صحيح مسلم 14/217، ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/242.

[6] الكسيرة التي لا تنقى؛ يعني: المهزولة. وقيل: أي ليس لها نِقْي؛ وهو الشحم، وأصله مخ العظم. ابن عبد البر: التمهيد 20/165، وابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/198.

[7] أحمد (18689)، وأبو داود (2802)، والنسائي (4369) وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط.

[8] العجفاء: الهزلاء. المعجم الوسيط 2/585.

[9] الظلع هو العرج. المعجم الوسيط 2/576.

[10] القاضي عبد الوهاب: التلقين (تلقين المبتدي وتذكرة المنتهي، وهو من كتب الفقه المالكي) 1/104.

[11] الهتماء: التي ذهب ثناياها من أصلها. ابن منظور: لسان العرب، مادة هتم 12/600.

[12] العصماء: ما انكسر غلاف قرنها.

[13] التولاء: التي تدور في المرعى ولا ترعى.

[14] سيد سابق: فقه السنة 3/322.

[15] القرافي: الذخيرة 8/327.