ذكرنا في المقالات الماضية حقوق الحيوان التي كفلها له الإسلام، وأوصلنا استقراؤنا إلى أنها خمسة حقوق: حق الحياة وبقاء النوع، حق الرعاية الصحية، حق العناية بالطعام والشراب والنفقة، حق الإيواء للحيوانات الضعيفة التي لا تستقل بحفظ حياتها.

وهذا هو الحق الخامس، وهو حق جودة السلالة، وهو مأخوذ من نهي النبي صلى الله عليه وسلم  عن إنزاء الحُمُر على الخيل، روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم  بغلة فركبها، فقال عليّ رضي الله عنه: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون”[1]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  عبدًا مأمورًا ما اختصَّنا[2] دون الناس بشيء، إلا بثلاث: أمرنا أن نُسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارًا على فرس”[3].

وقد اختلف العلماء في كون هذا النهي يفيد الحرمة أم الكراهة، وذلك أن نتاج هذا النزو هو البغل الذي هو أدنى من الخيل، فمنهم من قال بالحرمة لأنه استبدال الذي هو أدنى (البغل) بالذي هو خير (الخيل)، ومنهم من قال بالكراهة واعتبر أن ركوب النبي صلى الله عليه وسلم  للبغل دليل على الجواز، وحملوا هذين الحديثين على أنه كان خاصا وقت أن كانت الخيل قليلة في بني هاشم فلهذا نهي عنه، فلو كثرت الخيل فقد زالت العلَّة.

وبين الفريقين أخذٌ وردٌ في هذا الموضوع، ولكن خلاصته أنهم متفقون على المنع إذا قَلَّت الخيل أو خيف انقطاع نسلها، كما أنهم متفقون -بطبيعة الحال- على أن الأفضل هو عدم إنزاء الحمر على الفرس، فهم إذًا متفقون على الحدِّ الأدنى وهو الحماية من الانقراض أو القلَّة[4].

ويبدو أن الرأي القائل بالحرمة أرجح لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم  “إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون” ولأنه يجوز استعمال ما حُرِّم أحيانا كما نقل المباركفوري عن الطيبي قوله “لعلَّ الإنزاء غير جائز، والركوب والتزين به جائز، إنْ كان كالصور، فإنَّ عَمَلَها حرامٌ واستعمالها في الفرش والبسط مباح. قلتُ (المباركفوري): وكذا تخليل الخمر حرام، وأكل خلِّ الخمر جائز على رأي بعض الأئمة”[5].

وفيما يتعلق بموضوع الإنزاء هذا منع الفقهاء ما فيه ألم أو ضرر بالحيوان، ولو كان فيه تجويد النسل، وهذا من دقيق فهمهم لما جاء في النصوص من الرحمة والشفقة، قال الرملي وهو من شيوخ الشافعية: “وبحث الأذرعي تحريم إنزاء الخيل على البقر لكبر آلتها، ويؤخذ منه أن كل إنزاء مضرٍّ ضررًا لا يحتمل عادة كذلك (أي: في الحرمة)، وبه يرد تنظير بعض الشارحين حيث ألحق إنزاء الخيل على الحمير بعكسه في الكراهة، نعم: إن لم يحتمل الأتان الفرس لمزيد كبر جثته اتجهت الحرمة”[6].

ومما يجدر قوله في ختام استعراض هذه الحقوق التي كفلها الإسلام للحيوان أن نُذَكِّر بعدد من الأمور المهمة:

أولا: أن الإسلام حين جاء بهذه الوصايا والتعاليم إنما كان هذا صادرا عنه بالأصالة، ليس أمرا تؤدي إليه تطورات فكرية أو فلسفات سابقة أو أوضاع قائمة، تلك الأمور التي يستند إليها الماديون في التحليل والتفسير، وهذا بحد ذاته دليل ربانية هذا الدين وصدقه، وأنه ليس ردَّ فعل ولا هو استجابة لتحديات زمنية مكانية.

ثانيا: أنك لا تجد في فلسفة من الفلسفات أو منهج من المناهج الوضعية ما يهتم بأمر الحيوان وحقوقه، فضلا عن أن يهتم به إلى هذا الحد من التفاصيل، حتى تأتي النصوص في مسائل مثل الإنزاء والإيواء والنفقة على الحيوان، وهو ما صنع تراثا فقهيا غاية في الثراء لم نعرض في هذه السلسلة إلا لخلاصاته الأخيرة وقشوره فقط، وهو تراث دونه كل المدونات الحقوقية المكتوبة في رعاية الحيوان، فإن لم تكن دونه من حيث التفصيل والتوضيح فهي دونه من حيث المقام والمكانة، إذ الإسلام دين ملزم لأتباعه ونصوصه مقدسة واجتهاد علمائه معتبرن بينما دواوين الحقوقيين في موضع الاهتمام والتنفيذ لا تكاد تساوي الحبر الذي كُتبت به.

ثالثا: أننا عرضنا في هذه السلسلة لحقوق الحيوان، ولم نتعرض لما ورد من النهي عن إيذاء الحيوان، ولا لما ورد في هذا الباب من آداب الذبح والقتل، وهو ما نسأل الله أن يعيننا على إكماله في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى، إذ فيه من الأمور الدقيقة والمدهشة ما لا يكاد يُصدق.

وهذا كله –وغيره- إنما هي صورة من قول الله تعالى لنبيه “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، فليست رحمته قاصرة على البشر، بل هي شاملة للبشر وغيرهم من الكائنات والمخلوقات، وهو أمر لم يبلغه منهج آخر ولم تتطلع إلى آفاقه فلسفة أخرى.

ثم نختم هذه السلسلة بثلاث مواقف لطيفة لبعض العلماء المسلمين، فمن ذلك ما أفتى به الإمام أبو حامد المروروذي (ت 362هـ) حين سئل في تَنَازُعٍ بين جارين، طائرُ أحدِهِما بلع لؤلؤة للآخر، هل يحل للآخر ذبحه، فقال: “لا آمر بذبحه وأتركهم حتى يصطلحوا عليه؛ لأن للحيوان حرمة، ألا ترى أنه لو غَصَب خيطًا وخاط به جرح حيوان لم يُكلَّف الرد”[7].

وحين وضع الإمام تاج الدين السبكي كتابه “معيد النعم ومبيد النقم”، حدَّد فيه آداب كل مهنة، فكان من روائع ما أورده في آداب “الطيان” –وهو الذي يُطيِّن الجدران عند البناء- قوله: “ومن حقه ألا يُطين مكانًا قبل الكشف عنه: هل فيه شيء من الحيوانات أو لا؛ فأنت ترى كثيرًا من الطيانين يعجلون في وضع الطين على الجدار، وربما صادف ما لا يحل قتله لغير مأكلة من عصفور ونحوه، فقتله واندمج في الطين؛ ويكون حينئذ خائنًا لله تعالى من جهة قتله هذا الحيوان، ولصاحب الجدار من جهة جعله مثل ذلك ضمن جداره”[8].

ونامت هرة –مرَّةً- على ثوب الشيخ أبي العباس أحمد الرفاعي، فلما أراد أن يقوم إلى الصلاة قصَّ كُمَّه لئلا يزعجها، ثم صلى وعاد فخاطه مرة أخرى وقال: “ما تغير شيء”[9].


[1] أبو داود (2565)، والنسائي (3580) وصححه الألباني.

[2] أي آل البيت.

[3] أحمد (1977)، وأبو داود (808)، والترمذي (1701)، والنسائي (141)، وصححه الألباني وشعيب الأرناءوط.

[4] الطحاوي: شرح مشكل الآثار 1/204 وما بعدها، وعبد الرحمن المباركفوي: تحفة الأحوذي 5/289 وما بعدها.

[5] المباركفوري: تحفة الأحوذي 5/290.

[6] شمس الدين الرملي: نهاية المحتاج 6/170.

[7] الماوردي: الحاوي في فقه الشافعي 6/407.

[8] السبكي: معيد النعم ومبيد النقم ص129، 130.

[9] الذهبي: سير أعلام النبلاء 21/78.