“كلما شعروا ببرد القبر أكثر كلما طلبوا دفء العلاقات الإنسانية”  فـ”الشيوخ يرجعون بالفكر إلى أيام شبابهم رجوع الغريب المشتاق إلى مسقط رأسه، ويميل إلى سرد حكايات الصبا، ميل الشاعر إلى تنغيم أبلغ قصائده، فهم يعيشون بالروح في زوايا الماضي الغابر، لأن الحاضر لا يمر بهم ولا يلتفت، والمستقبل يبدو لأعينهم متشحاً بضباب الزوال وظلمة القبر” ، تلك هي الشيخوخة، بكل ما تحمله من وهن وفناء وانزواء، ومشاعر بأن لحظات العمر لم يبقى فيها إلا القليل، ناهيك عن أمراض الشيخوخة التي لا شفاء منها، وأوجاعها التي لا راحة معها.

شيخوخة العالم

العالم يشهد شيخوخة كبيرة لم يعرفها من قبل، فنسبة كبار السن تتزايد، والهرم السكاني لم يعد المواليد يحتلون قاعدته، تشير الاحصاءات العالمية أن من تزيد أعمارهم عن (65) عاما تزيد نسبتهم عن 16% من سكان العالم، وتزيد هذه النسبة في البلاد المتقدمة، وتؤكد إحصاءات الأمم المتحدة أن هناك أكثر من (700) مليون شخص تزيد أعمارهم عن ستين عاما، وأنه بحلول عام 2050 ستقترب من البليونين، أي 20% من سكان العالم، ومن المتوقع أن من تزيد أعمارهم عن الثمانين عاما ستزيد ثلاثة أضعاف لتصل إلى (426) مليون شخص عام 2050، وأشارت منظمة الصحة العالمية أن البشر أصبحو يعيشون أطول، وأن العالم مقبل على شيخوخة سكانية لم يعرفها تاريخه من قبل.

يرتبط بتلك الشيخوخة تحولات على المستوى الصحي والحياتي والاقتصادي، إذ يتغير نمط الاستهلاك، وينمو القطاع الصحي في طب الشيخوخة، وتكثر دور المسنين، ويزداد أعداد المتقاعدين، إضافة إلى تحولات على المستوى الاعتقادي والديني، فتؤكد دراسة أمريكية نشرت عام 2019 بعنوان “الدين والروحانيات عند كبار السن” أن 90% من كبار السن في الولايات المتحدة يعتبرون أنفسهم متدينون، كما أن غالبية كبار السن يلتزمون بالحضور إلى أماكن العبادة، ويشاركون في الشعائر الدينية، ويلعب الدين دورا أساسيا في حياتهم، وأشارت الدراسة أن تحسن الصحة الجسدية والعقلية لكبار السن يرتبط بالدين، فالتدين يؤدي إلى التعافي السريع للمسنين، بل أكدت الدراسة أن مفهوم الإعاقة نفسه يتغير حسب درجة التدين، كما أن الأشخاص الذين يلجئون للدين يكونون أقل عرضة للاكتئاب والقلق، وكثير من المسنين لديهم سلوكيات تعزز صحتهم، خاصة تجنب الخمور والتدخين.

وفي دراسة أخرى بعنوان “لماذا كبار السن متدينون جدا؟” يرى الكاتب “لورنس وايت” Lawrence T. White أن المسلمين عندما يصلون إلى الشيخوخة لا يصبحون أكثر تدينا، لأنهم متدينون طوال حياتهم، فالدين لا ينفصل عن غالبيتهم، وأكد “وايت” أن الدين يخلق إحساسا بالمعنى لدى المسنين، وهو احتياج ذو أهمية في مراحل العمر المتأخرة، لأن الشيخوخة تميل إلى تضخيم المخاوف، وتخلق شعورا بعدم الأمن مع الاحساس باقتراب الموت، لذا يصبح الدين ذا أهمية قصوى لكبار السن.

وفي دراسة استقصائية لمعهد بيو لأبحاث الدين، بعنوان “لماذا تختلف مستويات ممارسة الشعائر الدينية حسب العمر والبلد؟” أكدت على حضور الدين في الفئات العمرية المتقدمة، ورأت أن الأجيال الشابة تكون أقل تدينا، وذكر التحقيق أن أكثر من 48% من ذوي الفئة العمرية التي تزيد على 65 عاما تذهب إلى الكنيسة بانتظام في الولايات المتحدة، ويشكل الدين أهمية لهم، وفي دراسة أخرى عن الشيخوخة والتنمية الاجتماعية والثقافية قام بها الباحثان David Hayward  &  Neal Krause من جامعة ميتشغان عام 2015 على مدار (33) عاما، قاما فيها بتحليل بيانات عينة زادت على سبعمائة ألف شخص من ثمانين دولة، لمقارنة العلاقة بين الثقافات والسن والتدين، خلصت أن الأشخاص يكونون أكثر تدينا مع تقدم أعمارهم، وأن الخوف من الموت ظاهرة عالمية تدفع كبار السن إلى طلب الطمأنينة من خلال الدين.

أما دراسة الدين والروحانيات عند كبار السن لـ”جوي إنترياغو” Joy Intriago فأشارت أن 90% من كبار السن يعتبرون أنفسهم متدينين، وأن هناك الكثير من الفوائد العقلية والجسدية للتدين على المسنين، وللشعائر الدينية أهمية كبيرة في ذلك العمر على اعتبار أنها تقوي الجانب الروحي، فالدين يمثل قوة إيجابية لكبار السن في مواجهة الحياة، إذ يمنح تلك الحياة المرونة والأمل، ويجنبهم العزلة الاجتماعية خاصة في حال قيامهم بأنشطة تطوعية وخيرية، ودعمت الدراسة رأيها بالقول أن هناك أكثر من (350 ) دراسة تتعلق بالصحة البدنية، و(850) دراسة تتعلق بالصحة العقلية، تُظهر نتائج أفضل للمسنين عندما يكون الدين والروحانيات من صميم أنظمة قيمهم الخاصة، فالأشخاص المتدينون يميلون إلى الاهتمام بصحتهم، وتناول الطعام بشكل أفضل، ونشرت مجلة الجمعية الطبية الأمريكية دراسة تفيد أن الأنشطة الدينية تقلل عدد أيام الاستشفاء للمسنين بشكل عام، ويرشد كتاب ” الشيخوخة التأملية”  إلى وسائل لمن تجاوز عمرهم الستين عام للقيام بأنشطة تأملية، حيث يشرح البرفيسور “شيرمان” Edmund Sherman كيف أن التأمل يُوقف التدهور العقلي والجسدي لكبار السن.

كتاب ” الشيخوخة التأملية”

لكن الغريب أن كثير من هذه الكتب التي تُعني بكبار السن تريد أن تحقق تحسن في أحوال المسنين الصحية والعقلية دون أن تُجيب عن أسئلتهم الوجودية التي عاشوا حياتهم المديدة دون أن يظفروا بإجابة شافية عنها، والغريب أن ذلك الإنسان في شيخوخته الفانية ما يزال جاهلا بخالقه-سبحانه وتعالى- كما أن ما يصدر من مؤلفات وأبحاث مازال يصر على الدوران في الإطار المادي، حتى ولو تحدث عن الروح والتأمل، فدائما تُناقش من منظور مادي، من خلال تأثيراتها على الصحة والعافية، وليس سعيا للنجاة في الحياة الآخرة، التي باتت تترآي لكبار السن بصورة شديدة الوضوح.

ويناقش كتاب ” الروحانيات والدين والشيخوخة” Spirituality, Religion, and Aging لـ “هولي نيلسون بيكر” Holly Nelson-Becker، ثمانية أديان في رعاية المسنين، وكيفية منحهم الطمأنينة، فيؤكد الكتاب أن التدين والروحانية من العوامل ذات التأثير الايجابي في سن الشيخوخة، ومع تزايد الشيخوخة في الهرم السكاني في كثير من الدول، فإن المتوقع أن يكون هناك تزايد موازي لحضور الدين في المجتمعات.

كتاب ” الروحانيات والدين والشيخوخة”

البحث عن الطمأنينة

ولكن ما علاقة الإسلام بذلك الحديث الطويل عن تأثيرات التدين على الشيخوخة؟

الحقيقة أن الإسلام مرتبط ارتباطا وثيقا بالإنسان، فالدين ما جاء إلا لسعادة الإنسان في الدارين، وخلق طمأنينة واسعة في قلبه، وهنا لابد من إبراز عطاء الإسلام للإنسان في شيخوخته، على مستويين:

الأول: هو خلق الطمأنينة في تلك المرحلة المتأخرة من العمر، تبشر الإنسان بأن الحياة القادمة ستكون أفضل، وأن الخالق-سبحانه وتعالى- لا يُعد له الشر والعذاب، مادام يعترف له بوحدانيته ويقدم التوبة على ما سبق من أفعاله، ويبدي الندم على ما فاته من أعمال صالحة.

هذه الطمأنينة التي يبثها الإسلام في نفس هذا الشيخ الفاني، تجعله لا يغمض عينيه على خوف الموت المفاجيء، أو المصير المخيف، بل يغمض عينيه على شوق دفين بأن الحياة القادمة ستخلصه من آلام الشيخوخة الحالية، وستعطيه شبابا وعافية ونعيما، ففي الأثر الذي رواه الإمام أحمد في كتاب “الزهد” أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال:” إن الله ليستحي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام”، وفي حديث آخر، جاء شَيْخٌ كَبِيرٌ يَدَّعِمُ عَلَى عَصًا لَهُ، إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي غَدَرَاتٍ وَفَجَرَاتٍ، فَهَلْ يُغْفَرُ لِي؟ قَالَ: “أَلَسْتَ تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟” قَالَ: بَلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: “قَدْ غُفِرَ لَكَ غَدَرَاتُكَ وَفَجَرَاتُكَ” ، وفي حديث الترمذي قال-صلى الله عليه وسلم-:” الشيب نور المؤمن, لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة.

الثاني: مستوى الرعاية لكبار السن، وتقديم الاحترام لهم، والأحاديث هنا كثيرة للغاية، كما حث الإسلام على احترام كبار السن من غير المسلمين، وتشير روائع الحضارة الإسلامية أن هؤلاء كانوا يُعفون من دفع الجزية، بل كان يخصص للمحتاجين منهم ما يكفيهم ويعينهم على مواجهة الحياة من أموال المسلمين، فقد نص صلح “خالد بن الوليد ” مع أهل الحيرة: “وجعلت لهم: أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وسار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله.

كتاب ” شيخوخة السكان والقيم الإسلامية لرعاية المسنين”

يكشف ” يعقوب أبو بكر” Yakubu Abubakar في كتابه ” شيخوخة السكان والقيم الإسلامية لرعاية المسنين” Population Aging and Islamic Values of Elderly Care عن القيم الإسلامية الكبيرة في رعاية المسنين وتقديم الدعم الاجتماعي لهم، فتفرض شيخوخة السكان أن تُقدم القيم والشعائر والأخلاق الإسلامية التي تدعم كبار السن في الزكاة والصدقة والوقف، بطريقة تبرز عظمة الإسلام وتعاليمه.