زعم بعض العلماء المتقدمين أن روايات الأحاديث في انشقاق القمر بلغت درجة التواتر! وهو زعم باطل كقول ابن عبد البر الآتي أنه نقله جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وإن تلقاه الكثيرون بالقبول حرصًا على إثبات مضمونه كعادتهم في الفضائل والمناقب ودلائل النبوة، فأما الشيخان فالذي صح عندهما مسندًا على شرطهما إنما هو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم يخبر عن رؤية وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد أخرجاه عنه كأحمد وغيره من طريق سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر ومن طريق الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر، وصح عندهما مرسلاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه من طريق قتادة فقط، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة، وإنما كان هذان الحديثان مرسلين لأن الحادثة وقعت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، ولم يكن ولد عبد الله بن عباس،

وأما أنس فكان في المدينة ابن خمس سنين، والخلاف في الاحتجاج بالمرسل معروف، ومن يحتج بمراسيل الصحابة مطلقًا يبني احتجاجه على أنهم يروون عن مثلهم؛ ولكن ثبت أن بعضهم كان يروي عن بعض التابعين حتى كعب الأحبار، وعلى كل حال لا يصح في مراسليهم ما اشترط في التواتر من الرواية المتصلة إلى من شاهد المروي، ورواية الشيخين المتصلة من طريقين فقط.

ورواه مسلم من طريق شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر وهي أحد الطريقين عن ابن مسعود، وليس فيها أنه حَدَّثَ عن رؤية وقد تردد الحافظ في هذه الرواية: هل هي إسناد آخر عند مجاهد (أو قول من قال ابن عمر وهمٌ من أبي معمر؟) وقد روى الحافظ أن ابن عمر هاجر وهو ابن عشر سنين، وفي رواية أخرى أنه كان سنة الهجرة ابن ست.

ورواه الإمام أحمد وتبعه ابن جرير والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه من طريق سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه. فأما جبير فقد أسلم بعد عام الحديبية وقبل فتح مكة، وقيل في الفتح، وقد كان مع المشركين في غزوة بدر وأسره المسلمون، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور، قال: فكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي، وليس في حديثه أنه رأى، ولكن ظاهره أنه كان مسلمًا، ولم يكن مسلمًا، ولو رأى ذلك في حال شركه لعده بعد إسلامه مما أثّر في نفسه. وأما السند إليه فضعيف: فسليمان بن كثير ضعَّفه ابن معين كما ضعَّف ولده محمدًا الذي روى هذا الحديث عنه، وقال ابن حبَّان: كان يخطئ كثيرًا، وأما حصين بن عبد الرحمن فقد كان ثقة إلا أنه تغير في آخر عمره.

هذا أقوى ما ورد من الأحاديث في هذه المسألة، وعليها اقتصر الحافظ ابن كثير في تفسيره، ورواه الترمذي في جامعه وغيره، ولها ألفاظ أخرى في التفسير المأثور وكتب الدلائل غربلها الشيخان، واختارا ما أشرنا إليه وسنذكره بنصه، وذكر السيوطي في الدر المنثور سائر مخرِّجيها وألفاظهم وزيادتهم على الصحيحين فيها، وزاد ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} ( سورة القمر: 1) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدًا السباق. اهـ، وابن جرير لم يذكر أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والراوي عن أبي عبد الرحمن: عطاء بن السائب وعنه شعبة وابن علية، واتفقوا على أن عطاء بن السائب قد اختلط في آخر عمره وتغير فلا تقبل رواية أحد عنه في آخرته؛ ولكن شعبة من قدماء الرواة عنه، وقد روى ابن المنذر أنه – أي حذيفة – قرأ (وقد انشق القمر) والرواية تدل على أن هذا خطأ؛ فإنه قرأ الآية في خطبته كما رواها القراء بالتواتر، ثم قال: ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، وهذا من كلامه على أنه تفسير، على أن أمثال هذه الروايات الآحادية الغريبة لا يثبت بها القرآن، بل لا بد من تواتره.

اختلاف المتون في هذه الأحاديث

(1) في بعض روايات ابن مسعود في الصحيحين أنه قال: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى. وفي رواية أخرى أنه قال: انشق القمر بمكة. وهو الموافق لرواية أنس، وكذا جبير بن مطعم فإنه قال: ونحن بمكة، وفي رواية ثالثة لم يذكر المكان. قال الداودي: إن بين الحديثين تضادًّا، وأجاب الحافظ ابن حجر بأن التضاد يُدفع بإرادة أنهم كانوا عند انشقاقه بمكة، أي قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ومِنى من جملة مكة لأنها تابعة لها، وذكر في رواية ابن مردويه عنه أنه قال: ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة؛ ولكن هذا اللفظ لا يقال إلا إذا كان ذلك قبيل الهجرة. وفي الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنه قال رأيت القمر منشقًّا شقتين بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء.

ثم قال الحافظ: والجمع بين قول ابن مسعود تارة: بمنى، وتارة: بمكة، إما باعتبار التعدد إن ثبت (نقول: وهو ينفيه) وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال: كان بمكة، لا ينافيه؛ لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها (بمنى) قال فيها: ونحن بمنى، والرواية التي فيها (بمكة) لم يقل فيها (ونحن) وإنما قال: (انشق القمر بمكة) يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا تندفع دعوة الداودي، أن بين الخبرين تضادًّا والله أعلم. اهـ.

وقوله رحمه الله: إن ابن مسعود لم يقل في رواية مكة (ونحن بمكة) إنما يصح في رواية الصحيح التي كان يشرحها، وقد ذهل عما ذكره هو قبل ذلك في شرحه من رواية ابن مردويه عنه، وفيها أنه قال (ونحن بمكة) على أن لفظ )نحن) لا ينقض ما ذكره من التأويل، وإنما يبعده أن المتبادر من قوله (قبل أن نصير إلى المدينة) أنه كان بالقرب من الهجرة، والمنقول أنه كان قبلها بخمس سنين كما ذكره الحافظ وغيره.

(2) أن البخاري أسند قول ابن مسعود: (انشق القمر بمكة) من رواية إبراهيم عن أبي معمر، ثم قال: وتابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن أبي معمر عن عبد الله، وذكر الحافظ في شرحه أن هذه الطريق وصلها عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي من طريقه في دلائل النبوة بلفظ: رأيت القمر منشقًّا شقتين، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، والسويداء بالمهلة والتصغير ناحية خارج مكة عندها جبال. اهـ. وفي الصحيحين والترمذي وغيرهم عنه: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، وفي رواية أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه وأبي نعيم عنه: رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل من بين فرجتي القمر. وفي رواية ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل من طريق علقمة عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر حتى صار فرقتين، فتوارت فرقة خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اشهدوا ) .

وفي حديث ابن عمر عن مسلم والترمذي وغيرهما من طريق مجاهد وقد تقدم: انشق فرقتين: فرقة من وراء الجبل وفرقة دونه. والحافظ شك في صحة هذه الرواية عنه كما تقدم، وفي حديث جبير بن مطعم: حتى صار فرقتين، فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل، وفي حديث أنس في الصحيحين وابن جرير – وتقدم – فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم أن ذلك كان ليلة أربع عشرة، قال: فانشق القمر نصفين نصفًا على الصفا ونصفًا على المروة.

فهذه بضعة ألفاظ يخالف بعضها بعضًا، وقد تكلف الحافظ في الفتح الجمع بين قول ابن مسعود: شقة على أبي قبيس، وهو بمكة، وكونهم كانوا في منى، فقال: يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقًّا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك! وفيه بُعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع في أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر. أو التعبير (بأبي قبيس) من تغيير بعض الرواة؛ لأن الفرض ثبوت رؤيته منشقًّا إحدى الشقتين على جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر: رأيت الجبل بينهما. أي بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلاً صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضًا أ.هـ.

وفي هذا الجمع ضعف من جهات أغربها دعوى احتمال رؤية جبل أبي قبيس من منى في الليل، وناهيك بغرابة هذا القول في حال طلوع البدر من الشرق، ومكة في جهة الغرب من منى! ثم ماذا يفعل بسائر الروايات؟ أبو قبيس هو الجبل المشرف على مكة من شرقيها، وهي من جهة منى، ويقابله قعيقعان من غربها، وحراء هو الجبل الذي يُرى في داخل مكة، ويسمى الآن جبل النور وفيه الغار الذي كان يتعبد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الجهة الشمالية من مكة على يسار الذاهب منها إلى منى، فعرفات يبعد عن الطريق زهاء ميل، ويبلغ ارتفاعه زهاء مائتي متر، ولا يُرى من منى، ورواية أبي نعيم عن ابن مسعود (رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر) وأما السويداء فلا يعلم مكانها من تفسير الحافظ لها وفي معجم البلدان وكتب اللغة أنها موضع تابع للمدينة، وفي المعجم أنها على بعد ليلتين منها، والحافظ ثقة في النقل، ومنى أعلى من مكة، والمسافة بينهما ثلاثة أميال.

وجملة القول: إن الروايات الواردة في كون القمر انشق وهم في مكة لا تتفق مع الروايات المصرحة بأنهم كانوا في منى؛ لأن كل ما ذُكر في بعضها من التفصيل والبيان للجبلين اللذين أُبهما في البعض الآخر يفيد أنه لا يمكن أن يراهما من كان في منى، فقول الداودي بتناقض الروايتين ظاهر، وما اعتمده الحافظ من الجمع بينهما مردود؛ ولذلك لجأ بعضهم إلى تعدد الانشقاق، وقد أبى الحافظ قبوله على إغماضه وتساهله في الجامع بين الروايات المتعارضة؛ لأن مدار إثباته على النقل ولم يُنقل إلا في رواية ضعيفة فيها لفظ مرتين، وقالوا: إن صوابه: شقتين أو فرقتين؛ وفاقًا لسائر الروايات. والقاعدة المشهورة عند العلماء في الأدلة المتعارضة التي يتعذر الجمع بينها تساقطها، ومن الدائر على ألسنتهم في المتعارضين كذلك (تعادلا فتساقطا) والقطعيان لا يتعارضان، والإفاضة في هذه المباحث ليست من موضوع هذه الفتوى.

استشكال الرواية بعدم تواترها

ذكر علماء الأصول أن الخبر اللغوي ما يحتمل الصدق والكذب لذاته، وأن أقسامه العقلية ثلاثة: ما يُقطع بصدقه بالضرورة أو بالنظر الذي يؤدي إليها – وما يقطع بكذبه كذلك – وما لا يقطع بصدقه ولا كذبه. وذكروا أن مما يقطع بكذبه الخبر الذي لو كان صحيحًا لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر، إما لكونه من أصول الشريعة، وإما لكونه أمرًا غريبًا كسقوط الخطيب عن المنبر وقت الخطبة.

ومن المعلوم بالبداهة أن انشقاق القمر أمر غريب، بل هو في منتهى الغرابة التي لا يُعد سقوط الخطيب في جانبها غريبًا؛ لأن الإغماء كثير الوقوع في كل زمن، ومتى وقع سقط صاحبه خطيبًا كان أو غير خطيب، وانشقاق القمر غير معهود في زمن من الأزمان، فهو محال عادة، وبحسب قواعد العلم ما دام نظام الكون ثابتًا، وإن كان ممكنًا في نفسه لا يعجز الخالق تعالى إن أراده، فلو وقع لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر لشدة غرابته عند جميع الناس في جميع البلاد ومن جميع الأمم، ولو كان وقوعه آية ومعجزة لإثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لكان جميع من شاهدها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقلها وأكثر الاستدلال والاحتجاج بها حتى كان يكون من نقلتها في رواية الصحيحين قدماء الصحابة الذين كانوا لا يكادون يفارقون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في مثل هذه المواقف، كالخلفاء وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم رضي الله عنهم، وقد علمت أنه لم ينقل فيهما مسندًا إلا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأنه لم يقل: إن ذلك كان آية بطلب كفار قريش؛ وإنما روى هذا أنس بن مالك، وروايته مرسلة ليست عن مشاهدة كما تقدم، وعلمت ما في الروايات في غير الصحيحين من العلل.

وقد ذكر الحافظ هذا الإشكال في الفتح وأجاب عنه بما نصه:

وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترًا، واشترك أهل الأرض في معرفته ولَمَا اختص بها أهل مكة (فجوابه) أن ذلك وقع ليلاً وأكثر الناس نيام، والأبواب مغلقة، وقلَّ من يرصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير وذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم) . أ.هـ.

تضمن جواب الحافظ عن هذا الإشكال جوابًا عن إشكال آخر في معناه ذكره بعده مع الجواب عنه نقلاً عن الخطابي أحد قدماء شُرَّاح صحيح البخاري ، وسيأتي. ونقول في جوابه عن مسألة نقل التواتر :

أولاً إن وقوعه في الليل وأكثر الناس نيام لا ينافي نقله بالتواتر، إذ لابد أن يكون رآه عدد يحصل بهم نقل التواتر، ولو من أهل مكة أنفسهم، ولا يمكن أن يختص برؤيته بعض الأفراد كما بيَّناه في توجيه الإشكال، وقد علم من بعض الروايات أنه وقع في منتصف الشهر والقمر بدر، ولا بد أن يكون ذلك في أول الليل كما ذكره الحافظ احتمالاً، وبه تظهر رواية كونه كان آية على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والظاهر من رواية التصريح بأنهم كانوا في منى أن ذلك كان في الموسم إذ لا يجتمع الناس في منى إلا في أيام التشريق، وهي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، وصرَّح بعضهم بأنه انشق في الليلة الرابعة عشرة، ولا يعقل أن يضرب للذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم الآية من كفار قريش آخر الليل موعدًا، على أنه لا فرق بين أول الليل وآخره من جهة اجتماع الناس من المسلمين والمشركين؛ لأنه لإقامة الحجة وهي لا تكون بالسر والإخفاء.

ثانيًا أن المعلوم من عادة الناس في جميع البلاد أن يكونوا مستيقظين في أول الليل، ولا سيما في الليالي البيض التي يكون القمر فيها بدرًا يطلع من أول الليل، وأنهم يكثرون النظر إليه لجماله وخاصة في الأماكن الخلوية كمنى، وقد علمت أنهم قالوا: إن انشقاقه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ومن راجع حساب السنين في ذلك لذلك العهد علم أن موسم الحج قبل الهجرة بخمس سنين كان في فصل الصيف.

ثالثًا أن التنظير بين انشقاق القمر والخسوف في غير محله؛ لأن الخسوف من الأمور الكثيرة الوقوع التي لا يُعنى جماهير الناس بذكرها؛ وإنما يهتم بها علماء الفلك دون غيرهم، وهي تُرى في بعض البلاد دون بعض، وأصحاب التقاويم الفلكية السنوية المألوفة في هذه البلاد يذكرون في كل سنة ما لعله يقع في أثنائها من خسوف القمر وكسوف الشمس ويحددون وقته بالدقائق والثواني، ويذكرون البلاد التي يُرى فيها، والتي لا يُرى فيها؛ لأن سببهما من الأمور المعلومة بالقطع، ومنه يُعلم أنهما ليسا من الأمور التي تعرض لجرم القمر والشمس؛ وإنما سبب خسوف القمر أن الأرض تقع بينه وبين الشمس فتجب نورها عنه بقدر ما يقع من ظلها عليه، وسبب كسوف الشمس وقوع جرم القمر بينها وبين الأرض، وأما انشقاقه فهو صدع لجرمه يفصل بين أجزائه، فإذا كان هذا الفصل واسعًا كالذي تصفه لنا الروايات السابقة فلابد أن يراه كل من نظر إليه في كل قطر.

رابعًا أن قوله: ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم – لا يفيد في دفع الإشكال؛ فإن كل من يراه في المنزلة التي انشق فيها لا بد أن يراه منشقًّا بخلاف الخسوف كما علم مما قلناه آنفًا.

إشكال خفاء الحادثة على جميع الأقطار

هذا الإشكال في معنى الذي سبقه أو مؤكد له، وقد أفرده علماؤنا بالذكر وأجابوا عنه، وقد كفانا الحافظ رحمه الله مؤنة مراجعة ما كتبوه فجاء بأحسنه، وهاك ما أورده في هذه المسألة عقب ما نقلناه عنه فيما قبلها:

وقال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجًا من جملة طباع ما في هذا العالمالمركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة؛ فلذلك صار البرهان به أظهر، وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس؛ لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يُعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره.

والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلاً لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نيامًا ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يُحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولاً بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس؛ وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر) . ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن، بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذَّب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية فاختص بها القوم الذين بُعث منهم لِمَا أُوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل من كذَّب به كما عوجل من قبلهم.

وذكر أبو نعيم في الدلائل نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر، ويجتهدون في إطفاء نور الله (قلت) وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من الصحابة، وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه، فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه وهذا كافٍ؛ فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي؛ حتى إن من وُجد عنه صريح النفي يُقَدَّم عليه من وجد منه صريح الإثبات.

وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر، ثم أجاب بنحو جواب الخطابي وقال: وقد يطلُع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضًا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك، فجاءت السفار وأخبرو بأنهم عاينوا ذلك؛ وذلك لأن المسافرين في الليل غالبًا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم ذلك، وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويُحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة، كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم. اهـ وفي كلامه نظر لأن أحدًا لم ينقل أن أحدًا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة، فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدًا؛ ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على الجواب الذي ذكره الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم اهـ.

أقول: قد عُلم مما تقدم آنفًا ضعف الجواب عن هذا الإشكال كسابقه، ونزيد عليه ما أرجأناه عمدًا وهو قول الخطابي ومن تبعه: لعل انشقاق القمر إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. فهذا الاحتمال هو الذي يمكن أن يعقل به احتمال عدم رؤية أهل الأقطار له حتى أهل مكة، وكذا من كان في منى؛ ولذلك ذكرناه في تلخيص المسألة في المجلد السادس – من كتاب مجلد المنار – وإذا أضيف إليه احتمال وقوع الرؤية في آخر الليل يزداد قوة، وقد يكون كل من الاحتمالين معقولاً إذا اعتمدنا في المسألة ظاهر حديث ابن مسعود المسند المتصل في الصحيحين وما وافقه من أن انشقاقه لم يكن إجابة لاقتراح المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية تدل على صدق دعواه، ولا يعقل على رواية أنس المرسلة في الصحيحين وما في معناها في غيرهما كما تقدم من أن ذلك كان آية مقترحة؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يؤيد رسوله صلى الله عليه وسلم بآية كونية عظيمة كهذه تكون حجة له على الناس؛ فإنه لا يجعلها كطرفة عين يراها أفراد قليلون في آخر الليل، وقد ران الكرى على أجفانهم بحيث يعذرون في اتهام أبصارهم بهذه الرؤية كما ورد في بعض الروايات أنهم قالوا ذلك، وجاء في بعض التفاسير أنه وقع مثل ذلك لبعض المتأخرين، فزعم أنه رأى القمر قد انشق، ومن المعلوم بالضرورة أن هذا تخيل، بل يجعلها آية مبصرة كناقة صالح لا يمكن الشك ولا المراء الظاهر فيها.

وأما ما ورد في غير الصحيحين من انتظار أهل مكة للسفار وإخبارهم برؤيته منشقًّا فهو لا يصح، ولو صح لكان مؤيدًا لإشكال توفر الدواعي على نقله متواترًا. أما الحديث فقد رواه ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وكذا أبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة كلهم من طريق مسروق عن ابن مسعود، وفي سنده عند ابن جرير المغيرة بن مقسم (بكسر الميم) الكوفي الفقيه وهو مدلس وقدعنعن فلا يُحتج بروايته، وأما تأييده لما ذكر من الإشكال فظاهر؛ لأن رؤية أولئك السفار له دليل على رؤية غيرهم من مسافر ومقيم وهم كثيرون، وحينئذ لابد أن يرويه الكثيرون، ومن غرائب الاحتمالات التي تخيلها بعض المجيبين عن هذا الإشكال قول القرطبي الذي نقلناه عن الحافظ آنفًا، فحاصله مع ما قبله أن هذه الآية العظيمة جعلها الله تعالى في لحظة من آخر الليل وصرف عن رؤيتها أبصار جميع الخلق غير الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وكذا بعض سفار المكيين على رواية شاذة! ! !