صدر حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب “شرود ما بعد الدهرانية النقد الائتماني للخروج من الأخلاق” للفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن. تبلغ صفحات الكتاب مع فهارسه ومراجعه 559 صفحة من القطع الكبير بخط متوسط الحجم، وتتوزع مباحثه ضمن ثلاثة أبواب وتسعة فصول.. وتدور فكرته حول نقد أطروحة “الخروج من الأخلاق” وبيان الشرود الفكري للفلاسفة والتحليليين النفسانيين الذين نظروا لها، ومقليديهم في المجتمعات المتخلفة اقتصاديا وسياسيا، الذين لا يستحون من اعتناق هذا المذهب والدعوة إليه كأنه (فتح أخلاقي جديد، وما دَرَوا أنهم بتصرفهم هذا، إنما يضيفون إلى تخلفهم تخلفا من فوقه) ساقطين فيما يسميه طه بـ”التخلف الجذري”، وهو التخلف الذي لا تفكر العقول داخله إلا بالطريق الذي تتردى به إلى الحضيض(ص87 و88).

ويأتي هذا الكتاب اليوم تتويجا للمشروع الذي بدأه طه عبد الرحمن قبل سنوات في نقد “الحداثة الغربية” والذي بدأه بسفره القيم في نقض العلمانية “روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الإئتمانية”  ثم تلاه كتابه “بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين” الذي خصصه لنقض لون آخر من “الدُّنيانية”(فصل الدين عن مجالات الحياة) وهو “نزع للباس الروحي عن الأخلاق وإلباسها لباسا زمنيا”. وإذا كانت الدهرانية تختص (بكونها خروج الأخلاق من الدين؛ والخروج من الدين هو ما اصطلح عليه باسم “المروق”؛ وبؤس الدهرانية هو في مروقها) (ص 15)، فإن ما بعد الدهرانية تختص بكون (منزلتها في الخروج من الدين أسوأ من الدهرانية، فهي، على التعيين، الخروج من الأخلاق بالكلية، علما بأن الأخلاق منبتها الأصلي هو الدين)(ص 16)، وهذا الخروج هو الذي يسميه طه بـ”الشرود”، فإذا كان الدهراني مارقا، فقد أضحى ما بعد الدهراني شاردا، وذلك أن منشأ “الدهرانية” هو رفض الآمرية الإلهية، إثباتا الآمرية الإنسان، ومنشأ “ما بعد الدهرانية” هو رفض الشاهدية الإلهية إثباتا لشاهدية الإنسان، وهذا هو (“الدخول في حال الشرود”، فوضع الإنسان ما بعد الدهراني هو وضع الشارد، أي وضع الخارج من الأخلاق)(ص 37).  وقد أتخذ هذا الشرود عند الفلاسفة والنفسانيين الذي نظروا له صورتين اثنتين: إحداهما ترك اعتبار القيم الخلقية، والثانية الأخذ بالقيم المضادة للقيم الخلقية الأصلية (ص 18).

وقد أحصى طه من خلال تتبعه لهذا الشرود الذي وقع فيه هؤلاء الفلاسفة صيغا ثلاث هي “الصيغة الآدمية للأنموذج ما بعد الدهراني، والإنسان الفائق عند “نيتسيه”، منطلقا في نقدها من قصة النهي الأولى التي وردت في جميع الكتب المقدسة، والتي هي أساس المنهيات الأخلاقية، ألا وهي “قصة النهي عن الأكل من الشجرة”(ص 39)، و”الصيغة القابيلية للأنموذج ما بعد الدهراني، والإنسان السيد عند “باطاي”، مستوحاة من قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، والتي تذكر بعض التفاسير أن سببها هو رغبة قابيل في نكاح أخته التي هي توأمه، بدلا من توأم أخيه هابيل، (والحال أن فكر باطاي مداره على موضوعين متلازمين عنده هما “الجنس” و”الموت”)(ص 55)، والصيغة الثالثة هي “الصيغة السَّدومية للأنموذج ما بعد الدهراني والإنسان المارد عند “دي ساد”، وهي مستوحاة من قصة قرية قوم لوط “سدوم” التي ورد ذكر اسمها في التوراة (ص 44)، والحال أن فكر “ساد” يدور حول “السَّدومية” وزنا المحارم. وقد وضح طه ما تحتوي عليه هذه الصيغ الثلاث من تقلب وتشويش وتناقض وأوهام وتخرصات، مبرزا ما  تتضمنه من تَعَدٍ للحدودِ ومن كشف للسوءات. مؤكدا أن القاسم المشترك بينها جميعا وبينها وبين الدهرانية هو نسيان عداوة الشيطان للإنسان(ص 38).

ومثلما فند طه مذاهب الفلاسفة فقد فند مذاهب التحليليين النفسانيين “سيغموند فرويد” و”جاك لاكان” الذين تركزت صناعتهما في التحليل النفسي على قلب القيم الأخلاقية التي تستمد أصولها من الأديان المنزلة بصورة مطردة ومنسقة: (سواء كانت حدودا مرسومة أو صفات خلقية أو مثلا اقتدائية أو معاني روحية)(ص 20)، واستبدالها بقيم المنكر الشاذة، مظهرين براعة لا تضاهى في معاكسة القيم الأصلية، ومحاولة محوها آثارها، فضلا عن وجودها.. وقد حاكم طه أفكار التحليين النفسانيين إلى منطق العقل وبراهين العلم، كاشفا ما تتضمنه من شرود وإنكار لشاهدية الإله، إثباتا لشاهدية الإنسان.

إن طه عبد الرحمن بهذا العمل الجليل في نقد المشروع الحداثي يؤسس “لعِلْمِ كلام جديد” ولمشروع فكري كبير وهام؛ ينقض مبادئ وقيم الحداثة والفلسفة الغربية من جذورها وبناها الحاكمة عند فلاسفتها وروادها الكبار. ويكشف بؤسها وشرودها الفكري، بمنطق العقل وبراهين العلم..

وإذا كان المفكرون المسلمون في القرون الأولى للهجرة (من معتزلة وأشاعرة وماترديين) قد وظفوا أدواتهم المنهجية وإبداعهم الفكري في الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد الشبهات التي تثار حولها فأسسوا بذلك “علم الكلام” وشادوا بنيانه على قواعد من المنطق مكينة صلبة، فإن الفيلسوف المغربي المسلم طه عبد الرحمن قد أسس هو من جانبه بهذا العمل لـ”علم كلام جديد” يقض بمنطق قوي الأسس التي بنيت عليها الحداثة الغربية ويكشف زيفها وما تنطوي عليه غش وخداع وتدليس.

وميزة هذا العمل من وجهة نظري من زاويتين، أولهما: أنه أول نقد علمي مؤسس للحداثة بهذا العمق وهذا الشمول والاحاطة، وثانيهما: وهو متفرع عن ما قبله أن طه لم يشغل نفسه في الرد على المثقفين العرب الذين لم يستحوا من اجترار كلام الآخرين ونقله إلى البئة العربية دون تمحيصه ودون مراعاة الفروق والمطعيات الحضارية لكل من الغرب والمسلمين، وإنما رجع إلى المنابع التي أنقلوا منها كلاهم فقوض أسسها وأبان تهافتها. وإذا بطل الأصل بان تهافت الفرع.