وقع هذا الخطاب (لَئِنْ ‌أَشْرَكْتَ ‌لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إطار إثبات دلائل التوحيد والألوهية الخالصة لله تعالى، حيث يقول الله تعالى: ﴿‌وَلَقَدۡ ‌أُوحِيَ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]، وأثبتت الآية أن الشرك مفسد للعمل وسبب للهلاك والعذاب يوم القيامة، ولا خلاف بين العلماء أن الشرك لا يقع من الأنبياء لما لهم من العصمة التي تمنعهم من الشرك أو تعاطي أسبابه، وبالفعل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد لصنم قط، فإذا كان الأمر كما ذكر، فكيف نفهم معنى الآية الكريمة؟

– قد يحمل الخطاب هنا على المعنى الظاهر، وهو النهي الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، وذلك لأنه لا يلزم من هذا النهي أن يكون الإنسان مواقعا للمنهي عنه أو متلبسا فيه، بل يصح أن يكون النهى واقعا على ذات الشيء المنهّى عنه وحده، أشبه بلافتة تشير إلى الخطر الكامن فيه، وتنبه إلى الحذر منه.. فإذا نهى النبي عن الشرك، فإنما ينهى عن أمر، ينبغى عليه أن يحذره ويتوقاء أبدا. [التفسير القرآني للقرآن (12/ 1263)]

– أن المقصود من الآية الكريمة تعريض بالمشركين الذين يحاججون النبي صلى الله عليه وسلم وينكرون عليه دعوته إلى التوحيد حسب ما يدل عليه سياق الآية التي جاءت قبلها ﴿قُلۡ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَأۡمُرُوٓنِّيٓ أَعۡبُدُ أَيُّهَا ٱلۡجَٰهِلُونَ ﴾ [الزمر: 64]، والآية التي بعدها:  فكان يقنط الكفرة ويقطع عليهم تدبيرهم أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم دين التوحيد ، فيعبد آلهتهم المعبودة دون الله، فكان من باب تصعيد الحجج على الكفرة، وتهديدهم أن محمدا يحيل عليه الكفر أو الشرك لأنه يعرف نتيجته.

يقول ابن عاشور: تأييد لأمره بأن يقول للمشركين تلك المقالة مقالة إنكار أن يطمعوا منه في عبادة الله، بأنه قول استحقوا أن يرموا بغلظته لأنهم جاهلون بالأدلة وجاهلون بنفس الرسول وزكائها. وأعقب بأنهم جاهلون بأن التوحيد هو سنة الأنبياء وأنهم لا يتطرق الإشراك حوالي قلوبهم، فالمقصود الأهم من هذا الخبر التعريض بالمشركين إذ حاولوا النبيء صلى الله عليه وسلم على الاعتراف بإلهية أصنامهم..

ثم قال: فالمقصود بالخطاب تعريض بقوم الذي أوحي إليه لأن فرض إشراك النبي صلى الله عليه وسلم غير متوقع. [التحرير والتنوير: 24/58].

– وقد يكون المراد من الآية تقدير الشرك وفرضه، وليس بواقع من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه محال، والخطاب موجه إلى النبي والذين جاؤوا قبل من الأنبياء أن الشرك لو وقع من أحد أيا كان لكان سببا في إحباط وبطلان العمل. وهذا ذهب المفسرون.

قال في صفوة التفاسير: وهذا على سبيل الفرض، والتقدير، وإلا فالرسول صلّى الله عليه وسلّم قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإقامة صرح الإيمان، والتوحيد. والكلام وارد على طريقة الفرض لتهييج سيد الرسل، وإقناط الكفرة، والإيذان بغاية شناعة الإشراك، وقبحه.

وقال النسفي: وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون؛ لأن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد: به غيره، ولأنه على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها.

وفي التفسير المنير: لقد أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل أن الإله المعبود هو الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أشرك نبي-على سبيل الفرض والتقدير-ليحبطن ويبطلن عمله، وليكونن من الذين خسروا أنفسهم، وضيعوا دنياهم وآخرتهم.

وإذا كان الشرك موجبا إحباط‍ عمل الأنبياء فرضا، فهو محبط‍ عمل غيرهم بطريق الأولى، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ‍ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام 88/ 6].

من فقه الآية الكريمة

1 – إن الذين كفروا بالقرآن والحجج والدلالات الدالة على وجود الله ووحدانيته وكمال عظمته وقدرته هم الخاسرون أنفسهم في الدنيا والآخرة. وصريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر.

2 – من العجب العجاب صدور أمرين من المشركين: أولهما-أن يطلبوا من النبي ص عبادة أصنامهم، ليعبدوا معها إلهه. وثانيهما-أنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، ولم يعظموه حق التعظيم، إذ عبدوا معه غيره، وهو خالق الأشياء ومالكها.

3 – إن الشرك والكفر محبط‍ مبطل لجميع أعمال الكفار والمشركين، ولو كانت صالحة، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة، بسبب أرضية الكفر التي قامت عليها.

والردة محبطة للعمل كذلك، فمن ارتد ومات على الكفر، لم تنفعه طاعاته السابقة، وحبطت أعماله كلها، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} [البقرة 217/ 2]. وعليه من حج ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام  قبل أن يدركه الوفاة فإنه لا يجب عليه إعادة الحج. [التفسير المنير: 24/ 52].