{وَجَعَلُواْ لِلهِ شُرَكَآءَ اَ۬لْجِنَّ وَخَلَقَهُمْۖ وَخَرَّقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۢ بِغَيْرِ عِلْمٖۖ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰل۪يٰ عَمَّا يَصِفُونَۖ} [سورة الأنعام: 100]

استهل الإمام ابن عاشور رحمه الله تفسيره لهذه الآية ببيان موقعها في السياق وأنها “انتقال إلى ذكر شرك آخر من شرك العرب، وهو جعلهم الجن شركاء لله في عبادتهم، كما جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك.

وبعد هذا الاستهلال؛ استطرد في استحضار السياق التاريخي للآية ببيان ملامح دين العرب في الجاهلية تمهيداً لتفسيرها، فقال: “وقد كان دين العرب في الجاهلية خليطاً من عبادة الأصنام، ومن الصابئية – عبادة الكواكب وعبادة الشياطين – ومجوسية الفرس، وأشياء من اليهودية، والنصرانية، فإن العرب لجهلهم حينئذ كانوا يتلقون من الأمم المجاورة لهم – والتي يرحلون إليها – عقائد شتى متقارباً بعضها ومتباعداً بعض، فيأخذونها بدون تأمل ولا تمحيص لفقد العلم فيهم، فإن العلم الصحيح هو الذائد عن العقول من أن تعشش فيها الأوهام والمعتقدات الباطلة، فالعرب كان أصل دينهم في الجاهلية عبادة الأصنام، وسرت إليهم معها عقائد من اعتقاد سلطة الجن والشياطين ونحو ذلك.

فكان العرب يثبتون الجن، وينسبون إليهم تصرفات، فلأجل ذلك كانوا يتقون الجن، وينتسبون إليها، ويتخذون لها المعاذات والرقى، ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسمية الله على بعض الذبائح. وكانوا يعتقدون أن الكاهن تأتيه الجن بالخبر من السماء، وأن الشاعر له شيطان يوحي إليه الشعر، ثم إذا أخذوا في تعليل هذه التصرفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهية الله تعالى تعللوا لذلك بأن للجن صلة بالله تعالى، فلذلك قالوا: الملائكة بنات الله من أمهات سروات الجن [أي سادتهم]، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]، وقال {‫فَاسْتَفْتِهِمُ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‬}[الصافات: 149- 152]. ومن أجل ذلك جعل كثير من قبائل العرب شيئاً من عبادتهم للملائكة وللجن.

قال تعالى: {‫وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‬}[سبأ: 40-41]…
وكان بعض العرب مجوساً عبدوا الشيطان، وزعموا أنه إله الشر، وأن الله إله الخير، وجعلوا الملائكة جند الله والجن جند الشيطان…”.

ثم شرع ابن عاشور في تفسير الآية فقال: “فقوله: {الْجِنَّ} مفعول أول {وَجَعَلُوا} و {شُرَكَاءَ} مفعوله الثاني، لأن {الْجِنَّ} المقصود من السياق لا مطلق الشركاء، لأن جعل الشركاء لله قد تقرر من قبل. و {لِلَّهِ} متعلق بـ {شُرَكَاءَ}. وقدم المفعول الثاني على الأول؛ لأنه محل تعجيب وإنكار، فصار لذلك أهم، وذكره أسبق. وتقديم المجرور على المفعول في قوله: {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} للاهتمام والتعجيب من خطل عقولهم، إذ يجعلون لله شركاء من مخلوقاته، لأن المشركين يعترفون بأن الله هو خالق الجن…”.

وبعد بيانه المقصود بالجن وأنها من جنس الشياطين، وأن القرآن أثبتها على الإجمال، ذكر أنه “كان للعرب أحاديث في تخيلها. فهم يتخيلونها قادرة على التشكل بأشكال الموجودات كلها، ويزعمون أنها إذا مست الإنسان آذته وقتلته. وأنها تختطف بعض الناس في الفيافي، وأن لها زجلاً وأصواتاً في الفيافي، ويزعمون أن الصدى هو من الجن… وأنها قد تقول الشعر، وأنها تظهر للكهان والشعراء”.

وبعد أن ذكر أن جملة {وَخَلَقَهُمْ} في موضع الحال، بين أن عودة الضمير المنصوب في {خَلَقَهُمْ} يحتمل احتمالين:

الاحتمال الأول: “أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {جَعَلُوا}، أي وخلق المشركين، وموقع هذه الحال التعجيب من أن يجعلوا لله شركاء وهو خالقهم… وعلى هذا تكون ضمائر الجمع متناسقة، والتعجيب على هذا الوجه من جعلهم ذلك مع أن الله خالقهم في نفس الأمر، فكيف لا ينظرون في أن مقتضى الخلق أن يفرد بالإلهية؛ إذ لا وجه لدعواها لمن لا يخلق… فالتعجيب على هذا من جهلهم وسوء نظرهم”.

الاحتمال الثاني: “ويجوز أن يكون ضمير {وَخَلَقَهُمْ} عائداً إلى الجن؛ لصحة ذلك الضمير لهم باعتبار أن لهم عقلاً، وموقع الحال التعجيب من ضلال المشركين أن يشركوا الله في العبادة بعض مخلوقاته مع علمهم بأنهم مخلوقون لله تعالى، فإن المشركين قالوا: إن الله خالق الجن… وأنه لا خالق إلا هو، فالتعجيب من مخالفتهم لمقتضى علمهم. فالتقدير: وخلقهم كما في علمهم، أي وخلقهم بلا نزاع”. ويرى ابن عاشور أن هذا الوجه أظهر.

ولما ذكر أن جملة {وَخَرَّقُوا} عطف على جملة {وَجَعَلُوا} وأن الضمير عائد على المشركين، وأشار إلى القراءتين في {وَخَرَّقُوا} – بتخفيف الراء وتشديدها – بين معنى الخرق في اللغة، وأنه استعمل مجازاً في الكذب، ثم قال: “فمعنى {خَرَّقُوا} كذبوا على الله على سبيل الخرق، أي نسبوا إليه بنين وبنات كذباً، فأما نسبتهم البنين إلى الله فقد حكاها عنهم القرآن هنا. والمراد أن المشركين نسبوا إليه بنين وبنات”.

ونفى ابن عاشور أن يكون المراد هنا اليهود في قولهم: عزير ابن الله، ولا النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، “كما فسر به جميع المفسرين”، نظراً “لأن ذلك لا يناسب السياق، ويشوش عود الضمائر، ويخرم نظم الكلام”.

والوجه عنده من المراد هو “أن بعض المشركين نسبوا لله البنين، وهم الذين تلقنوا شيئاً من المجوسية… ولعل بعضهم كان يقول بأن الجن أبناء الله والملائكة بنات الله، أو أن في الملائكة ذكوراً وإناثاً، ولقد ينجر لهم هذا الاعتقاد من اليهود فإنهم جعلوا الملائكة أبناء الله…
وأما نسبتهم البنات إلى الله فهي مشهورة في العرب، إذ جعلوا الملائكة إناثاً، وقالوا: هن بنات الله”.

ثم بين أن قوله تعالى {بِغَيْرِ عِلْمٍ} “متعلق بـ {خَرَّقُوا}، أي اختلقوا اختلاقاً عن جهل وضلالة؛ لأنه اختلاق لا يلتئم مع العقل والعلم، فقد رموا بقولهم عن عمى وجهالة”،

وأن الباء للملابسة، “أي ملابساً تخريقهم غير العلم، فهو متلبس بالجهل بدءاً وغاية، فهم قد اختلقوا بلا داع ولا دليل، ولم يجدوا لما اختلقوه ترويجاً، وقد لزمهم به لازم الخطل، وفساد القول، وعدم التئامه، فهذا موقع باء الملابسة في الآية الذي لا يفيد مفاده غيره”.

وأما جملة: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}، فهي “مستأنفة تنزيهاً عن جميع ما حكي عنهم…”.