أولا: نحو تجاوز الأسئلة السياقية في استشكال الفلسفة الإسلامية 

قد تبدو هذه الفاتحة الدَّاعية إلى التَّجاوز أو التَّعدي لما هو مرسوم أمرا سابقا لزمنه البحثي، ذلك أن استجماع النّتائج واستكشاف الآفاق إنما تكون في الخاتمة النّهائية  التي تقتضيها شروط البحث، إلا أنّنا في هذه الفاتحة أردنا عمدا البدء  بالخوض في شرط تعدي القراءات السَّابقة في الفلسفة الإسلامية، ليس تعديا مبنيا على التَّقوُّل أو الرَّمي بالعقم، وإنما تجاوزا من حيث طبيعة الأسئلة التي دارت حول الفلسفة الإسلامية، من قبيل : هل ثمة إبداع في الفلسفة الإسلامية ؟

هل نسميها فلسفة عربية أو نسميها فلسفة إسلامية ؟ ما حظ العقل الفلسفي الإسلامي في الإبداع الفلسفي وهل أسهم فعليا في تطوير الفكر الأوربي ؟ ماذا بقي من فكر يمكن لنا التواصل معه من تاريخ الفلسفة الإسلامية كي نربطه بإشكالات عصرنا؟

 إنها أسئلة سياقية تعكس هاجس المعاندة مع التَّقولات الاستشراقية بعقم الفلسفة الإسلامية، وتلك الأسئلة تعكس هاجس الاعتراض و بيان قيمة الفلسفة الإسلامية و التفكير العقلي الإسلامي، وكيف أن مصفوفة الفلاسفة المسلمين لهم إبداعاتهم المخصوصة وكيف أنَّهم شَقُّوا عصا الطاعة عن القول الفلسفي اليوناني، واستطاعوا أن يعيشوا تجربة التَّفلسف المخصوصة. 

وإذا كانت هذه الاعتراضات لها وجاهتها الدّفاعية في سياقها[1] ، فإن القول الفلسفي اليوم، لابد له من تغيير الأسئلة، واجتياز تلك الحدود التّساؤلية السَّابقة، وطرح أسئلة تلوح بما يناسب في الأفق من تحديات جديدة تواجه الإنسان المعاصر، ولذا فإن دراستها للفلسفة الإسلامية اليوم من اللاَّزم كما أشرنا تجاوز الأسئلة السّياقية السَّابقة، لأنها أسئلة لم تنفتح على مضمون القول الفلسفي الإسلامي، ولم تأخذ بأيدينا إلى بنية تشكّله وبنائه، بل بقيت تحوم حول قضايا دفاعية وتسويغية، تصب أخيرا في توافر الفكر الفلسفي في الإسلام؛ وأن فلاسفة المسلمين قد أبدعوا وهم من أثَّر في أوروبا، وشقَّ لها طريق النَّهضة والثورة العلمية.

وإذ عُرف هذا، فإن أقصر الأقوال وأدلّها للإشارة إلى فصل المقال في هذا الجدل من منظور معاصر ” أن الفلسفة العربية هي جزء لا يتجزأ من التاريخ الفكري للإنسانية …فهي مِثْلها مثل الفلسفة الصينية و فلسفات أخرى، هي واحدة من طرق الولوج إلى تاريخ الحقيقة التي تتقاسمها البشرية وأن يكون هناك مداخل مختلفة لا يعني أن بينها عدم اتصال…وإنما نحن نتواصل فيما بيننا ونعيش على القول المشترك “[2]

إن تدارس الفلسفة الإسلامية من منظور مشكلات وحاجات الإنسان المعاصرة : نظريا وعمليا، هو الذي يعطيها نَفَسَا جديدا، ودورا آخرا، لأنها ” عون على استعادة المبادئ المذكورة التي تنطوي وحدها على اكتشاف معنى وجودنا وغاية عملنا، كما تُعين على تحويل اللُّعبة الذهنية التي تسمى اليوم بالفلسفة إلى حب حقيقي للحكمة و الرؤية التأملية للحقيقة “[3]. وإذ تعين هذا الأمر فإنُّه يمكن صرف القول أيضا إلى  أنّ دراسة هذهالفلسفةوفق مدخل تاريخي ومنهجي، يبحث في أصول نشأة التَّفكير العقلي في الفلسفة الإسلامية، وما هي العوامل الكبرى التي أيقظت العقل عند المسلمين، وهل حركة التفكير الفلسفي في نشأتها واجهة إلى عامل واحد أم عوامل عديدة مترابطة ومتكاملة فيما بينها. وإلى هذا السؤال نمضي للإجابة، لها ثمرتها في استحسان الخوض في الفلسفة الإسلامية والسبل الكفيلة نستعيد بها قيمتها التوجيهية ونظامها الأخلاقي .

ثانيا :نشأة التّفكير العقلي عند المسلمين

التفكير العقلي جهد لصيق بتجربة الإنسان، وليس شيئا يستعار من مجتمع آخر أو بيئة أخري، فالفكر هو ميزة الإنسان وبه تميّز  عن بقية الموجودات، وأمام هذا، فلا عجب أن يكون المسلون قد فكَّروا بعقولهم في موضوعات عديدة، وبنوا مناهج لهذا التفكير  وأثمرت جهودهم علوما وفنونا وصناعات عديدة، وضمن هذا الإطار يمكن صرف القول إلى أن ” الإسلام في مسيرة تاريخه الطَّويل أنتج عددا من المفكّرين البارزين ومجموعة متنوعة من المدارس الفلسفية “[4]. وهذا يدفع بنا إلى التقاط العوامل الأساسية التي كانت دافعة لنشأة التفكير العقلي عند المسلمين :

 1- التوجيه القرآني إلى التفكّر والتدبُّر :

حوى الخطاب القرآني على دعوات واضحة إلى الإنسان، لأجل إيقاظ ملكاته الفكرية، وذلك بتحريرها من سلطان الجماعات الضّيقة ومن سلطان المرجعيات اللاَّعقلية، فكان دوي الآيات القرآنية مستفزا لعقل الإنسان ومُقو لقدراته { أولم يتفكّروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات} الروم :8 ، {يبيّن الله لكم الآيات لعلكم تتفكّرون في الدّنيا و الآخرة} البقرة: 220 ، فانطلق نحو استكشاف عالم الإنسان و عالم الطبيعة حاملا الآيات القرآنية، ومرتكزا عليها في فهم العالم وتشكيل أنساق علمية حوله.

ولذا فإن خطاب القرآن من حيث البنية خطابا آخذا بالعقل إلى المشاهدة وإلى التفكّر  وإلى إحسان العمل وإلى إعادة بناء العلاقة الصحيحة بين الله والإنسان، بعد أن تشوشت واضطربت في أنساق الأديان الأخرى ( التَّجسيم اليهودي أو التثليث المسيحي ). فضلا عن إعادة بناء مفاهيم أساسية في رؤية الإنسان إلى العالم مثل مفهوم العلم و الحكمة والعمل و الأخلاق و الدنيا ونموذج الحياة الملائم للإنسان وكيفية التعامل مع الآخر وغيرها .

وتأكيدا على الأهمية الحاسمة للفكر و العلم في الإسلام  يقول “فرانز روزنتال”في كتابه “العلم في تجلّ” مفهوم العلم في الإسلام، في القرون الوسطى: “فكلمة علم هي أحد تلك المفاهيم التي سادت في الإسلام، ومنحت الحضارة الإسلامية شكلها ولونها المتميّزين، في الواقع، لم يكن لمفهوم آخر أثر في تحديد تكوين الحضارة الإسلامية بشتى جوانبها كما كان للعلم. ويسري هذا القول حتى على الأقوى من بين مصطلحات الحياة الدينية الإسلامية، كالتَّوحيد والتَّسليم بوحدانية الله على سبيل المثال، والدين الحق وغيرهما من المصطلحات التي تستخدم على الدَّوام، وبنبرة حاسمة؛ إذ ليس منها ما يضاهي كلمة العلم في عمق المعنى وسعة الاستخدام. ولم يبق جانب من جوانب حياة المسلم الفكرية والدّينية والسياسية، أو حياة عامة المسلمين اليومية، بمعزل عن النَّظرة السائدة تجاه العلم كشيء بالغ الأهمية في وجود المسلم. فالعلم هو الإسلام، وإن تردَّد علماء العقيدة في قبول الاصطلاح على صحة هذه المعادلة، فجدالهم المحموم حول هذا المفهوم هو برهان بحد ذاته على أهميته في صميم  الإسلام.”[5].

وهذا القول يعد شاهدا قويا على أن البنية الدينية  الإسلامية لا تقطع  مع حركة العلم أو حركة الفكر، و الأقوى أنّها تتأسس عليها، فالفكر و العلم و الاعتبار و التفكّر هي المبادئ التي اجتهد وفقا لمطالبها نظام المعرفة في الإسلام.

2- الانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى :

والانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى يرجع إلى سببين هما : أوّلها. الحركة الاتساعية لعالم المسلمين والتَّشابك النَّقدي مع الاتجاهات الفكرية التي وجدوها، فكان الخطاب خطابا حجاجيا يبحث عن الحجة وعن الدَّليل لأجل إثبات صلاحية العقائد الإسلامية، ويستند إلى الآلة المنهجية التي وجدها عند الآخر كي يتّصف  خطابه بالعلمية والبرهانية؛ والمقصود هنا آلة المنطق. وتقديرا للمنطق يقول أبو الحسن العامري “إنّها آلة عقلية تكمل بها النّفس الناطقة التمييز بين الحق و الباطل في الأبواب النّظرية، وبين الخير و الشر في الأبواب العملية، ومحلّها من الأنفس المستعملة لها قريب الشّبه من محل عيار معدّل توزن به المعلومات. فإنّها هي المُراعية للسُّؤال و الجواب، و المعارضة و المناقضة والمغالطة. بل بها يُقتدر على حلّ الشّبهات وكشف التّمويهات وغير ذلك من المعاني العائدة بتحقيق الدّعاوى.

ثم يستفاد بها أيضا من اللذّة العقلية التي تصفو باستعمالها ومن الطمأنينة في المعارف ما تصير به النّفس من ذاتها أحد الدعاة إلى اقتباس الحكمة، لا لتجلب بها حمد الإخوان، بل لتغتبط بإصابة الحق من جهتها وروح اليقين “[6] و الثاني، . كان الدافع هو البحث عن الحكمة وأنّا وجدها فهو حقيق بها. ولهذا كان الانفتاح من موقع قوة ومن موقع إيمان بالبحث عن ما ينفع لدى المجتمعات الأخرى. ولأجل هذا يمكن القول أنّه “منذ بداية العصر الإسلامي، كان هناك تنوّع في مسائل الكلام والفلسفة والاعتقاد، وقد ساهم هذا التنوع في إضفاء صيغة التَّعددية في الإسلام، حتى على مستوى المذهب الفقهي الواحد، إننا وعندما نتحدث عن الإسلام لابدّ لنا من معرفة أنَّ الدين الإسلامي وعلى المستوى الفكري والعقلي والكلامي لم يؤسّس لمعرفة واتّجاه فكري واحد، بل إنَّ حالة التنوّع فيه واضحة لذي عينين، والتوحيد هو المحور الرابط بين عناصر التنوع تلك، إنَّ الإسلام وعبر القرون استطاع أن يقدّم أغنى الأطروحات الفلسفية والفكرية، بنحو يمكن معه أن يقال: إنها تعادل في عمقها وتنوعها الأفكار والأطروحات العقلية في الهند والصين والغرب المسيحي”[7].

وفضلا عن هذا، فقد تصدى فلاسفة الإسلام إلى من عاند الحكمة الآتية من بلاد اليونان، واعترض عليها بحجة اختلاف آراء الفلاسفة في مسائل العلم الإلهي و العلم الطبيعي و الرياضي و الأجزاء الأخرى من العلوم العملية، ومستلزم هذا، أن البيئة الإسلامية كان مبناها الاختلاف و ليس المطابقة، الانفتاح و ليس السياجات المغلقة، واعترضوا على المتقوّلين من دوائر علم الفقه و الحديث، أن العلوم الحكمية مضادة للعلوم الدينية، وأن من مقال إليها فقد خسر الدنيا و الآخرة ” و ليس الأمر كذلك، بل توجد أصولها (أي العلوم الحكمية) وفروعها عقائد موافقة للعقل الصّريح، ومؤيّدة بالبرهان الصّحيح؛ حسب ما توجد العلوم الملية. وعلوم أن الذي حقّقه البرهان وأوجبه العقل، لن يكون بينه و بين ما يوجبه الدين الحق مدافعة و لا عناد”[8].

هكذا، إذن ، كان الانفتاح و الإقبال على علوم الأوائل؛ عامل من عوامل اتساع الحضارة الإسلامية انطلاقا من الفلسفة، فالفلسفة ضمن هذا السياق هي التي جعلت مقالات الفلاسفة اليهود و المسيحين في تواصل دائم مع مقالات فلاسفة الإسلام كما كان الشأن في الأندلس، وهنا لابد من صرف القول إلى أن الفلسفة كما قامت بدور الانفتاح و التعدد واستطاعت أن تلون نسق الحضارة الإسلامية بالطابع النّسقي التَّعددي، فهي الآن أيضا قادرة على استعادة هذا الدور في التواصل الانفتاحي مع الفلسفة الغربية وإمكانية التحاور بمنطق  العقل السليم وآداب الحوار و المناظرة.

3- عامل التَّرجمة :

  لقد كان وعي العلماء المسلمين بأهمية الترجمة مهم جدا، فهي بوابة الفلسفة وبوابة  التَّواصل لاكتساب للعلوم، خاصة وأن الدَّولة الرسمية قد تبنّت هذا المسلك وأنشأت بيت الحكمة على عهد المأمون الذي طلب كتب الفلسفة بعد حلم رأي فيه أرسطو وكأنه يحفزه إلى أن ينقل كتب الفلسفة إلى العربية ” أوبدافع من نشأته العقلية وانتسابه لحركة الاعتزال .. وقد وجد المأمون حوله السُّريان وفي جملتهم حُنين بن إسحاق وابنه إسحاق وقسطا بن لوقا البعلبكي وغيرهم ممن حذقوا اليونانية و السريانية والعربية فكان النقل أولا من السريانية إلى العربية ثم اتجه النقل بعد ذلك إلى الترجمة من اليونانية إلى العربية مباشرة “[9].

وعندما نقلت الفلسفة وحدث خلاف حول قيمتها بحجة أن الفلاسفة بينهم الاختلاف و التَّعارض، جرى تبني طريقة أخرى هي : استبدال كلمة الفلسفة بكلمة الحكمة، و الحكمة مشتقة من أسماء الله الحسنى ” الحكيم “، وأيضا البحث في نصوص الفلاسفة خاصة بين أفلاطون وأرسطو على المشتركات العقلانية، كما أنجز ذلك الفارابي في مصنفه : كتاب الجمع بين رأي الحكيمين . وعلى الجملة استطاع المسلمون من خلال الترجمة أن يترجموا نصوص الفلاسفة اليونان، وأن يشتبكوا معها نقديا وأيضا استيعابيا، وأن يفصلوا بين القضايا الإلهية الجارية على عادات اليونان في الاعتقاد، وبين القضايا العلمية  التي تتجلى في مباحث الطبيعيات و الرياضيات و المنطقيات.[10]

4- الطَّابع الأخلاقي للشَّريعة ونشأة التصوف :

إنَّ الأخلاق في الإسلام هي مشروع الإنسان في جوانبه جميعا، وليست الأخلاق هنا أو مكارم الأخلاق إلا نظام الأسماء الإلهية أوالصفات التي يتحلىَّ بها الإنسان؛ وتكون وثيقة  الصّلة بكل حركة حياته وأنفاسه، فالأخلاق هنا هي بعدد أفعال الإنسان المتجددة واللاَّمتناهية، لأنها تتضمّن القيم الرَّوحية التي من اللاَّزم أن يتحلىَّ بها الإنسان أو يتشبه بها على قدر طاقته، وبيان هذا أنّه ” لا يصلح لولاية الدَّيان من لم يتأدّب بآداب الرحمن، ولم يتخلّق بصفات الرَّحمن، على حسب الإمكان؛ فإنّه محسن أمر بالإحسان، مفضل أمر بالإفضال، مجمل أمر بالإجمال، نافع أمر بالنّفع ، رافع أمر بالرفع، غفار أمر بالغفر، ستار أمر بالستر، جبّار أمر بالجبر، قهَّار أمر بالقهر، حليم أمر بالحلم، عليم أمر بالعلم، حكيم  أمر بالحكم، رحيم أمر بالرُّحم، صبور أمر بالصّبر، شكور أمر بالشُّكر، قًدّوس أمر بالقدس، سلام أمر بالسلام، فمن تخلّق بصفات ذاته صلح لولايته، ورضوانه[11].

وبناء على هذا المعنى الشمولي للأخلاق فإنَّ العلوم والمعارف يكون قصدها الأمتن هو المجاهدة لأجل بلوغ هذه الفضائل، لأنها تُكَمّلُ الجزء المقسوم من علاقة الأخلاق بالعلوم، الذي دخل إلى كياننا المعرفي من الموروث الفلسفي اليوناني المعروف في فلسفة الأخلاق بنظرية الفضائل؛ باعتبارها أربعة فضائل هُنَّ كالأمهات، وعنهما تتفرع الفضائل الأخرى :الحكمة والعدالة والشَّجاعة والعفة، والغاية التي تتسلسل إليها هذه الفضائل عند أرسطو هي التلذُّذُ بالسَّعادة القصوى، التي تعرف أسمى تجلّ لها في حياة التأمُّل العقلي.

وهذه الفضائل الأربعة تنحصر في الإنسان و لا تتعداه إلى الموجودات الأخرى ، بمعنى أن مفهوم الفضيلة الأرسطي غير تكاملي أو اتساعي، بينما تترسَّم دلالة المعنى الانفتاحي في السياق الثقافي الإسلامي.

هذا الاختصاص بانفتاحية الأخلاق عكس حصرها في الفضائل الأربعة كان قد تَلحّظه الأخلاقي الكبير؛  محيي الدين  ابن العربي عندما طرح سؤال الكم في عدد الأخلاق قائلا: “لما كان السؤال “كم خزائن الأخلاق؟

الجواب على عدد أصناف الموجودات وأعيان أشخاصها، فهي غير متناهية من حيث ما هي أشخاص،  ومتناهية من حيث ما هي خزائن، وسميت خزائن لكون الأخلاق مخزونة فيها اختزانا وجوديا  وإنما جعلت خزائن لما تتضمنه في حُكْمِ من اتصف بها من الصفات التي لا نهاية لوجودها. “[12]

إن المنحى الأخلاقي للشَّريعة كان له أثر بالغ في نشأة التصوف، الذي هو جزء أساسي من أجزاء الفلسفة الإسلامية، فالحاجة إلى إلباس الشَّريعة اللّباس الأخلاقي والاتصال الروحي بالأسماء الإلهية كان عاملا قويا من عوامل نشأة التصوف، ولذا لا عجب أن نجد الجرجاني يعرّف الفلسفة بأنّها ” التشبّه بالإله بحسب الطَّاقة البشرية لتحصيل السَّعادة الأبدية كما أمر الصادق صلى الله عليه وسلّم في قوله ” تخلّقوا بأخلاق الله “، أي تشبّهوا به في الإحاطة بالمعلومات و التجرّد عن الجسمانيات”[13].

وإذ عرف هذا، فإن من أقوى العوامل التي أسهمت في نشأة التفكير العقلي عند  المسلمين كما قلنا هي :

العامل القرآني الذي أعاد بناء العقل بأن حفَّز للتفكير واعتبر أن السمع و البصر و الفؤاد ( أي أدوات المعرفة ) هي مناط المسؤولية، فالإسلام يمكن أن يكون تبعا لهذا،  ضمن بنيته النّظرية والاعتيادية المنهجية، قابلا للإقرار بالعناصر الثلاثة التالية :

أ‌.  التعددية “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة” ففي داخل الإسلام نفسه، كما بينه و بين الأديان الأخرى تبرز هذه التعددية.

ب‌. الحرية : فالنّاس أحرار حيال ما يلبي مصالحهم (مشروطية المصلحة)

ت‌. الثالثة : هو إنّه يحتمل التأويل، ويطالب به”[14]

الانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى مثل الثقافة اليونانية و الثقافة الهندية واستجلاب العلوم منها قصد الانتفاع بها فيما يمكن أن نسميه بـــــــ :التكامل المعرفي و المعرفي .

عامل الترجمة، لأنها بوابة المعرفة الفلسفية مع الثقافة اليونانية و العامل المهم في تنمية التفلسف.

الطابع الأخلاقي  للشريعة، وليس الطابع القانوني ، فالشريعة تعلم الإنسان الفضائل و القيم الروحية التي يغرسها الإنسان في نفسه حتى تصبح بالنسبة له عادة وطبعا راسخا. [15]

استكشاف الآفاق 

يمكن لنا القول بأن الفلسفة الإسلامية باتت في السياق الإسلامي أكثر اتساعا وشمولية لما كانت فيه عند اليونان، فهي الحكمة التي تتحاور مع الدّين، وتتحاور مع الوجدان وتبني النُّظم السياسية المنشودة، وتطورالآلة المنطقية الفطرية المختلفة عن الآلة المنطقية اليونانية[16]، كما أنها لا تتكبَّر عن العامة في فضائهم الاجتماعي ، وإنما تدعو إلى استعمال الفلسفة في الفضاء العمومي، كما أنها انفتحت على الشعر و على الرواية واستطاعت أن تبتكر الرواية الفلسفية كما هو الشَّأن مع ابن طفيل، واستطاعت أن تبتكر سلوكا للفيلسوف الذي لا ترحب به مدينته: كيف يُدبّر وحدته  كما خلّد ذلك ابن باجة في رائعته ” تدبير المتوحّد”.

وهكذا، فإنّه لازال في الفلسفة الإسلامية من إمكانات تحتاج إلى استخراجها وجمعها ونشرها، كي نجد الفلسفة في ذواتنا وفي مكنونا الرُّوحي المفقود اليوم.


[1] أنظر مثلا ، كتاب مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مصر : مكتبة الثقافة الدينية، 2005.

[2] بنمخلوف، علي، لماذا نقرأ الفلاسفة العرب، ترجمة، أنور مغيث، القاهرة: آفاق للنشر و التوزيع، 2018، ص  09/ 10.

[3] نصر سيّد حسين، الفكر و الحياة الإسلامية، ترجمة عمر نور الدين، القاهرة : آفاق للنشر و التوزيع، 2019، ص 231

[4] إيزوتسو، توشيهيكو مفهوم الوجود وحقيقته، ترجمة ، علي عيسى العاكوب، سوريا : نينوى، 2019، ص 22.

 [5] رونتال، فرانز، العلم في تجلّ، مفهوم العلم في الاسلام، في القرون الوسطي، ترجمة، يحيى القعقاع، إخلاص القنانوة، بيروت : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019. ص18.

[6] العامري، ابو الحسن، كتاب الإعلام بمناقب الاسلام، تحقيق عبد الحميد غراب، المملكة العربية السعودية، 1988، ص 91.

 [7] نصر، سيّد حسين قلب الإسلام، القيم الخالدة من أجل الإنسانية، تعريب، داخل الحمداني، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2009م، ص90.

 [8] العامري ،  الإعلام بمناقب الإسلام، أبو الحسن، مصدر ، ص 83

 [9] النشار، علي سامي، أبو ريان، محمد علي، قراءات في الفلسفة،  مصر : الدار القومية والنشر، 1967، ص 294.

 [10] للاستزادة حول حركة الترجمة ودورها في تطوير الفكر الفلسفي الإسلامي أنظر المقال الإلكتروني الآتي :

http://nama-journal.com/images/files/nama0405/ملف/4.pdf

 [11] العز بن عبد السلام، شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، ص 22.

[12]الفتوحات المكية، محي الدين ابن العربي،(1/72(.

 [ 13] الجرجاني، الشريف بن علي، كتاب التعريفات، بيروت : دار الكتب العلمية، 169.

 [14] تيزيني، طيب، التصوف العربي الإسلامي، قراءة في الحضور الوجودي و الاستحقاق القيمي، سوريا: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، 2011، ص 6.

 [15] أنظر كتاب، حلاق وائل، ما هي الشريعة، ترجمة طاهرة عامر، طارق عثمان، بيروت : نماء 2016.

 [16] أنظر، ابن تيمية، مختصر نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان (جهد القريحة في تجريد النصيحة) اختصره، السيوطي، الحافظ جلال الدين،  في كتاب : حلاق وائل، ابن تيمية ضد المناطقة اليونان، ترجمة، عمرو بسيوني، بيروت : ابن النديم للنشر و التوزيع، دار الروافد، ناشرون، 2019 م.