نوح عليه السلام هو أول رسل الله تعالى الذين بعثوا إلى الناس رحمة لهم وسفراء الخير، يدعون إلى التوحيد الخالص ويأمرون بالعبادة، وينهون عن الشرك والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وقد مكث نوح عليه السلام يدعو قومه أَلف سنة إلا خمسين عامًا، يعدهم بالجنة والسعادة في حياتهم إذا آمنوا، وينذرهم بأس الله وانتقامه لمن أشرك به، وكذب رسله، ومع ذلك لم يؤْمنْ به إِلا قليل، وكان نوح عليه السلام من أُولي العزم من الرسل، وكان في زمنه شاع الكفر وذاع، وقد اشتهر قومه بعباده الأَوثان، والمبالغة والتمادي في البغي والظلم والعصيان.

وفي التهذيب للنووي: وكان نوح أَطول الأَنبياء عمرًا، وقيل: إِنه أَطول الناس جميعًا عمرًا مطلقًا، وهو – على ما قيل – أَول من شرعت له الشرائع، وسنت له السنن، وأَول رسول أَنذر على الشرك، وأَهلكت أُمته، ويقول ابن كثير: الحق أَن آدم – عليه السلام – كان رسولًا أرسل إِلى زوجته ثم إِلى بنيه، وكان في شريعته الإِنذار على الشرك، ويقال لنوح: شيخ المرسلين، لأَنه أَطولهم عمرًا، وآدم الثاني.  

قال ابن كثير: نوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة، والكفر فبعثه الله رحمة للعباد فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض، كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة، وكان قومه يقال لهم بنو راسب.

وكان بين مولده  ووفاة آدم عشرة قرون، كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان في صحيحه: حدثنا محمد بن عمر بن يوسف، حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، سمعت أبا سلام، سمعت أبا أمامة «أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: نعم. مكلم. قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون»[1].

وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.

ولعل المراد بالقرن في الحديث الشريف الجيل من الناس[2]،  فالقرن يطلق أحيانا ويراد منه مئة سنة، وقد يراد منه قوم عاشوا في زمن واحد مقترنين، مأخوذة من الاقتران، كما في قوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} [الإسراء: 17] . وقوله: {ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} [المؤمنون: 31] . وقال تعالى: {وقرونا بين ذلك كثيرا} [الفرقان: 38] . وقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} [مريم: 74] . وكقوله عليه السلام «خير القرون قرني».

فقد كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوف من السنين[3].

قصة نوح عليه السلام  ودعوته لقومه

ما هي قصة نوح في قومه؟

في حياة نبي الله نوح عليه السلام بدأ التاريخ الجديد، وذلك بعد حادثة الطوفان، التي حكى عنها القرآن الكريم بشكل واضح يطرد الشك والارتياب الذي وقع في الكتب السماوية الأخرى، وذكر الله قصة نوح عليه السلام وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من كتابه العزيز في الأعراف، ويونس، وهود، والأنبياء، والمؤمنون، والشعراء، والعنكبوت، والصافات، واقتربت. وأنزل فيه سورة كاملة التي هي سورة نوح.

فقال في سورة الأعراف: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين} [الأعراف: 59]

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء: 17]

قال ابن عاشور: وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول، واعتبر القصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم.

وقال الزحيلي في تفسير الآية: فيها دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح كانت على الإسلام، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.

وجملة ما وقع بين نبي الله نوح عليه السلام وقومه مأخوذا من الكتاب والسنة الصحيحة، أن الانحراف بدأ في زمن نوح عليه السلام، حيث عبد قومه الأصنام، وهذه الأصنام كانوا رجالا صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت. قال ابن عباس: وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد.

وحكى القرآن الكريم عن هذه الحالة التي آلت إليها الأمور في زمن نوح عليه السلام، حيث كان كبراء القوم وساداتهم يأمرون المستضعفين أن يوجههوا عبادتهم إلى هؤلاء الرجال الصالحين الذين اتخذت لهم أصنام وآلهة من دون الله تعالى، يقول الله تعالى: ﴿‌وَقَالُوا ‌لَا ‌تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: 23].

وكانوا يغرون أتباعهم على مخالفة نوح وعصيان أوامره وأقواله بقولهم: لا تتركوا عبادة آلهتكم، وتعبدوا رب نوح، ولا تتركوا بالذات عبادة هذه الأصنام التي انتقلت عبادتها إلى العرب وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر. فكانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر.

وما كان من قوم نوح من تصوير صالحيهم وما جعلوا لهم من أنصاب، ثم ما تلا ذلك من التقديس في النوادي والمجالس، حتى عبدوا هذه الأصنام دون الله، جاء النهي عن ذلك لما قد ينطوي عليه من الخطر والفساد على عقيدة الناس، فإنه يحرم صناعة الأصنام لأي شيخص كائنا من كان، جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية. فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل».

وبعد ظهور الفساد في الأرض، وانتشر عباد الأصنام، وعم البلاء البر والبحر، بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: «فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا، فيقول: ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح.

فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل فيقول: ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله. نفسي نفسي».

ما هي رسالة نوح عليه السلام إلى قومه؟

كانت رسالة نوح عليه السلام لقومه أنه دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن لا يعبدوا معه صنما، ولا تمثالا، ولا طاغوتا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته، كما قال تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77] . وقال فيه، وفي إبراهيم: {وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26] . أي: كل نبي من بعد نوح فمن ذريته، وكذلك إبراهيم.

ودعا نوح قومه وحرص على هدايتهم، لكن قومه عصوه وتمردوا عليه، بالرغم من تغيير أساليب الدعوة، والوعد بإنزال الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين، وتخصيص الجنات والأنهار، وبالرغم من إقامة الأدلة على عظمة الله وقدرته، من خلق الإنسان على أطوار، وخلق السموات السبع الطباق، وتزيينها بالشمس والقمر، وجعل الأرض ممهدة كالبساط‍.

قال الله تعالى: {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)}  [نوح].

ونجد أن نوحا عليه السلام استخدم أساليب متنوعة في دعوة قومه إلى الله تعالى كما هو ظاهر في الآيات الكريمات.

كان لدعوته ثلاث مراتب:

  1. بدأ بالمناصحة في السر ليلا ونهارا، ففروا منه.
  2. ثم ثنى بالمجاهرة؛ لأن النصح بين الملأ تقريع وتغليظ‍، فلم يؤثر.
  3. ثم جمع بين الأمرين: الإسرار والإعلان، كما يفعل المجتهد المتحير في التدبير فلم ينفع. ومعنى {ثم} الدلالة على تباعد الأحوال، وتفاوت درجة الأسلوب، لأن الجهار أغلظ‍ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ‍ من إفراد أحدهما[4].
ما هي شبهات قوم نوح؟

أنكر قوم نوح على نبيهم الذي أرسل إليهم إنكمارا شديدا، وقد اعتمدوا على بعض الحجج الواهية يدافعون عنها، وأكثروا في الجدال، وهذه الشبهات ذكرها القرآن الكريم وهي كما يأتي:

الأولى- إنكار كون النبي أو الرسول بشرا مماثلا لغيره في البشرية، ومساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى، ومتصفا بصفات تجعل له منزلة عليا ودرجة رفيعة وعزة سامية ، واتهموه بناء عليه بطلب الزعامة والرئاسة والترفع والسيادة عليهم.

الثانية- طلب أن يكون النبي ملكا، فلو شاء الله إرشاد البشر، لوجب إرسال ملك من الملائكة يحقق المقصود بنحو أفضل وأسرع وأنجع من بعثة البشر؛ لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ينقاد الناس إليهم.

الثالثة- الخروج عن سنة الآباء والأسلاف، فهم لا يعرفون غير التقليد واتباع سلوك الآباء، فلما وجدوا في طريقة نوح عليه السلام خروجا عن المألوف، حكموا ببطلان نبوته.

الرابعة- اتهامه من قبل الرؤساء بالجنون، للترويج على العوام، بسبب فعله أفعالا على خلاف عاداتهم، ومن كان مجنونا لا يصلح أن يكون رسولا.

الخامسة- الصبر عليه وتركه لعاديات الزمان، فإنه إن كان نبيا حقا، فالله ينصره ويقوي أمره، وحينئذ يتبعونه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره، فحينئذ نستريح منه.

قال الزحيلي: ولم يجب الله تعالى عن هذه الشبه لسخافتها وسطحيتها، فإن جعل الرسول من جملة البشر أولى، لما بينه وبين غيره من الألفة والمؤانسة؛ وإن قصد الزعامة والسيادة يتنافى مع سمو الأنبياء، فهم منزهون عن هذه المقاصد الدنيوية الزائلة؛ وأما التقليد فهو دليل القصور العقلي، وتعطيل موهبة الفكر والرأي الحر؛ وأما اتهامه بالجنون فيناقضه أنهم كانوا يعلمون بداهة كمال عقله ورجاحة رأيه؛ وأما التربص به إلى حين ففي غير صالحهم؛ لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته بالمعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، وإن لم يأت بمعجزة فلا يقبل قوله[5].

الطوفان بعد الإنكار الشديد

وضحت الآيات السابقة بعبارات دقيقة نوع الإعراض والعناد الذي عاناه نوح عليه السلام من قومه استكبارا منهم، وأن نوحًا – عليه السلام – كان كلما دعاهم إِلى دين الحق ليظفروا بمغفرة ربهم عطَّلوا مسامعهم عن سماع الدعوة فجعلوا فيها أصابعهم على الكناية أَو على الحقيقة. وبالغوا في التغطي بثيابهم كراهة النظر إِليه، ولئلا يعرفهم فيدعوهم إِلى ترك الكفر الذي أَقاموا عليه، وتمسكوا به، واستكبروا عن اتباعه – عليه السلام – والانقياد لدعوته استكبارًا عظيمًا ليسوا أَهلا له[6].

وقد تطاول الزمان، والمجادلة بينه وبينهم، كما قال تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} [العنكبوت: 14] . أي: ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم، وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به، ومحاربته، ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه وصّاه فيما بينه وبينه أن لا يؤمن بنوح أبدا، وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق، ولهذا قال: {ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} [نوح: 27] . ولهذا قالوا: {يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين} [هود: 32][7].

وهنا جاء وحي الله تعالى إلى نوح عليه السلام {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} [هود: 36] . وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، وتسلية له عما كان منهم إليه {فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} [هود: 36] . أي: لا يسوأنك ما جرى فإن النصر قريب، والنبأ عجيب.

بالغ قوم نوح عليه السلام في التكذيب والعناد، والإصرار على الكفر والإعراض، حتى صار لهم سجية يعرفون بها، بل لا يتوقف جحودهم في الدنيا، بل يتمادون في الكفر حتى يوم القيامة، وهو أمر غريب فعلا، وقد جاء في صحيح البخاري: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء نوح عليه السلام، وأمته فيقول الله عز وجل: هل بلغت. فيقول: نعم. أي رب. فيقول لأمته: هل بلغكم. فيقولون: لا ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح: من يشهد لك. فيقول: محمد وأمته. فتشهد أنه قد بلغ. وهو قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143] ».  

ثم طلب نوح عليه السلام النصرة من مولاه العظيم، وهو مطلع على كل ما يجري معه في قومه، فاستجاب الله دعوته ونصره على الظالمين، ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: 26-27].

وكانت صناعة السفينة بأمر الله تعالى وعنايته، وكان وعد الله لنبيه مفعولا، أمره الله تعالى {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [هود: 37].

ثم جاءه أمر ثان، حين حل البأس ووقع العذاب، قال الله تعالى: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} [هود: 40]، وذلك الأمر عند حلول النقمة بهم أن يحمل في السفينة من كل صنف من الحيوان زوجين اثنين، ذكرًا وأُنثى حتى لا تنقرض الأنواع، أَما الأَنواع التي أَمره الله بحملها معه فلم نعلم أَنه ورد في تحديدها نص صريح يوثق به[8].

وقوله تعالى: {وفار التنور}، آية من الله تعالى ومعجزة للنبي نوح عليه السلام، إيذانا بحلول موعد العذاب، فقد ظل نوح عليه السلام يصنع السفينة ويسمع سخرية الساخرين واستهزاءَ المستهزئين من قومه، حتى إذا أَتم صنعها وحل قضاءُ الله وتدفقت ينابيع الماء من مكان غير مأْلوف وهو “جوف الفرْن”، وهطل المطر من السماء مدرارًا. وحمل معه في السفينة أهله جميعًا إِلَاّ مَن حقَّ علم الله – قضاءُ الله – بالهلاك مع الكفار لأَنه منهم، ومن سبق عليه القول من أَهله هم: ابنه وزوجته، وحمل معهم كذلك الذين استجابوا للدعوة من المؤمنين، وهم عدد قليل.

قال تعالى: ﴿‌فَفَتَحْنَا ‌أَبْوَابَ ‌السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ [القمر: 11-13]. فكان الماء ينزل من السماء صبا، ويتفجر من الأرض، بشكل كثير، وفي هذا كناية عن كثرة الأَمطار وشدة انسيابها من السحاب حتى كأَنها أنهار تفتحت بها أبواب السماء، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وفجرت الأَرض عيونًا بأَن جعلت كلها كأَنها عيون متفجرة، وهذا أَبلغ في الدلالة على كثرة الماءِ وغزارته. وقد اشتد بهم الهول، وعظم الفزع حينما التقى ماء السماء وماء الأَرض على حال قدرت وسويت، فقد قدره الله في اللوح المحفوظ وهو إهلاك قوم نوح بالطوفان.

هذه قصة نوح عليه السلام في قومه قبل وبعد الطوفان، فقد وصفه الله تعالى بأنه كان كثير الشكر لنعم الله عليه، قال الله تعالى: (إنه كان عبدا شكورا). قيل: إنه كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله.