قد تمثل الأحاديث الآمرة بالإنصات لخطبة الجمعة شيئا من الاستغراب، وبخاصة إذا وصل فهم الفقهاء لهذه الأحاديث أن يروا أن التحدث أثناء  خطبة الجمعة ممنوع حتى لو كان بذكر الله، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ويمكن تصنيف هذه الأحاديث إلى المجموعات التالية :

المجموعة الأولى: أحاديث تحث على حضور الخطبة من أولها ؛ حتى لا يفوت منها جملة واحدة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ” إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشا، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم، و جاؤوا يستمعون الذكر» [ رواه الشيخان].

المجموعة الثانية : أحاديث تحث على الاقتراب من الإمام حتى يتمكن من السماع الجيد، وبخاصة أنه لم تكن ثمة مكبرات للصوت، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ” من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، ولم يلغ واستمع: كان له  بكل خطوة أجر عمل سنة: صيامها، وقيامها» . أخرجه أبو داود.

المجموعة الثالثة : ترتب الأجر على من سمع وأنصت، واتخذ مكانا يمكنه من الاستماع الجيد، وأما من لم يفعل ذلك فليس له أجر ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «يحضر الجمعة ثلاثة نفر، فرجل حضرها يلغو، فذلك حظه منها، ورجل حضرها بدعاء، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام…» أخرجه أبو داود بسند حسن.

وفي بعض الأحاديث التي تحدثت عن البحث عن المكان الذي يمكن من السماع الجيد: “فإذا جلس مجلسا يستمكن فيه من الاستماع والنظر، فأنصت ولم يلغ، كان له كفلان من الأجر، فإن نأى حيث لا يستمع، فأنصت، ولم يلغ، كان له كفل من الأجر” رواه أحمد وأبو داود وضعفه الألباني.

المجموعة الرابعة: أحاديث تأمر بالصمت، وتحث عليه، وترتب عليه الثواب الجزيل، من ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام” [ رواه مسلم]

المجموعة الخامسة:  أحاديث تأمر بعدم التشويش على الآخرين حتى يتمكنوا من الإنصات، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ”  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب الله له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» . [رواه البخاري].

ومنها : «من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب امرأته – إن كان لها – ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينها، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا» أبو داود. فهذه المجموعة تنهى عن تخطي الرقاب، وعن التفريق بين الاثنين لما في هذه الأعمال من التشويش عليهم وقطع عملية التواصل بينهم وبين استماع الخطيب.

المجموعة السادسة: أحاديث تنهى عن الاشتغال عن سماع الخطبة ولو باللعب في حصى المسجد، وهذا ما يستدعي درجة من التركيز العالية، والإقبال الكلي على سماع الخطبة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ”  ومن مس الحصا فقد لغا”  رواه مسلم.

الذكر حرام

وفي ضوء هذه الأحاديث تكونت اتجاهات الفقهاء في حكم استماع الخطبة؛ فذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والأوزاعي إلى وجوب الاستماع والإنصات، وهو ما ذهب إليه عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود ، حتى قال الحنفية: كل ما حرم في الصلاة حرم في الخطبة، فيحرم أكل، وشرب، وكلام، ولو تسبيحا، أو رد سلام، أو أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر.

واستثنى المالكية أيضا: الذكر الخفيف إن كان له سبب، كالتهليل، والتحميد، والاستغفار، والتعوذ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم اختلفوا في وجوب الإسرار بهذه الأذكار الخفيفة.

وذهب الحنابلة والشافعية إلى أن للبعيد الذي لا يسمع صوت الخطيب أن يقرأ القرآن، ويذكر الله تعالى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يرفع صوته، لأنه إن رفع صوته منع من هو أقرب منه من الاستماع، وهذا مروي عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وعلقمة بن قيس، وإبراهيم النخعي .

ومن الأدلة التي تبين بشكل مباشر أن طلب  العلم ولو عن القرآن لا ينبغي في أثناء الخطبةـ هذا الحديث :” بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ قال أبو ذر لأبي بن كعب: متى أنزلت هذه السورة؟ فلم يجبه ، فلما قضى صلاته ، قال له: مالك من صلاتك إلا ما لغوت ، فأتى أبو ذر النبى صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال: صدق أبي “[أخرجه الطيالسى (2365) وإسناده حسن.]

الاستماع الفعال

فاشتملت هذه الأحاديث على تهيئة جو يُمَكِّنُ الحضور من سماع الخطبة، وأن سماع الخطبة ليس عملا سلبيا، بل الاستماع نشاط إيجابي وليس نشاطا سلبيا. وكلما كان الاستماع فعالا كلما كان أفضل. ومن ثم يتمايز المستمعون بمقدار ما بذلوه من جهد في الاستماع للوصول إلى الكلمة سليمة على النحو الذي نُطقت به.

ثم يتمايز المستمعون بعد وصول الكلمة سليمة إلى الآذان بمقدار ما يبذلونه من جهد للوصول إلى المعنى الذي يقصده الخطيب، وهذا يستلزم شدة الانتباه والإصغاء الكلي إلى سياق الكلمة وسباقها ونبرة إلقائها، فالنبرة تحدد ما إذا كان المراد استفهاما أو إخبارا أو استهزاء أو غير ذلك.

الاستماع ليس عملا سلبيا

ثم هذه الأحاديث الآمرة بالصمت وحسن الاستماع، أرادت كذلك أن تنسف فكرة أن الاستماع نشاط سلبي بينما التكلم هو النشاط الإيجابي، من حيث أن المتكلم هو الذي يقوم بجهد، فأتت هذه الأحاديث لتبين أن ثمة جهودا مطلوبة من المستمع لتجعل استماعه إيجابيا.

إن القارئ أو المستمع هو أكثر شبها بمن يتلقى الكرة في لعبة البيسبول؛ فالتقاط الكرة هو فعالية مثله مثل قذف الكرة وضربها.

فن التقاط الكلمة

وإن قاذف الكرة مثله مثل المتحدث أو الكاتب يقوم بفعالية تبدأ به الكرة حركتها، بينما الملتقط أو المستمع أو المتلقي للكرة يقوم بفعالية إنهاء حركة الكرة، ومن هذا المنطلق فإن كلا الفعلين إيجابي رغم اختلافهما. وكذلك المستمع والقارئ مثلهما مثل ملتقط الكرة يقومان بنشاط إيجابي هو التقاط واستقبال الكلمة.

وإذا كان التقاط الكرة يحتاج إلى مهارة وفن، فكذلك الاستماع والقراءة فن إمساك الكلمة على أفضل وجه ممكن. ونجاح كل من القاذف والملتقط متوقف على المدى الذي يتعاونان من خلاله. [ انظر كتاب : كيف تقرأ كتابا، ترجمة طلال الحمصي، ص 17، وما بعدها.

المستمع ورفاهية الوقت

وإذا كان المستمع والقارئ يشتركان في وجوب التحلي بالإنصات الإيجابي حتى يتمكنا من الإفادة، فإن المستمع أشد حاجة إلى هذا الوجوب؛ لكونه لا يتمكن من استرجاع الكلمة أو الجملة، ولكونه لا يملك وقتا طويلا للتفكير في معنى الجملة التي يستمع إليها، وإلا فاتته الجمل التالية، بخلاف القارئ الذي يملك رفاهية استرجاع الجملة مرة ومرات، ويملك رفاهية التفكير المتأني في معنى الجملة المقروءة، وذلك كله اقتضى من مستمع الخطبة أن يقبل بكليته على الخطيب ليحصل على أكبر إفادة ممكنة من السماع.