نصادف في بعض كتب الفقه القديمة والحديثة أن الربا نوعان : ربا ديون، وربا بيوع، وأن ربا الديون محرم قصدًا، وربا البيوع محرم وسيلةً، أي سدًا للذريعة. يقول محمد أبو زهرة: الربا الأصلي المحرم لذاته هو ربا النسيئة الذي ذكره القرآن الكريم، ولم يختلف فيه أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الفقهاء المجتهدين ولا غيرهم في أي عصر من العصور، والعلة في تحريم الفضل والنَّساء هو سدّ الذريعة إلى الربا الأصلي ( بحوث في الربا ص 85 ).

قد يصح هذا إذا كان المراد من ربا البيوع التوصل إلى ربا القروض. غير أنه يمكن القول بأن ربا النَّساء، كربا النسيئة، محرم قصدًا، وليس سدًا للذريعة. وظاهر كلام ابن القيم يفيد ذلك، لأنه تكلم عن ربا الفضل، ولم يتكلم عن ربا النَّساء إلا بمعنى النسيئة ( انظر إعلام الموقعين 2/134 و 138 ).

ففي مبادلة ذهب بذهب مساوٍ له مثلاً، يُمنع النَّساء إذا كانت المبادلة بيعًا، لأن الذي قبض البدل المعجل قد أربى على الذي قبض أو سيقبض البدل المؤجل. لكن إذا زيد في البدل المؤجل، سواء كانت المبادلة قرضًا أو بيعًا، أمكن القول بأن ربا النَّساء مع ربا الفضل صار ذريعة إلى ربا النسيئة. وهذا ينطبق على مبادلة المتجانسَيْن ( مثل ذهب بذهب ) والمتقاربَيْن ( مثل ذهب بفضة )، ولا ينطبق على مبادلة المختلفَيْن ( مثل ذهب بقمح )، حيث يجوز الفضل والنَّساء، ويجوز كذلك الزيادة في الفضل لأجل النَّساء، لأن هذه المبادلة صارت بيعًا عاديًا، ولم تعد بيعًا ربويًا أو مشبوهًا، مقيدًا بأحكام الربا.

هذا القول بأن ربا النَّساء لم يحرم سدًا للذريعة قد يؤيده الحديث النبوي القائل بأن لا ربا إلا في النسيئة، أو إنما الربا في النسيئة، إذا أخذت النسيئة بمعناها الذي يشمل النسيئة والنَّساء. وقد يستنبط هذا من الحديث النبوي القائل بأنه لا ربا فيما كان يدًا بيد. فالنَّساء هو خلاف ما كان يدًا بيد. ألا تذكر الحديث الذي ذكرناه أعلاه ورواه البخاري: ” إن كان يدًا بيد فلا بأس، وإن كان نَساءً فلا يصلح “. وربما تكون هناك رواية أخرى : ( لا ربا إلا في النَّساء )، وعندئذ يكون كل من النسيئة والنَّساء محرمًا تحريمًا أصليًا لذاته، وليس لسدّ الذريعة، كما فهم البعض.

أهمية ربا النَّساء

ربا النَّساء عند الفقهاء هو فضل التعجيل على التأجيل، أو فضل الحلول على التأخير، أو فضل العين على الدَّين. وهذا يعني أن المعجل خير من المؤجل، إذا تساويا في القدر والنوع. فكما أن للقدر والنوع ثمنًا فإن للزمن أيضًا ثمنًا أو حصة من الثمن. فالتساوي بين البدلين لا يتم بمجرد التساوي بينهما في الكمّ والنوع، بل لابد أيضًا من التساوي بينهما في الأجل أو في الزمن. فإذا كان هناك مبلغان متساويان في المقدار ولكنهما مختلفان في الزمن، فإن قيمة البدل المعجل منهما أعلى من المؤجل على الرغم من التساوي بينهما في المقدار.

فبالاعتماد على فهمنا لربا النَّساء توصلنا إلى قيمة الزمن والتفضيل الزمني  والقيمة الزمنية للنقود أو للمال. وهي مسألة مهمة جدًا في الفقه والاقتصاد معًا. فعليها بُني أيضًا بيع التقسيط وما انطوى عليه من زيادة في الثمن لأجل الزمن. ومن هذه المسألة نفسها استنبطنا أهمية الزمن في تقويم المشروعات. وبالاعتماد عليها يمكن التوصل إلى مؤشر أو معدل للحسم أو الحطيطة أو الوضيعة لأجل أن نحسب في نقطة زمنية واحدة القيم الحالية للمشروعات البديلة لتسهيل المقارنة بينها والترجيح، فلا يمكن ذلك إلا بهذه الطريقة الرياضية.

وبالرجوع إلى هذه المسألة أيضًا أدركنا أهمية التفريق بين معدل الفائدة ومعدل الربح، وأهمية الفرق بين الفائدة والربح من الناحيتين العلمية والعملية. ومن هذه المسألة أيضًا يتبين لنا أن مفهوم الفائدة أو الربا في الفكر الغربي، وفي الفقه الإسلامي ( من خلال البيع الآجل )، مفهوم أساسي لا يُستغنى عنه لدى الفريقين، وإن اختلف الفريقان في مدى الأخذ به، فالغربيون أخذوا به حتى في القرض، والمسلمون أخذوا به في البيع الآجل دون القرض.

 


* مأخوذ من دراسة “النَّسيئة والنَّساء هل هما بمعنى واحد ؟” تأليف د. رفيق يونس المصري.