عاش الإمام أبو الأعلى المودودي رحمه الله في بيئة تتنازعها مجموعة من الأفكار المتناقضة، فهي من جانب يشتهر فيها الاهتمام البالغ بدراسة كتب الحديث والتعمق في معرفة رجالها وطرق أسانيدها، وينتشر فيها من جانب آخر المذهب الحنفي بما يحمل من عقلانية ومن اعتداد بالرأي، والطرق الصوفية بما تحمل من روحانية ومن بدع وخرافة في نفس الوقت، كما أن احتكاكها المبكر بالثقافة الغربية عن طريق الاحتلال الانجليزي جعل للثقافة الغربية فيها أنصارا يشايعونها ويروجون لها، ويهاجمون من يناصبها العداء ويصفونه بالرجعية والتخلف.

وقد أدرك الإمام المودودي–وهو العالم المتمكن من علوم الشريعة والتراث الإسلامي، والمثقف المطلع على الفلسفة والأفكار الحديثة – أن التراجع الحضاري الذي تشهده الأمة يرجع إلى عاملين أساسين:

أحدهما داخلي (وهو فكر عصور الانحطاط وتخلف العقل المسلم أو ما يطلق عليه المودودي “التجاوب الجمودي”)، والآخر خارجي (وهو فكر الذوبان والالحاق الثقافي أو ما يطلق عليه المودودي “التجاوب الإنفعالي”). ولذلك كانت رؤيته للإصلاح تشتبك مع تيارين متناقضين: أحدهما نصير الفكر الخرافي ومدرسة الجمود والإنغلاق، والثاني نصير الفكر الحداثي ودعوات الذوبان والاستلاب الحضاري.

وكان المودودي يدرك بشكل واضح أن خطر فكر “الجمود والإنغلاق” على الأمة لا يقل عن خطر فكر “الإلحاق والاستلاب الحضاري”، لأنه يسلب الشريعة أبرز سماتها، وهي المرونة ومسايرة الزمان، ويظهرها شريعة شوهاء غير قادرة على مواكبة التطورات.

الداء والدواء

حمل المودودي بقوة على تيار الجمود، منتقدا عليهم تعطيلهم لملكة التفكير التي هي أساس التكريم الإلهي لبني آدم، ومناط التكليف وتَوَجُّه الخطاب الشرعي، واكتفاءهم بترديد ما أنتجه السابقون من أفكار ورؤى أفرزها سياق زماني تغير، مبينا أن “الذين لا يستعملون عقولهم وأفهامهم، ولا يميزون بأنفسهم بين الصحيح والزائف، بل يقلدون غيرهم تقليدا أعمى، هم في نظر القرآن: {صم بكم عمي فهم لا يعقلون}”.

كان المودودي يدرك بشكل واضح أن خطر فكر “الجمود والإنغلاق” على الأمة لا يقل عن خطر فكر “الإلحاق والاستلاب الحضاري”، لأنه يسلب الشريعة أبرز سماتها، وهي المرونة ومسايرة الزمان، ويظهرها شريعة شوهاء غير قادرة على مواكبة التطورات.

فالعقل هو أداة التفكير لدى الإنسان ولم يعط لنا لكي نعطله، “وإنما أوتينا العقل لأجل أن نميز بين الخير والشر في هذه الدنيا ونفرق الصحيح من الزائف باختبارهما على المحك

وينبه المودودي هنا إلى أن ما آل إليه أمر الأمة من عجر وتراجع حضاري إنما سببه الانحطاط “الديني والخلقي والفكري، الذي كنا متردين فيه من قرون عديدة”. وهذا التردي إنما هو تجل لتخلف الذهنية ولتعطيل ملكة التفكير التي هي أساس الابتكار والتجديد. وما دمنا نتساوق مع دعوات تعطيل العقل وتجميد التفكير فلا يرجى منا أن نُزيحَ “تلاميذ الغرب وصنائعه وبطانته عن محل الصدارة”.

ولذلك فلا سبيل لمن يريد للأمة استعادة دورها الحضاري من تجاوز الرؤية التقليدية التي يطرحها تيار الجمود، وإطراحها جانبا، وتفعيل العقل المسلم وإحياء التجديد؛ فهو الضامن لتجاوز التخلف والانحطاط. وعمل التجديد في العصر الحديث يتطلب قوة اجتهادية جديدة، ترجع إلى الكتاب والسنة، و”لا تتقيد بمآثر أحد بعينه من المجتهدين الماضين، ولا تنحصر في طريقه ومنهاجه دون غير، وإن اقتبست من كلهم ولم تتحام أحدا منهم”.

وليست عملية التجديد بالنسبة للمودودي مقتصرة على إحياء الفقه الإسلامي ونفض الغبار عنه، وتخليصه مما اعتراه من أفهام مغلوطة وأفكار منحرفة فحسب؛ بل إن التجديد ينبغي أن يطال التربية أيضا، لينقيها من “لغة الصوفية واصطلاحاتهم ورموزهم وإشاراتهم ولباسهم وعاداتهم، وسلسلة البيعة والاتباع المعمول بها عندهم، إلى كل ما يُذَكر بطريقتهم.

وينبغي أن يطال التجديد كذلك مناهج التعليم وأساليبه، ليخلصها من النمط التقليدي الذي يتبعه العلماء، الذين يشتغلون “في القرن العشرين بإعداد رجال من القرن الثامن عشر”.

بل إنه لأجل القيام بالتجديد المنشود لا بد من “إنشاء حركة شاملة جامعة تشمل بتأثيرها جميع العلوم والفنون والأفكار والصناعات ونواحي الحياة الإنسانية جميعا، وتستخدم ما أمكن لإحكام أمر الإسلام”.

وهذا العمل التجديدي هو السبيل لأن “تكون حضارة الإسلام هي الحضارة العالية في الأرض” ولأن “يتولى الإسلام إمامة العالم في الأخلاق والأفكار والسياسة”.

هذا الموقف القوي من الإمام المودودي في الدعوة إلى الاجتهاد، والنقد اللاذع للجمود، صنع له أعداء كثرا داخل تيار الجمود، اعتبروا دعواته خروجا على نهج العلماء، وفي ذلك يقول أحدهم: “إن إصرار الأستاذ المودودي على الاجتهاد نعتبره معارضا لمسلك جماعة العلماء… فنحن، من حيث الجماعة، نرى التقليد شيئا لازما في هذا العصر، ونرى أن شروط الاجتهاد التي اشترطها السلف مفقودة في علماء هذا العصر”.

 

تهافت قيم الحداثة

ومثل ما فعل المودودي مع تيار الجمود والتقليد من نقض وتفكيك لأفكاره ورؤاه، فقد أجهز على تيار التغريب والإلحاق الثقافي، ونقض دعاويه وأطروحاته بمنطق قوي مبين.

“فمن موقع المفكر المدرك للخصائص التي تتميز بها الحضارة الإسلامية.. ومن موقع المناضل المبصر لخطر التغريب على هذه الخصائص كان وعيه وإبداعه في هذا الميدان” (كما يقول الدكتور محمد عمارة).

تأسست دعائم الحضارة الغربية على “الإلحاد والمادية في شتى شعبها الخلقية والسياسية والاجتماعية. وهي إضافة إلى ذلك ليس فيها ثابت، وليس لها مقياس مستقل للخير والشر.. فكل شيء فيها مؤقت نسبي ويمكن أن يوضع وينقض في سبيل المنفعة الذاتية والقومية”.

وينطلق المودودي في نقده لأطروحات تيار الإلحاق الثقافي من كشفه لعوار الحضارة الغربية، التي يريدنا هذا التيار أن نلتحق بركبها، وتبيانه لتهافت فلسفتها. فقد تأسست دعائم هذه الحضارة على “الإلحاد والمادية في شتى شعبها الخلقية والسياسية والاجتماعية”. وهي إضافة إلى ذلك ليس فيها ثابت بل كل ما فيها متحول متغير. بل إنها حضارة “ليس فيها مقياس مستقل للخير والشر.. فكل شيء فيها مؤقت نسبي، ويمكن أن يوضع وينقض فيها كل مبدأ في سبيل المنفعة الذاتية والقومية”.

وذلك يدل على أن عملية الإلحاق والذوبان غير مقبولة بالنسبة لنا كمسلمين لنا حضارتنا المستقلة، وهي حضارة “تامة ذات دستور واضح مكتمل شامل لجميع شعب الحياة الإنسانية من ناحيتي الفكر والعمل، وتختلف اختلافا كليا عن مبادئ الحضارة الغربية” التي “يخلو نظامها من كل ما تقوم  عليه حضارة الإسلام  من خشية لله وإتباع القصد وحب الصدق وطلب الحق وطهارة الأخلاق والنزاهة والأمانة والبر والحياء والتقوى والنظافة.

ولكن ذلك لا يقتضي بالضرورة أن نرفض الحضارة الغربية بالمطلق (كما يرى تيار “التجاوب الجمودي”)، دون أن نميز بين علومها ومنتجاتها التقنية، وبين قيمها الثقافية. بل إننا “إذا أردنا القوة والكمال والرقي، فلنأخذ عن الأمم الأخرى أسباب قوتها وكمالها ورقيها في العلوم المدنية.. ولننبذ العوامل التي تقضي على حيويتنا ومقوماتنا”.

لا بد من عزة المسلم

ويرى المودودي أنه لأجل استئناف عملية التجديد الإسلامي، وحدوث نهضة الأمة لا بد أن يستعيد المسلم عزته وفخاره بإيمانه واعتداده بقيمه الثقافية والحضارية، وأن يستعلي بإيمانه على الحضارة الغربية وقيمها المادية.

ويؤكد المودودي ذلك بعباراته القوية وأسلوبه الأخاذ الذي تفيض منه حرارة الداعية وعزة المؤمن ويقظة المجدد.. “أيها المسلمون.. احملوا القرآن، وانهضوا، وحلقوا فوق العالم.. فليس من شأننا أن نلهث وراء العالم، بل علينا أن نشده إلى مبادئنا وأصولنا.. وإذا لم يكن العالم يقدرنا، لأننا لا نسير خلفه، فيجب علينا أن نلفظه ونلقي به بعيدا !”.