كيف تبدأ الحضارات على وجه التحديد؟ لا أحد يعرف ذلك حسب المفكر المسلم محمد أسد،  إذا استبعدنا الأساطير والخرافات التي تأتي بها كل حضارة في محاولة باطنية لاحقة لتفسير بداياتها؛ فإنه ليس هناك ما يمكن الاطمئنان إليه بشكل دقيق.

 

يحاول محمد أسد في مقدمة كتابه “هذه شريعتنا” أن يزيل الارتباك المتعلق بمفهوم الحضارة كما يستخدمه في هذا السياق، مبينا أنه لا يعني به التجليات التاريخية المتنوعة للإنجاز الإسلامي كثقافة الخلافة البغدادية أو مصر المملوكية أو الإنجازات الفنية والأدبية للعرب في إسبانيا.

 

يقول:”… لذلك أود أن أوضح أنني أعني بالحضارة الإسلامية المنظور الأخلاقي الخاص، والنظام الاجتماعي وطريقة الحياة التي ولدها الإسلام، ولا أقصد إنجازات معينة للمسلمين في أي بلد أو أي عصر من تاريخهم”.

 

يؤكد محمد أسد على حقيقة الجهل المطرد للبدايات الفعلية للحضارات فيقول”إننا مهما حفرنا عميقا في الماضي الثقافي للبشرية، لن نجد نقطة محددة يمكن أن يقال إنها لحظة ميلاد حضارة، ولن نجد خطا واضحا بين نهاية القديم وبداية الجديد”، ذلك أن الحضارات كلها هي عبارة عن مزيج من التقاليد والتيارات المختلطة التي استلزم تواشجُها مُدَداً زمنية طويلة، نشأت على إثره تلك الحضارات.

تقطع هذه المعرفة بالبدايات الطريق على أي ربط عضوي بين الإسلام الصافي وبين نتاج حركة العقل المسلم في مصادره الأصلية، لتبقى المصادر في نقائها صالحة للتأسيس عليها وفق الزمان والمكان المتغيرين وتبقى تلك الفهوم والعلوم الأخرى محكومة بزمانها ومكانها المحددين

تبدو الحضارة الإسلامية ـ في رأي محمد أسد ـ استثناء من هذا الإطلاق، فهي الوحيدة التي ظهرت للعيان بشكلها في لحظة محددة في التاريخ، كما ظهرت مكتملة الخصائص متفردة السمات، وهذا ما منحها أهم عناصر القوة الداخلية والقدرة على الانبعاث بعد الإشراف على الموت  أكثر من مرة، لأن قيمها المركزية معروفة البدايات وقابلة للفرز وإعادة التشغيل من جديد.

لكن كيف ظهرت الحضارة الإسلامية فجأة؟ وما هي المادة الأولية التي تشكلت منها هذه الحضارة؟ للإجابة على السؤال الأول يرى محمد أسد أن الحضارة الإسلامية تأسست على حدث واحد وشخصية واحدة متفردة، أما الحدث فهو نزول القرآن، وأما الشخصية فهي النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

 

أما عن السؤال الثاني فيقدم تصوره للخصائص العامة للحضارة ومن ثمَّ يحاكم عليها الحضارة الإسلامية، وهي في نظره أربعة عناصر:

ـ مجتمع واضح الملامح

ـ رؤية كونية مميزة

ـ نظام تشريعي شامل

ـ نسق محدد للعلاقات الاجتماعية

وهذه العناصر الأربعة متحققة بشكل جلي في الحضارة الإسلامية.

 

يتعزز هذا التصور الانبثاقي للحضارة الإسلامية حين نعرف كيف كان بسطاء الجزيرة العربية ينظرون إلى الإيديولوجية الجديدة، لقد كانوا يعتبرون الإنتماء إليها يعني انفصالا كليا عن رؤيتهم التقليدية وأساليب حياتهم القديمة، إنهم لم ينظروا إليها كحضارة جديدة بل كحضارة مستأنفة ناشئة.

مبدأ التواصل التاريخي هو قانون اجتماعي تاريخي مطرد، لكنه لا يعني هنا التطور بمعناه الخيطي المتصل، وإنما يعني ربط  المحطات الراشدة (شرائع الديانات السماوية السابقة) في حياة البشرية والتأسيس التدرجي على نتائجها

لكن ما هي فائدة معرفتنا بالبداية الفعلية للحضارة الإسلامية، إذا تجاوزناها كمعلومة أكاديمية؟ يرى محمد أسد أن فائدة هذا التحديد تتجاوز فهمنا للماضي إلى “نتائج عملية لحاضرنا ومستقبلنا”، إنها تمكننا من رؤية حضارة الإسلام في نقائها الأول وصفاء المنتمين لها في ذلك العصر قبل أن تؤثر فيهم عادات وتقاليد امتزجت بمن جاء بعدهم، وهذا يمكِّننا من “تحديد البنية الأصلية لها وإرادة توجهها”.

 

إنه إذا يتيح لنا فرصة نادرة للاستدراك والترميم بناء على معرفة الخصائص الصافية للمنتج الأصلي، وهذا ما تفتقده الحضارات الأخرى بما فيها الحضارات التي أسست على دين سماوي محرف كأوربا القرون الوسطى، كما تقطع هذه المعرفة بالبدايات الطريق على أي ربط عضوي بين الإسلام الصافي وبين نتاج حركة العقل المسلم في مصادره الأصلية

 

لا يدل هذا الانبثاق الاستثنائي الذاتي على أن الحضارة الإسلامية ـ كظاهرة حيوية ـ منبتة الصلة كليا بما سبقها، فهي “مع أصالة رؤيتها وأصالة قانونها الاجتماعي كانت تحوي كثيرا مما كان سبقها من أنظمة دينية، وتردد الكثير من الحقائق الأخلاقية التي كانت تعد  حقائق فيما سبقها من عصور”، وفي الحديث الشريف:”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، لكن هذا أيضا لا يدل ـ كما يظن بعض الكتاب الغربيين ـ على تنازل أمام التقاليد السائدة في الجزيرة العربية حينها، بل هو نتيجة مبدإ أصيل يقوم عليه الإسلام هو (مبدأ التواصل التاريخي) في حياة البشر.

الحضارة الإسلامية أيضا في نظر محمد أسد ذات طبيعة إيديولوجية، تحمل (فكرة محددة) غير قابلة للتعديل ولا المراجعة، وهذا ما سماه سيد قطب “ربانية المصدر والغاية والوجهة”

ومبدأ التواصل التاريخي هو قانون اجتماعي تاريخي مطرد، لكنه لا يعني هنا التطور بمعناه الخيطي المتصل، وإنما يعني ربط  المحطات الراشدة (شرائع الديانات السماوية السابقة) في حياة البشرية والتأسيس التدرجي على نتائجها، أي أن الإسلام أسس على الحقائق الأخلاقية والدينية الصافية من التحريف التي أرستها الشرائع السماوية قبله.

 

الحضارة الإسلامية أيضا في نظر محمد أسد ذات طبيعة إيديولوجية، تحمل (فكرة محددة) غير قابلة للتعديل ولا المراجعة، وهذا ما سماه سيد قطب “ربانية المصدر والغاية والوجهة”، وهذا ما يميزها عن باقي الحضارات التي لا تعتمد حيويتها المتواصلة على الحفاظ على أية (إرادة أصلية) بالمعنى الإيديولوجي، بل تعتمد فقط على”إذكاء الطاقة الإبداعية وحدها” حين يغذيها نزوع عرقي أو ظرف جغرافي دون النظر إلى القنوات التي تختارها أو أي تحولات إيديولوجية تمر بها.

 

مثلا، نحَّت الحضارة الغربية المعاصرة المسيحية عن مسرح التأثير لأنها رأتها مكبلة لحركتها باتجاه الغاية دون أن تعبأ بالوسيلة التي تمتطيها لذلك، فيما رأت الاتحاد السوفيتي أن الدين أفيون الشعوب وانطلقت من عقالها تبني حضارتها على إيديولوجيا الإنسان المقدس بدل الله.

 

الحضارة الإسلامية لا تقبل ذلك، لها مصدر ووجهة وغاية محددين بشكل قاطع، ثم إنها لا تعتمد على حمية عرقية لشعب بعينه، بل تعتمد على الارتباط الواعي بين كتلة اجتماعية تتمثل فكرة الإسلام عقلا ووجدانا وتجد في نفسها الاستعداد لتطبيق مبادئه، وهو ما يشكل “منبعا وحيدا للطاقة الثقافية”، وبدون صفة الإيديولوجية هذه ستنقسم الحضارة الإسلامية إلى عدة حضارات قومية، ومن ثم تصبح حضارة لكنها ليست إسلامية.

 

حدث هذا في بعض فترات التاريخ الإسلامي فأنتج قيما فكرية وسياسية مشوهة، وتلك نتيجة حتمية لأي عنصر يتطور خارج الحركة الطبيعية لجسمه، وهو ما يحدث اليوم بشكل آخر فيوقع الأمة في هذا الارتباك الاستراتيجي المشهود.

فهل نستطيع خلق انبثاق جديد للحضارة الإسلامية؟