صاحب المال يحتاج  إلى من لا يملك سوى بدنه وفكره ، كما يحتاج الأخير إلى صاحب المال، فكلاهما محتاج إلى الآخر، الأول لتنمية ماله، والثاني للحصول على المال،  بيد أن صاحب المال العريض، يُمكنه أن يقتات من ماله، فحاجته إلى تنمية ماله ليست من الضرورات، لكن الذي لا يملك إلا بدنه وفكره، حاجته إلى المال حاجة ضرورية.

وهذا الاحتياج الضروري منه للمال، قد يجعله فرصة سائغة لإملاءات من صاحب المال، ولا يملك العامل إلا الإذعان، بل ربما إذا اشتد الاضطرار، سعى العامل بنفسه إلى إرخاص بدنه وجهده، وأملى على نفسه من الشروط والقيود ما  يجعله يرزح تحت نِيرها مثل العبد، حتى يحصل على المال المضطر إليه….هذا قانون العرض والطلب!

ومن هنا تدخل الإسلام ليحمي الإنسان العامل  من استئساد صاحب المال وإجحافه به، بل تدخل الإسلام ليحمي هذا العامل من ظلمه لنفسه، ومن صور هذه الحماية :

1 –إذا كانت العلاقة بين صاحب المال والعامل من قبيل المضاربة، وهي أن يشترك صاحب المال والعامل، الأول بماله، والثاني بجهده وعقله في تنمية المال واستثماره، فقد اشترطت الشريعة في حالة الخسارة أن تكون جميعها على صاحب المال من مال المشاركة، ولم تُجِز الشريعة للعامل أن يتطوع، أو يشرط على نفسه أن يتحمل الخسارة؛ لما في ذلك من ظلم العامل؛ إذ لو جاز ذلك لكانت الخسارة بنوعيها على العامل، خسارة المال، وخسارة الجهد والتعب والمشقة، فيذهب العامل بالخسارة كلها، ويبقى صاحب المال إما رابحا في حالة الربح، وإما محافظا على رأس ماله في حالة الخسارة.

وكم كانت الشريعة واقعية في منعها العامل من التطوع بتحمل الخسارة حال وقوعها حتى تحميه من ظلم نفسه بنفسه، وهذا الشرط محل إجماع للفقهاء بلا خلاف بينهم.[1] وغني عن البيان أن هذا في حال الخسائر الطبيعية، التي تتعرض لها التجارة بشكل طبيعي، أما التفريط والتعدي والإهمال، فله أحكام أخرى.

2 –إذا كانت العلاقة بين صاحب المال والعامل من قبيل المساقاة والمغارسة.

المساقاة: هي شركة بين صاحب مزرعة بها شجر قائم بالفعل وبين العامل، بحيث تكون مهمة العامل سقي الشجر ورعايته مقابل حصة من الثمر، كالربع مثلا.

المزارعة:  شركة بين صاحب أرض زراعية خالية من الزرع وبين العامل ، بحيث تكون مهمة العامل زراعة الأرض مقابل حصة من الناتج كالربع مثلا.

أولا : اشتراط ناتج مساحات مخصوصة

وهنا نجد أن الإسلام تدخل لحماية العامل من أن يظلمه صاحب البستان أو الأرض، أو يظلم العاملُ نفسَه،  فمن الممكن أن يتخير صاحب البستان أفضل بقعة فيه، فيشترط ثمرها لنفسه، ويجعل ثمر أردأ بقعة في البستان للعامل،  قال رافع بن خديج: «كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه، فربما أخرجت هذه، ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك”([2]).

ثانيا : طبيعة العمل الواجب على العامل

لا يجوز لصاحب البستان أو الأرض أن يُكلِّف العامل، أو أن يسند إليه إلا الأعمال التي يحتاجها البستان من أجل الحصول على الثمرة، فالعامل ليس خادما ولا عبدا عند صاحب البستان، فلا يجوز عليه أن يكلفه بسقي أشجار أخرى غير الأشجار التي وقعت عليها الشركة، كما لا يجوز له أن يكلفه بتوصيل أولاده إلى المدرسة ولا إحضارهم منها مثلا، قال ابن رشد الجد:

“وعمل الحائط على وجهين: فمنه ما يتعلق بإصلاح الثمرة، ومنه ما لا يتعلق بإصلاحها.

فأما ما لا يتعلق بإصلاح الثمرة، فلا تجب على المساقي، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك إلا الشيء اليسير.”[3]

وقال ابن رشد الحفيد: “العلماء بالجملة أجمعوا على أن الذي يجب على العامل هو السقي والإبار”[4]

3 –إذا كانت العلاقة بين صاحب المال والعامل من قبيل الإجارة.

وذلك مثل الموظفين في الشركات، والخدم في البيوت، والحرفيين الذين يستأجرهم الإنسان لحاجته الخاصة، من مسكن ، أو مصنع، أو نحو ذلك.

أولا : ضمان العامل

اتفق الفقهاء على أن العامل الخاص أمين،  لا يضمن إلا ما أفستده يداه في حالة التفريط والتعدي، وأما ما فسد دون تفريط أو تعد فهو غير ضامن له، وهذا مما اتفق عليه العلماء. كما أن هذا الإفساد لا يمنع حقهم في الأجرة المستحقة.[5]

ثانيا : عدم المماطلة في دفع الأجرة

جاء في الحديث القدسي قال الله تعالى: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة” – فذكر – “ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره”[6] ،وهذا صادق على تأخيره أجرَه، وعلى حرمانه منه بالكليّة، وإن كان الثاني أشدَّ، فجعلَه كحق لله تعالى. ولذلك قال: “أنا خصمهم” أي دون صاحب الحق. وهذا تنويه عظيم بهذا الحق، وزجر شديد عن التهاون به. [7]

وفي حديث ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه”[8]

ولذلك لا يجوز تأجيل إعطاء أجر العامل ( في المساقاة والمغارسة والمزارعة) بأكثر من وقت ظهور الثمر وصلاحه، وإلا كان مطلا حراما، بل كان من موجبات فساد العقد.[9]

ثالثا : إجازة مدفوعة الأجر  للعبادة  والراحة

ذهب الفقهاء إلى أن الأجير يجب عليه أن يقوم بالعمل في الوقت المحدد له أو المتعارف عليه. على أن يُتاح له في أثناء العمل تأدية الفرائض الدينية، من صلاة وصيام، فليس لصاحب العمل منعه من الصلاة بحجة أنها خصم من وقت العمل، ولا منعه من الصيام بتٌكَأَة أن الصيام يُضعفه عن العمل.

ومن جميل ما ذكره الفقهاء هنا : أن حق أداء الواجبات الدينية يُقرَّرُ للأجير دون حاجة إلى اشتراطه في عقد العمل.

كما ذكر الفقهاء أن الأجير لو اشترط على نفسه، أو اشترط عليه صاحب العمل عدم تمتعه بهذا الحق، أن هذا الشرط يقع فاسدا لا غيا، لا يجب الالتزام به، بل يجب عدم الالتزام به.[10]

جاء في المغني: “قال أحمد: أجير المشاهرة يشهد الأعياد والجمعة..

قيل له: فيتطوع بالركعتين؟ قال: ما لم يضر بصاحبه. إنما أباح له ذلك؛ لأن أوقات الصلاة مستثناة من الخدمة، ولهذا وقعت مستثناة في حق المعتكف بترك معتكفه لها.

وقال ابن المبارك: لا بأس أن يصلي الأجير ركعات السنة

وقال أبو ثور، وابن المنذر: ليس له منعه منها.[11] انتهى.

وليس هذا الحق خاصا بالمسلم، فقد رأى الفقهاء أن تمكين العامل غير المسلم من عباداته المفروضة عليه حسب اعتقاده  من الواجبات على صاحب العمل كذلك.[12]

وسُئل ابن الصلاح عن البطالة في المدارس،  فأجاب: بأن ما وقع منها في رمضان، ونصف شعبان لا يمنع الاستحقاق؛ لأنه ليس فيها عرف مستمر، ولا وجود لها قطعًا في أكثر المدارس والأماكن، فإن سبق بها عرف في بعض البلاد واشتهر ،فيجري فيها في ذلك البلد الخلاف في أن العرف الخاص، هل ينزل في التأثير منزلة العرف العام؟ والظاهر تنزيله في أهله بتلك المنزلة .[13]

وقد ألحق العلامة ابن نجيم الحنفي بأيام البطالة: أيام الأعياد والمناسبات كيوم عاشوراء وشهر رمضان، وكذلك ألحق بطالة القضاة ببطالة المدارس، حيث قال: وقد يأخذ يوم البطالة؛ لأنه يستريح لليوم الثاني، وقيل: لا يأخذ.

قال: وفي «المنية» القاضي يستحق الكفاية من بيت المال في يوم البطالة في الأصح، واختاره في منظومة ابن وهبان، وقال: إنه الأظهر، فينبغي أن يكون كذلك في المدارس؛ لأن يوم البطالة للاستراحة، وفي الحقيقة يكون للاستراحة والتحرير عند ذوي الهمة.

قال: ولكن تعارف الفقهاء في زماننا بطالة طويلة أدت إلى أن صار الغالب البطالة، وأيام التدريس قليلة”.

ثم ألحق بها بطالة أئمة المساجد، حيث جرى فيها عرف مستقر قال: نُقل في القنية أن إمام للمسجد يسامح في كل شهر أسبوعاً؛ للاستراحة، ولزيارة أهله.

 


[1] – انظر: بدائع الصنائع، الكاساني(6/ 87)، والشرح الكبير، الدردير(3/523)، والمجموع، النووي (14/383)، والمغني، ابن قدامة (7/184) والمحلى، ابن حزم (9/118)

([2]) رواه البخاري ( كتاب الشروط، باب الشروط في المزارعة، برقم 2722، (3/191).

[3] – المقدمات الممهدات (2/ 555)

[4] – بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 30)

[5] – المغني لابن قدامة (5/ 390)

[6] – صحيح البخاري (3/ 83)

[7] – مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 502)

[8] – ابن ماجه بسند حسن، صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 240)

[9] – مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 502)

[10] – نهاية المحتاج 5 / 279

[11] – المغني لابن قدامة (5/ 346)

[12] – أسنى المطالب 2 / 436 .

[13] – السيوطي (الأشباه والنظائر) ص: 92 وابن نجيم (الأشباه والنظائر) ص: 95.