أراد الله بالقضاء والقدر طمأنة الناس بأن مستقبلهم بيد الله لا بيد العباد، حتى لا تخضع الرقاب إلا إليه، ويعلم الناس أن العباد لا يمكنهم إنزال ضر بأحد إلا إذا كان هذا الضر قدرا مقضيَا.

فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف” (رواه أحمد بإسناد قوي)

هكذا أراد الله،  لكن اتخذ أعداء المسلمين من عقيدة القضاء والقدر تكأة إلى دعوة الناس إلى الاستسلام للواقع المرير ؛ بدعوى الرضا به باعتباره قضاء الله وقدره، وأن السخط عليه ومحاولة تغييره تمرد على القدر وتسخط على القضاء.

ولعل هذا الفهم المغلوط راج في أوساط بعض المتدينين، فراحو يقررون في استسلام : دع الخلق للخالق، ونحو ذلك من العبارات الداعية إلى الاستسلام والخنوع وجعلهما دينا وعقيدة.

وقد تنبه علماء المسلمين إلى هذا الزلل، فكتبوا يقررون أن ثمة فرقا بين القضاء وبين المقضي، وبين القدر وبين المقدور. وإذا كان الرضا بالقضاء والقدر من الإيمان، فإن الرضا بالمقضي والمقدور قد يكون كفرا!

فيقول الشيخ محمد بن علي بن حسين صاحب “تهذيب الفروق” (4/ 249):  ” الرضا بالقضاء واجب إجماعا، والسخط وعدم الرضا به حرام إجماعا؛ لأنا مأمورون بأن لا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم، ولا نتعرض عليه في ملكه بأن يقول أحدنا ساخطا لقضائه – تعالى -: أي شيء عملت حتى أصابني مثل هذا وما ذنبي وما كنت أستأهل هذا ..

وأما المقضي والمقدور فهو أثر القضاء والقدر، وليس الرضا به واجبا على الإطلاق كما هو زعم من يعتقد أن الرضا بالقضاء هو الرضا بالمقضي .

وإنما الصواب أن الرضا به قد يكون واجبا كالإيمان بالله – تعالى – والواجبات إذا قدرها الله – تعالى – للإنسان.

وقد يكون مندوبا كما في المندوبات، وحراما كما في المحرمات.

وقد يكون مباحا كما في المباحات من نحو البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث، فإنا ما أمرنا بأن تطيب لنا؛ إذ هو تكليف بما ليس في طبع المكلف، والشريعة لم ترد بتكليف أحد بما ليس في طبعه.

ثم ضرب مثلا بالأرمد، فإنه لم يؤمر باستحسان الرمد المؤلم.

واستدل على ذلك بأن الله  ذم قوما لا يتألمون، ولا يجدون للبأساء وقعا بقوله – تعالى – {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} [المؤمنون: 76] فمن لم يستكن ولم يذل للمؤلمات ويظهر الجزع منها، ويسأل ربه إقالة العثرة منها فهو جبار عنيد بعيد عن طرق الخير.

وإنا نجزم بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تألم لقتل عمه حمزة وموت ولده إبراهيم، كما حزن لاتهام عائشة بما رميت به إلى غير ذلك؛ لأن هذا كله من المقضي.

ونجزم بأن الأنبياء – عليهم السلام – طباعهم تتألم، وتتوجع من المؤلمات، وتسر بالمسرات، وإذا كان الرضا بالمقضيات غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى”.

ويصحح الشيخ يوسف القرضاوي – حفظه الله- الفهم المعوج للقضاء والقدر عند البعض، فيقول: ” رضا الإنسان عن الله، وعن السير العام للكون والحياة. لا يستلزم الرضا عن كل ما يراه على مسرح الحياة من شذوذ وانحراف جزئي مصدره هذا الإنسان المكلف المختار.

إن رضا الإنسان عن السيارات وركوبها، ليس معناه الرضا عما تسببه من حوادث، وما يرتكبه سائقوها من مخالفات لقواعد المرور وآداب الطريق.
لقد رضي المؤمن عن نظام الله في الكون. ومن هذا النظام ما منح الله من عقل واختيار للإنسان على أساسهما يتحمل المسئولية، ويكون أهلاً للزجر والثورة عليه، وتأديبه وتقويمه.
فالمؤمن راض عن نظام الوجود، ساخط على انحراف الإنسان الذي لم يقم بشكر الله على نعمة العقل والإرادة التي منحها. بل سخر نعمة الله في غير ما خلقت له.
وهذا السخط على الشذوذ والانحراف البشري سخط يرضاه الله، بل يأمر به، ويتوعد المهدرين له، والساكتين عنه، بالعذاب الشديد (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) (هود: 116) (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل علي لسان داوود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون) (المائدة: 78، 79). [الإيمان والحياة، القرضاوي، ص 154].

فعقيدة القضاء والقدر عقيدة العمل الجاد، والإيجابية البالغة، والجهاد الشاق، لا عقيدة الاستسلام والرضوخ.

ثم إن الإنسان في غالب أمره لا يعلم ما هو قدر الله المخبئ له، فعليه أن يجتهد ويعمل، فإن وفق إلى ما أراد، فهذا من توفيق الله تعالى، وإن لم يوفق مع أخذه بالأسباب، فقد أزاح الله عنه شرا.

و القدر نوعان: 1- قدر محتوم لا دخل للإنسان فيه، فهو ربما يأخذ بالأسباب لكن الله يقدر أمرا آخر.

2 – وقدر هو من علم الله تعالى، وقد ترك الله تعالى لنا الحرية في أن نختار ما نشاء، لكن هو سبحانه وتعالى يعلم ما نختاره نحن قبل أن نولد منذ الأزل.

وقد أدرك عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- هذا النوع من الفقه العالي، وسطره بكلمته المشهورة (نفر من قدر الله إلى قدر الله).

وذلك فيما أخرجه البخاري من عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسَرْغ لَقِيه أهلُ الأجناد (أبو عبيدة بن الجرَّاح وأصحابه)، فأخبروه أن الوباءَ قد وقَع بالشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادعُ لي المهاجرين الأوَّلين فدعوتُهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمر ولا نرى أن تَرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقيَّة الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقدِمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعُ لي الأنصار، فدعوتهم له، فاستشارهم فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: عني، ثم قال: ادع إليَّ مَن كان ها هنا من مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مُصْبِحٌ على ظَهْر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرار من قَدَر الله، فقال عمر: “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة – وكان عمر يكره خلافه – نعم، نَفِر من قَدَر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عُدْوتان، إحداهما: خِصْبة، والأخرى: جَدْبة، أليس إن رعيتَ الخِصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله”، قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف وكان متغيِّبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا عِلْمًا، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتُم به بأرض، فلا تَقدَموا عليه، وإذا وقَع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، قال: فحمد اللهَ عمرُ بن الخطاب، ثم انصرف”.

ثم إنه قد عرف في التاريخ أن أعداء الإسلام قد استغلوا هذا الفهم المغلوط حتى يمكنوا لأنفسهم في بلاد المسلمين، فشجعوا بعض الطوائف التي تبث في الناس أن احتلال بلاد المسلمين قضاء وقدر، وأن الجهاد ضدهم هو اعتراض على قضاء الله وقدره، ومن هنا تأتي خطورة هذا الفهم المعوج للقضاء والقدر.