منذ أن تنزَّل القرآن الكريم على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يحتل مكانًا مركزيًّا في تكوين العقل المسلم، وفي رسم معالم الحياة الإسلامية.. فكان القرآن الكريم هو المركز الذي تدور حوله العلوم والمعارف؛ من العلوم اللغوية والشرعية بل والعقلية.. وهو أيضًا نقطة النور التي تنبعث منها الأشعة لتنير الجنبات والأرجاء..

لم يكن القرآن الكريم إذن مجرد رسالة سماوية يتعبد بها أتباعها، ويتعرفون من خلالها على حدود الحلال والحرام، وما يجب وما لا يجوز.. وإنما كان- بجوار ذلك- موجِّهًا للنشاط الفكري والحركي والاجتماعي الذي شكَّل الحضارة الإسلامية؛ التي تألقت أكثر من ثمانية قرون قبل أن يدخل أهلها في سبات عميق!

ومازال العلماء يجتهدون في الكشف عن أوجه إعجاز الكتاب العظيم، وفي استنباط أسرار تميزه، وأسرار قدرته على التجدد والعطاء المتواصل، دون أن تحجب أستارُ الزمان والمكان نورَه وأشعته وانبعاثاته..

وكان “الإعجاز اللغوي” الوجه الأبرز من وجوه الإعجاز التي قررها العلماء للكتاب الكريم. ولعل هذه المكانة التي تبوأها “الإعجاز اللغوي” من بين وجوه إعجاز القرآن.. لعل هذه المكانة ترجع إلى أن التحدي الذي أقامه الله على كفار قريش كان تحديًّا بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور منه، أو بسورة من مثله.. أي أن التحدي كان تحديًّا لغويًّا.. وقد عجزوا عن مواجهة هذا التحدي وهم أرباب الفصاحة والبيان، ومن أسلمت لهم اللغة والشعر القيادةَ والإمارة!!

قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَّأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا} (الإسراء: 88). وقال أيضًا: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (هود: 13). وقال أيضًا: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23، 24).

فلما كان التحدي لغويًّا، كان من المناسب أن يكون “الإعجاز اللغوي” هو الوجه الأبرز من وجوه إعجاز القرآن الكريم.. مما اجتهد العلماء في تبيانه في العديد من الكتابات، قديمًا وحديثًا..

غير أن هذا البروز للإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، قد حجب أو صرف العناية عن وجه آخر من وجوه إعجاز الكتاب العظيم، لا يقل في الأهمية؛ بل ربما كان أكثر أهمية، لأنه يمثل صلب الأهداف التي من أجلها أُنزل القرآن الكريم.. ألا وهو “إعجاز الهداية“، وقدرة القرآن على النفاذ للعقول والقلوب، وعلى مخاطبة أرقى العقول البشرية، وتلبية حاجات الإنسان الروحية والفكرية على امتداد الزمان والمكان.

إن القرآن الكريم لم يتنزَّل من أجل أن يلفت الناس إلى أسرار العربية ومظاهر فصاحتها، وإن كان مشتملاً على ذلك، وتحدَّى العرب في هذه الناحية؛ لأنها هي الناحية التي يجيدونها، كما أشرنا.. كذلك لم يأت القرآن الكريم ليكون مُدوَّنة للأحكام ولحدود الحلال والحرام، وإن كان ذلك قد بُيِّن فيه، خاصة في أصول الأحكام ومعالم الشريعة.. ولم يأت القرآن ليكون كتاب طبيعة وعلومِ أحياءٍ ورياضيات، وإن كان قد أرسى أصول المنهج العلمي التجريبي([1]).. وبتعبير الشيخ الغزالي: ” يكفى القرآن إعجازًا علميًّا، أنه وضع الإنسان في المناخ العلمي”([2]).

إنما جاء القرآن الكريم- إضافةً لذلك كله- لمقصد أسمى، ولهدف أجلّ، ولغاية حدّدها هو بنفسه، في أكثر من موضع؛ مثل قوله تعالى: {الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: 1). وقوله: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (الإسراء: 9). وقوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحديد: 9).

فهداية القرآن الكريم هي إعجازه الأكبر الذي لا يبلى على مرِّ الزمان؛ لأن عطاءه ونوره لا يتوقفان عن الإشعاع.. بل القرآن- كما وصفه أحدهم- ما زال غضًّا طريًّا كأن عهده بالوجود أمس!

وثمة سبب آخر يجعل “هداية القرآن” إعجازَه الأكبر؛ وهو- كما يوضح الشيخ محمد الصادق عرجون- أن “هداية القرآن” تجذب إليها الناس جميعًا على اختلاف أحوالهم ولغاتهم.. بخلاف “إعجازه اللغوي” الذي كان موجَّهًا إلى من ملكوا ناصية البيان؛ وبالتالي لم يعد بالأهمية نفسها مع ذهاب أرباب البيان هؤلاء، ومجيء أناس من بعدهم ليسوا على المستوى اللغوي ذاته، ولا حتى قريبًا منه!

يقول العلامة عرجون: “والإعجاز بالهداية هو معجزة القرآن الخالدة خلود العقل. أما الإعجاز الأسلوبي في براعة البيان وروعة الأداء، فهو إعجاز خاص بمن يفهمه ويزنه بميزان ركائزه من البلاغة العربية التي ذهب أهلها بعد أن استعجموا… وبالهداية كان الإعجاز عامًّا شاملاً للزمان والمكان والأجيال والأفكار”([3]).

ولهذا، نعى كبار المصلحين والمجددين، على المسلمين اشتغالَهم بما ورد في القرآن الكريم من إشارات لمختلف العلوم والفنون، اشتغالاً صرفهم عن مقصده الأساس، وهدفه الأسمى؛ بحيث تحول علم التفسير وتشعَّب إلى معارف عقلية نظرية لا تخاطب الوجدان، ولا تزكِّي النفس، ولا تغرس الخشية!

فهذا السيد جمال الدين الأفغاني يلفت النظر إلى أن “هداية القرآن” كانت السبب في تلك النقلة النوعية التي حدثت في حياة العرب، فيقول: “ومن مزايا القرآن أن العرب قبل إنزال القرآن عليهم كانوا في حالة همجية لا توصف، فلم يَمضِ عليهم قرن ونصف قرن حتى ملكوا عالم زمانهم، وفاقوا أمم الأرض سياسة وعلمًا وفلسفة وصناعة وتجارة. وكل هذا لعمري لم ينتج إلا عن هدي القرآن وإرشاد القرآن. فالقرآن وحده الذي كان كافيًا في اجتذاب الأمم القديمة وهدايتها، جدير أن يكون كافيًا اليوم أيضًا في اجتذاب الأمم الحديثة وهدايتها”.

ثم يتأسف الأفغاني لما صرنا إليه من طريقة في التعامل مع القرآن؛ بحيث وقفنا عند بابه ولم ندخل إلى محرابه، فيقول: “لولانا، لولانا. القصور منا والتبعة علينا. انصرفنا عن الأخذ بروح القرآن والعمل بمعانيه ومضامينه إلى الاشتغال بألفاظه وإعرابه، والوقوف عند بابه دون التخطي إلى محرابه”([4]).

والشكوى ذاتها، يرددها الشيخ الغزالي بعد الأفغاني بقرن من الزمان، إذ يقول: “حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعي الدراسة المتعمقة؛ ذلك أن المسلمين بعد القرون الأولى، انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة، وضبط مخارج الحروف، وإتقان الغُنَن والمدود، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاءنا، أداءً وأحكامًا- أقصد أحكام التلاوة- لكنهم بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم، صنعوا شيئًا ربما لم تصنعه الأمم الأخرى؛ فإن كلمة (قرأت) عندما يسمعها الإنسان العادي أو يقولها، تعني: أن رسالة جاءته أو كتابًا وقع بين يديه فنظر فيه، وفهم المقصود منه. فمن حيث الدلالة لا أجد فكاكًا بين الفهم والقراءة ، أو بين السماع والوعي. أما الأمة الإسلامية فلا أدري بأية طريقة فصلت بين التلاوة وبين التدبر! فأصبح المسلم اليوم يقرأ القرآن لمجرد البركة كما يقولون. وكأن ترديد الألفاظ دون حس بمعانيها، ووعي لمغازيها؛ يفيد أو هو المقصود”([5]).

ويطالب الشيخ الغزالي بأن نقرأ القرآن الكريم “قراءة متدبرة واعية تفهم الجملة فَهْمًا دقيقًا، ويبذل كل امرئ ما يستطيع لوعى معناها وإدراك مقاصدها؛ فإن عزَّ عليه سأل أهل الذكر”. موضحًا أن (مُدارسة القرآن) مطلوبة باستمرار، وأن هذه المدارسة تعني: “القراءة والفهم والتدبر والتبيّن لسنن الله في الأنفس والآفاق، ومقومات الشهود الحضاري، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه لاستئناف دورهم المفقود”([6]).

بهذا الفهم لمعنى الإعجاز الأكبر والأهم للقرآن الكريم- وهو “إعجاز الهداية”- نستطيع أن نجعل القرآن الكريم فاعلاً في حياتنا، كما كان فاعلاً في حياة أسلافنا وفي عصورنا الزاهرة؛ وليس مجرد كتاب نتلوه غافلين، أو ننشغل بجداوله الفرعية عن نَهْرِه الكبير ورافده الأعظم..!


([1]) للدكتور عمرو شريف مقطع موجز في أربع دقائق يجلِّي هذه النقطة المهمة، على الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=KAktFSR5rko

([2]) “كيف نتعامل مع القرآن”، الغزالي، ص: 211. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط5، 1997م.

([3]) “محمد رسول الله.. منهج ورسالة، بحث وتحقيق”، عرجون، ج1 ص: 6، دار القلم، ط2، 1995م.

([4]) “جمال الدين الأفغاني”، لعبد القادر المغربي، ص: 60، 61، دار المعارف، (سلسلة اقرأ)، رقم (68).

([5]) “كيف نتعامل مع القرآن”، ص: 27.

([6]) المصدر نفسه، ص: 28.