جرت عادة الناس واستقر فكرهم أن قوة البدن حين تدعمها سلامة العقل ومتانة الخلق هي مقياس الكمال البشري المنشود {قالت إحداهما: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} القصص : 26

في السنة من رواية مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير” صحيح مسلم رقم 2664.

وقد شغلت التربية الرياضية حيزا من تفكير الفلاسفة وقادة الرأي عبر العصور، فها هو أفلاطون في كتابه الجمهورية يضع منهجا تربويا متكاملا لتأهيل “حكام المستقبل” لقيادة المدينة الفاضلة، ينص فيه على اختيار الأطفال ذوي البنية القادرة على تحمل التمرينات الرياضية القاسية دون النظر إلى طبقاتهم الاجتماعية، وإخضاعهم لبرامج رياضية منتظمة منذ الصغر وحتى بلوغ سن الثامنة عشر. ولقد اعتُبِرَ النظام التعليمي الذي اقترحه أفلاطون في هذا الوقت المبكر من تاريخ الحضارة الإنسانية من أفضل ما أنتجه أفلاطون كما يرى الفلاسفة المعاصرون كجان جاك روسو وآخرون.

ومنهج الإسلام النظري والعملي في القديم والحديث زاخر بالعشرات من النماذج الرائعة التي استغلت قوتها وشهرتها في الدفاع عن معاني الحق والقوة والحرية، والتي اتخذت من التربية الرياضية وسيلة لا غاية.

نماذج مشرقة

وفي تاريخ الحضارة الإسلامية حين مثلت الرياضة جزءا من أهدافها وغاياتها الكبرى كانت تصطبغ بقداسة هذه الغايات وتستمد منها وتُمِدُّها، فلا تتوقف عند حد المتعة العابرة أو الهواية والتسلية أو ضياع العمر خلف سراب لا ماء فيه، بل تتحول إلى وسيلة من أعظم وسائل ترقية النفس وحفظ الحرمات وصيانة الدين والأرض والمال والعرض.

في مهبط الوحي لعبت الرياضات السائدة في جزيرة العرب ـــ مثل الرماية وركوب الخيل وحمل الأثقال، ولاحقا الصولجان والسباحة ــ دورا هاما ومحوريا في تنشئة الجيل القادر على حمل رسالة الإسلام وإبلاغها لأهل الأرض، فتلك الغرائب التي لولا أنها نقلت إلينا وبلغ بعضها حد التواتر ما كان بإمكان العقل تصديقها، وإن العالم لا يزال يقف إلى اليوم مشدوها أمام إنجازات تلك الأمة وكأنها حلم حالم.

فالروايات عن المشي الطويل والسفر الشاق والرحلة المضنية في تحصيل المطلوب تحفل كتب السير وكتب الرجال والتراجم بالعديد منها في ترجمة المجاهدين العظام وطلبة حديث رسول الله الذين جابوا الآفاق، حتى إن أحدهم لا يرحل فقط في طلب الحديث بل يتحمل مشقة السفر الطويل طلبا لعلو السند كما روي عن الإمام أحمد أن أحد تلاميذه سأله هل يرحل المرء في طلب علو السند قال نعم كان علقمة يبلغه الحديث عن عمر فلا يقنع حتى يرحل إلى المدينة يسمعه من عمر رضي الله عنه.

وقد ربط بعض الباحثين في دراسة علمية محكمة بين حركة النهضة والتطور العلمي الذي شهدته الدولة العباسية في عصرها الذهبي وتطور وانتشار ساحات الرياضة والاهتمام بالأنشطة البدنية في ربوع الدولة الممتدة.

وفي عهد الملك العادل نور الدين اعتاد أن يخرج بخيل المسلمين إلى الساحات العامة يلعب الصولجان مع قادة وجنود الجيش ، وحيث لا يكون نزال في ساحات الحرب، يكون التدريب في ساحات الرياضة والترفيه، فكتب إليه أحد علماء الأمة يقول: “كنا نظن أن ورعك يمنعك من إرهاق الخيل في غير الجهاد” فيرد يرحمه الله: “إن الخيول إذا تركت على مرابضها كلَّت وضعفت، وكذلك الجند إنما هذا من أجل ذاك” .

ولاحقا قامت دولة المماليك التي حكمت مصر ولاحقا الشام والحجاز على سواعد مجموعة من الفتيان رباهم حكام الدولة العباسية الأوائل على الفتوة وأعمال القتال والحرب بإخضاعهم لتدريبات رياضية قاسية منذ الصغر وقد أثمرت هذه الجهود جيشا من أعظم جيوش الأرض حمى العالم الإسلامي من اجتياح المغول بعد هزيمتهم في عين جالوت، وبقي كذلك حتى استلمت الدولة العثمانية راية الإمامة في عهد سليم الأول بعد معركة الريدانية.

وحديثا فقد حسنت المبادرات التي قام بها البعض بالدعوة إلى التخلي عن مجرد المشاهدة والانتقال إلى ممارسة الرياضة -من صحة العشرات من الناس.

وفي عصر التراجع الحضاري بدلا من أن تكون الرياضة سلما للصعود نحو القمة من جديد شكلت معول هدم وثغرة تضاف إلى الثوب المرقع ليهترئ ، على المستوى الجماعي شهدت المباريات الرياضية عددا من الأحداث المؤسفة التي لا تتوافق مع روح الرياضة.

وعلى المستوى الفردي نشرت الصحف العربية حوادث مؤسفة، كانت شرارتها الأولى نقاش محتد بين مناصري الفرق المتنافسة أدت إلى نتائج غاية في القسوة، وقد كانت هذه الحوادث نذير خطر لا ينبغي تجاهله أو غض الطرف عنه، بل كان من الضروري أن يستنهض همم الباحثين في العلوم الاجتماعية المختلفة لدراسة هذه الحالات قبل أن تتحول إلى ظواهر اجتماعية مألوفة لم تعد تسترعي انتباه أحد.

وللأسف ليست هناك إحصاءات عربية علمية مؤثقة للجرائم والأحداث بكافة أنواعها وإلا فقد كانت الأرقام ستصدمنا ، حقا كم الحوادث والتشويه والاعتداء وهدم البيوت والأسر،  بسبب خلافات تافهة لا أصل لها حول الألعاب التي يكتفي معظم الناس بمتعة المشاهدة والانتقاد والتعديل والتصحيح بلا أي مجهود بدني أو ذهني.

تسلل!!

والأنكى من هذا حين تتسلل بعض السلوكيات المذمومة إلى حياة الناس، فحين نقبل بهذا السلوك في مجال اللعب قد ينسحب على حياة الجد، فكثيرا ما تجد الرجل متكئا على أريكته يقول لقد أخطأ مدير الفريق كان من ألأفضل أن يلعب فلان أولا بدلا من فلان، من الأولى أن يلعب بالطريقة هذه بدلا من الطريقة تلك، فهل من الطبيعي أن يعتاد الناس أن يتكلم من لا يحسن الفعل بل وغير مؤهل للتنظير فيستمعوا له من غير غضاضة، إن هذا يكاد أن ينسحب على حياة الناس كلها اليوم، فهذا يقرر في شرع الله بلا علم، وذلك يفتي في الاقتصاد والسياسة والفنون بلا خبرة ولا تأهيل. بل يصل بعضهم أن يسفه من رأي الخبير ويرد قول الفقيه بلا بينة ولا دليل إلا مجرد الهوى ومغلوط المنطق.

أيضا الرياضات العنيفة في الماضي كانت مشاهدتها مقصورة على الكبار ممن يمكنهم التفريق بين ممارسة العنف في الرياضة، وممارسته في الحياة الطبيعية، إلا أنها مع انتشار وسائل التواصل التي باتت في كل يد لم تعد مقصورة على جيل دون جيل ولقد ظهرت الآثار السلبية جراء انتشار العنف والاستهانة به في مجتمعاتنا حتى وصلت إلى طلاب المدارس الابتدائية،

أتمنى أن تلقى الإنذارات المتتالية أذنا مصغية قبل فوات الأوان، أبناؤنا وشبابنا في أمس الحاجة إلى تربية رياضية وعقلية ونفسية متوازنة تدفع بهم أن يكونوا لبنة صالحة في جسد المجتمع تقودها إلى التعافي والريادة من جديد.