الدوجماطيقية تعريب لكلمة Dogmatism، ولها ترجمات عديدة، مثل: وثوقية، قطعية، توكيدية، إيقانية، معتقدية.

وهي تعني الاعتقاد الجازم واليقين المطلق دون الاستناد إلى براهين يقينية، وإنكار الآخر ورفضه باعتباره على باطل مطلق!

ومن ثم فهي مبدأ التعصب، وسمة لكل متزمت، ومنشأ الحروب العقائدية.

والدوجماطيقة ليست مذهبا فلسفيا أو دينيا، وإنما هي –في أكثر معانيها انتشارا- سمة وطريقة تفكير تتسم بها أي فرقة أو مذهب أو فلسفة تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة بشكل شامل، ولا تقر بأنها قد تحتمل شيئا من الخطأ أو النقص، وتقطع بأن ما تحوزه من معارف ومعتقدات لا يقبل النقاش ولا التغيير، حتى وإن تغيرت الظروف التاريخية، أو السياقات المكانية والاجتماعية؛ فهي إذن مقدسة ومنزهة عن أي نقد، وعدم إخضاع هذه المعتقدات لفحص نقدي أو تحليلي يراجع الأسس التي تقوم عليها، ودون بحث في حدود وقدرات العقل المعرفية، فضلا عن عدم تمحيص الطرق التي توصل إلى المعرفة الصحيحة في كل لحظة تاريخية.

يواجه الفكر المعاصر خطر الاستقطاب من طرفين متنازعين، يتمثلان فى رؤيتين للغلو أصبح لهما الصوت الأعلى  فى الجدل الجاري على مختلف الساحات، وفي العديد من الثقافات، وهما: تيار التطرف العلماني وتيار التطرف الديني.. إذ يتحدث التيار الأول وكأن الله غير موجود، بينما يتحدث التيار الثانى وكأن الإنسان غير موجود ! بمعنى أنه ينزع من الإنسان كل فاعلياته ومسئولياته ومواهبه. التيار الأول جعل مرجعيته المادة  وقيم القوة وطموحات الفردية، والتيار الثانى يفهم تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن، ومن ثم حوّلها من تعاليم للروح والجسد معا إلى تعاليم طقوسية، وقتل فلسفتها التقدمية من ناحية “العدل” والروحية من ناحية أخرى (الإحسان).

وكلا التيارين –رغم تعارضهما بل وتشاحنهما على الساحتين الثقافية والسياسية– يشتركان في مجموعة من السمات التى تجعل الصراع بينهما صراعا عقيما، هي: توهم الاستئثار بالحقيقة، ونفى الآخر، وقصور البصر والبصيرة، وثقافة التسلط، والانغلاق على نظام قيم معين بصورة نصية، وعدم الرغبة في فتح قنوات للحوار، وازدراء الرؤى المخالفة وتخوينها، وعدم السعي للبحث عن أرضية مشتركة. وهذه كلها ببساطة هي سمات الدوجماطيقية.

وفي ظننا يكمن المنشأ الفلسفي للتطرف في طبيعة منهج التفكير؛ فالعقل المتطرف عقل مغلق على نفسه، عقل ذو بعد واحد، ومن ثم يستحيل عليه أن يرى غير أفكاره هو، ويعتبرها ثابتة لا تقبل المناقشة، ومؤكدة بشكل نهائي.

غير أن العقلية الدوجماطيقية الدينية والسياسية والفكرية لا تزال -ولا شك- موجودة نظريا وعمليا وسياسيا في كل بلدان العالم. بل يمكن القول بأنها تشهد صعودا الآن على ساحة السياسة الدولية، بفضل النزعة الدوجماطيقية للحزب الجمهوري الأمريكي، وأكبر علامة على ذلك سيطرة لغة الحرب والاغتيال في حل الصراعات، وحلول لغة البندقية مكان لغة الحوار والتفاوض، وغلبة الرؤية المذهبية للصهيونية المسيحية ذات البعد المقترن بنهاية العالم المحتومة وفق تصورهم وسيناريو هذه النهاية الذي يضع سقفا للتفكير ويفرض حدودا على العقل؛ لأن التاريخ إذن يسير وفق اتجاه تلك الحتمية؛ فلا مجال البتة للنقاش أو تغيير نظم التفكير.

ومن الضروري التأكيد مجددا على أن الدوجماطيقية ليست سمة تلحق بالتطرف الديني وحده، بل هي سمة التطرف العلماني أيضا، وسمة التطرف الحضاري. ولذا  نجد الدوجماطيقية كسمة تظهر بوضوح في بعض المواقف الغربية التي تتخذ موقفا معاديا من الحضارات الأخرى، وتزعم أن نموذجها الحضاري هو النموذج الأمثل بشكل مطلق! وهي لذلك تعمل جاهدة على تعميم هذا النموذج من خلال العولمة وترسيخ مفهوم صراع الحضارات الذي تنظر فيه إلى حضارتها كممثلة للمدنية، أما الحضارات الأخرى فهي إما بدائية أو بربرية! ومن ثم تقف منها موقف التحفظ والتعالي، إن لم يكن العداء والاحتشاد من أجل سحقها وإبادتها.

وحتى نتبين طبيعة المنشأ الفلسفي للتطرف لا بد من تحليل فلسفي عميق لمفهوم الدوجماطيقية، من أجل اكتشاف السمات المشتركة بين كل تيارات التطرف على مختلف الجهات المتعارضة والمتصارعة.

 

الأساطير المؤسسة للدوجماطيقية

تتنوع أصول ومبادئ الدوجماطيقية بتنوع صورها وأشكالها، وهي أشبه ما تكون بقواعد فخارية لقصر من الرمال، وتتمثل فيما يلي:

1- اليقين المطلق دون براهين كافية:

الأصل الأول لكل دوجماطيقية هو اليقين المطلق الذي تتسم به بعض المعتقدات اعتمادا على التسليم دون الاستناد إلى براهين يقينية، ودون تمحيص أو تمهيد نقدي للأسس التي تقوم عليها أو حتى إحاطة بعمقها وفلسفتها ومقاصدها كي يتسنى الدوران معها مع تغير الظروف.

2- التراوح بين قدرة العقل المطلقة وسلطة النص المصمتة:

من أشكال الدوجماطيقية ذلك الاتجاه الذي يعتمد على الإيمان المطلق بقدرة العقل. ويشير المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية إلى أن هذا الاتجاه يذهب إلى إثبات قيمة العقل وقدرته على المعرفة وإمكان الوصول إلى اليقين. وإذا كان مذهب الشك يوصي بالامتناع عن إثبات الحقائق أو نفيها؛ فإن الدوجماطيقية ترى أن العلم الإنساني لا يقف عند حد، وتؤكد قدرة العقل على المعرفة والتوصل إلى اليقين. وقد سارت هذه النزعة في فلسفة العقليين إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر، ونحا نحوها التجريبيون الذين أكدوا إمكان المعرفة عن طريق التجربة”. ولذا فهي ضد الشكية حسب هذا الشكل الذي يذكره المجمع.

وفي المقابل نجد لدى كل التيارات الدوجماطيقية هيمنة للنص المرجعي دون محاولة للتفاعل معه أو تفعيله.

ويلاحظ أن للدوجماطيقية العقلية أشكالا ساذجة، مثل الدوجماطيقية الساذجة التي نجدها –كما يقول د.يحيى هويدي- عند رجل الشارع؛ فرجل الشارع متعصب لآرائه إلى أبعد الحدود، لا يقبل أن يناقش آراءه ومعتقداته أحد، يعتقد في ذكائه المفرط وقدرته الخارقة على معالجة الأمور.

3- افتقاد الروح النقدية:

من الأصول التي تستند إليها كل الدوجماطيقيات افتقاد الروح النقدية. ومن هذه الزاوية تعد الدوجماطيقية مقابلا للنقدية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الفيلسوف الألماني كانط في كتابه “نقد العقل المحض” عندما وجد أن الدوجماطيقية لها استخدامان:

أولهما: إنشاء البراهين العلمية القاطعة المستندة لمبادئ قبلية؛ أي مبادئ عقلية أولية وضرورية غير مستمدة من التجربة؛ فهي قبل أي تجربة.

وهذا الجانب للدوجماطيقية غير متعارض مع الرؤية النقدية، والنقدية هي الفلسفة التي تهتم بنقد العقل لبيان قدراته وحدوده والشروط التي تحكم عمله، وتبين ما الذي يستطيع أن يعرفه، وما الذي لا يستطيع أن يعرفه. فهي بهذا المعنى تؤسس القواعد الأولية للفهم والتصور، والتي بدونها لا يمكن الانطلاق لأي رؤية؛ أي أنها المفاهيم التأسيسية أو ما قبل المنهج كما يسميها الفلاسفة.

ثانيهما: التوصل إلى معارف ميتافيزيقية (أي معارف تتعلق بما بعد الطبيعة)، دون نقد سابق لقدرات العقل وبيان حدوده المعرفية، ودون بيان للكيفية التي توصل بها العقل إلى هذه المعارف الميتافيزيقية، ودون بيان وجه الحق الذي استند إليه العقل في إقراره لهذه المعارف. وهذه هي الطريقة الخاطئة للدوجماطيقية التي كان يستخدمها الفلاسفة الميتافيزيقيون حتى زمن كانط؛ أي حتى القرن الثامن عشر، مثل أفلاطون، وأوغسطين، وديكارت، وليبنتز وفولف وغيرهم.

وبهذا المعنى الثاني  تعارض الدوجماطيقية  الفلسفة النقدية. وفي أحيان أخرى يستخدم كانط الدوجماطيقية كمعارض للشك في معرض الحديث عن مصادر وطبيعة المعرفة.

4- السلطة المطلقة للآباء أو الأجداد أو المفكرين والعلماء:

يتجلى هذا الأصل في طريقة البعض في تأكيد معتقداته عن طريق دعمها بسلطة الآباء أو الأجداد أو المفكرين أو العلماء أو غيرهم من أصحاب النفوذ المرجعي، وهذه هي طريقة  الذين يقولون إن الحق يعرف بالرجال! وبهذا المعنى تكون الدوجماطيقية نظرية تقرها السلطة المعرفية (دينية كانت أم علمانية)، ويلتزم بها الأعضاء الواقعون تحت هذا السلطة، دون تمحيص أو برهان كاف.

وهذا الشكل ذكره القرآن الكريم، وانتقده عندما ذكر حجة الكافرين والمشركين في الدفاع عن عقائدهم الباطلة، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} ( البقرة:170).

فتظهر هنا طريقة الكافرين الدوجماطيقية في تأكيد معتقداتهم بسلطة الآباء دون برهان عقلي، ودون اهتداء إلى طريقة التفكير السليم. ولذا فالدوجماطيقية هنا –كما يقول لالاند في موسوعته الفلسفية- هي  حيلة فكرية مخاتلة قائمة على تأكيد المرء لمعتقداته بأمر وسلطان، ودون القبول بأنها قد تحتمل شيئا من النقص أو الخطأ أو أن تطويرها لازم وضامن لاستمرار فاعليتها.

وهذا ما يرفضه القرآن الكريم؛ لأن المعتقدات ينبغي أن تؤسس على براهين وليس على سلطة الرجال؛ ولذا قال الإمام عليّ: “إن الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن يعرف الرجال بالحق”. ومن ثم نبذ الطريقة الدوجماطيقية في التفكير التي تقوم على التسليم دون تمحيص. وفي تاريخ الفلسفة يستخدم هذا المعنى للدلالة على الدوجماطيقية، جاء في المعجم الفلسفي الصادر عن مجمع اللغة العربية:” … واستعمل اللفظ بعده (أي بعد كانط) للدلالة على التسليم دون تمحيص.

ونشير هنا إلى أن “مذهب الشك ” الذي يزعم بشكل يقيني -وهنا المفارقة- أن المعرفة غير ممكنة مطلقا يمثل دوجماطيقية سلبية؛ أي هي القفاز نفسه .. مقلوبا.

وبطبيعة الحال فإن “الشك المنهجي” غير “الشك المذهبي”؛ فالشك المنهجي هو مجرد خطوة في عملية التفكير نحو المعرفة المنضبطة، مثلما فعل إبراهيم عليه السلام مع عقائد قومه في الكواكب والنجوم؛ فقد شك فيها وفق مراحل ذكرتها سورة الأنعام : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام).

ومثل هذه الشكية المنهجية ليست دوجماطيقية على الإطلاق، على العكس من الشكية المذهبية التي تجزم بشكل يقيني دوجماطيقي بأن المعرفة غير ممكنة مطلقا! بل لقد سار إبراهيم -عليه السلام- على هذا النهج حين طلب البرهان وسعى له حتى في سؤاله لله تعالى: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة: 260)، وأراه الله البرهان بمعجزة ولم ينكر عليه السؤال، وكذا موسى حين سأل ربه أن يراه؛ فالعقل لا مصادرة عليه، وإنما تحميه في النهاية حدوده وسقف بشريته.

الدوجماطيقية في التاريخ

نشأت الدوجماطيقية منذ بدأ الإنسان يزعم أنه قادر على معرفة الحقيقة المطلقة، وفي نطاق الفلسفة يمكن القول بأن أكثر المذاهب تمثيلا للدوجماطيقية هي معظم الفلسفات القديمة، ومن المتعذر الحديث عن مضمون هذه الفلسفات في هذا السياق؛ لأن الدوجماطيقية -كما أسلفنا- ليست مضمونا بقدر ما هي سمة وموقف يزعم امتلاك الحقائق اليقينية المطلقة. وتعد فلسفات بارمنيدس وأفلاطون وأرسطو والمدرسة الأفلوطينية الجديدة نماذج جيدة للفلسفة الدوجماطيقية بامتياز.

وقد ترك لنا بارمنيدس قصيدة “في الطبيعة” التي يذكر فيها ما يعتقد أنه الحقيقة المطلقة على نحو دوجماطيقي يقيني.

أما أفلاطون فمحاوراته تحمل اعتقادا دوجماطيقيا بعالم المثل وبتصورات دوجماطيقية لطبيعة الكون والحياة والإنسان وشئون السياسة والاجتماع البشري. ومن هذه المحاورات “محاورة الجمهورية” و”فيدون” و”مينون” و”القوانين”…إلخ.

ونجد الطابع الدوجماطيقي في ميتافيزيقا أرسطو لا سيما في كتابه “الميتافيزيقا”. والحال نفسه في أعمال أفلوطين Plotinus الفيلسوف المصري اليوناني (203م- 269 أو 270م)، لكن مع مزيد من الدوجماطيقية المفرطة، لا سيما في كتابه “التاسوعات”.

وفي العصور الوسطى نجد معظم فلاسفة المدارس الفكرية وعلماء اللاهوت مثل أوغسطين وتوما الأكويني.

أما في العصور الحديثة فتتمثل الفلسفات الدوجماطيقية  في الفلسفات العقلية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، مثل فلسفة ديكارت، ويمكن القول بأن دوجماطيقية ديكارت أشبه باللاهوتية، وما العقلانية عنده إلا قناع مضلل، وأيضا بسكال، ومالبرانش، وإسبينوزا، وليبنتز؛ فكثير من أطروحاتهم تتسم بالدوجماطيقية.

وقد اعتبر كانط أن فولف Wolff أكبر الفلاسفة الدوجماطيقيين جميعا؛ لأنه لم يمهد طريق العلم بواسطة نقد العقل وبيان حدوده وقدراته، كما يعتبر أن دوجماطيقية فولف تشتمل على نقص لا يمكن أن ينسب إليه وحده؛ لأنه ينسب كذلك إلى طريقة التفكير الدوجماطيقية الذائعة في عصره.

وكريستيان فون فولف C.V.Wolff: فيلسوف ألماني ولد سنة 1679م. ومات 1754م. وله فضل على اللغة الفلسفية الألمانية، وكان تلميذا ليبنتز. ومن مؤلفاته “الفلسفة الأولى أو الأنطولوجيا”، “الكوسمولوجيا العامة”، “علم النفس التجريبي” و”اللاهوت الطبيعي” وغيرها.

وبعد فولف نجد فلسفة هيجل في القرن التاسع عشر؛ حيث زعمت امتلاك الحقيقة المطلقة، وفسرت كل شيء بطريقة دوجماطيقية شاملة، واعتبرت نفسها الفلسفة المطلقة التي حازت كل معرفة بالحقيقة. بل يمكن القول بأن أكبر فلسفة اتسمت بالدوجماطيقية في العصر الحديث هي فلسفة هيجل.

ومن أكبر الممثلين للدوجماطيقية في القرن العشرين الأصولية الماركسية التي تزعم أن تعاليم ماركس ولينين هي مبادئ وقواعد مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. والأصولية الماركسية تتسم بالجمود الأيديولوجي النظري، وهي سمة أي مذهب دوجماطيقي يرفض التجديد؛ حيث تصبح كتابات الآباء المؤسسين مراجع أقرب للنص المقدس.

وهؤلاء قد تعرضوا لنقد شديد من الماركسيين الجدد الذين ينظرون بمرونة إلى تعاليم ماركس، كما أن الدوجماطيقيين الماركسيين بدورهم هاجموا نقادهم، واتهموهم بأنهم فسروا تعاليم ماركس بطريقة تتلاءم مع المتغيرات والضغوطات الدولية في ظل هيمنة الرأسمالية.

وهكذا نجد أن كثيرا من المدارس الفلسفية والفلاسفة والأفراد تتسم مواقفهم بإحدى سمات الدوجماطيقية، أو تشتمل مذاهبهم على أصل أو أكثر من أصولها، ومن ثم تتخذ فلسفاتهم شكلا أو أكثر من أشكال الدوجماطيقية المذكورة آنفا. ومن المتعذر إحصاء الفلسفات والمذاهب الدوجماطيقية، خاصة أنها سمة وليست مذهبا دينيا أو عقليا محددا، بل هي تسري في معظم المذاهب.

الرؤية الإسلامية والدوجماطيقية

 الدوجماطيقية يرفضها كثير من علماء أصول الفقه الإسلامي الذين يراعون في تفكيرهم المصالح المرسلة، والضرورات، والاستحسان، وظروف العصر.

ومن أكبر النماذج الفقهية البارزة لمناهضة ورفض الدوجماطيقية المنغلقة الإمام الشافعي الذي اختلف مذهبه الفقهي في مصر عن مذهبه القديم في العراق، ومن بين أسباب هذا الاختلاف مراعاة ظروف الزمان والمكان.

لكن من جهة أخرى يتسم بعض الفقهاء بهذه السمة الدوجماطيقية، حين يرفضون مراعاة ظروف المكان والزمان، ولا يأخذون بالمصالح المرسلة والاستحسان وغيرهما، وهو ما يحدث حين يغلب التقليد في الفقه على الاجتهاد. كما نجد الدوجماطيقية عند بعض التيارات المتعصبة في علم الكلام وأصول الدين؛ حيث يعولون على قدرة العقل التي يزعمون مطلقيتها، ويعطونها الحق في تناول الصفات الإلهية! أو لدى الذين يفهمون آيات الصفات فهما تشبيهيا أو تجسيميا استنادا للفهم الظاهري لبعض النصوص.

ومن ناحية أخرى فإن من فساد منطق أي فكر الزعم بأن أي تعاليم بشرية هي مبادئ وقواعد مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. فالبشر ذوو عقول نسبية متغيرة، ومن ثم فإن على الإنسان أن يسعى لمعرفة الحقيقة بالبحث في الكون والنفس، وفي كلام الله المنزل، دون الزعم باحتكار حق التفسير.

والقرآن يؤكد على إمكانية المعرفة ووجود معايير للمعرفة الحقة، وينتقد الأساليب الزائفة غير البرهانية، ويدعو للمعرفة التجريبية المبنية على النظر في الكون والآفاق والنفس، وغير ذلك من الأساليب التي توصل للمعرفة المضبوطة.

ويرفض القرآن بوضوح التسليم بأقوال السابقين دون الاستناد إلى براهين يقينية، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} ( البقرة:170). وهذا أمر مستهجن وضد مبادئ العقل المنطقي وضد البداهة؛ لأن المعتقدات ينبغي أن تؤسس على براهين وليس على سلطة الرجال، وإنما يكون الاشتراك في المنهج لا في الظرف، وتجميد شروطه، وتجاهل حركة النص في التاريخ.

والموقف الفلسفي الأمثل هو الموقف النقدي الذي ينقد العقل لبيان قدراته وحدوده، والشروط التي تحكم عمله وتبين ما الذي يستطيع العقل أن يعرفه، وما الذي لا يستطيع أن يعرفه؟ وما هي الطريقة المنضبطة التي يتوصل بها العقل إلى المعارف؟.. فالعقل المنضبط بمعايير البرهنة والاستدلال العلمي له دور لا يُنكر في عملية المعرفة بالواقع، وفي الاستدلال على وجود الله تعالى، لكنه غير قادر على معرفة الغيب، عندها يجب عليه التسليم. ومع الإقرار بنسبية العقل البشري وتطوره بتطور العلم والمعارف، وجب نبذ الجمود الأيديولوجي النظري الذي تتسم به الدوجماطيقية التي تعارض التنوع والحوار والتجديد والارتقاء وسنن التغير.


 

كتب الدراسة أ. د. محمد عثمان الخشت أستاذ بقسم الفلسفة – جامعة القاهرة – مصر

لمزيد من البحث في هذا المفهوم يمكن مراجعة الكتابات التالية:

أ) مراجع أجنبية:

  1. Cooper, D. E. ,World Philosophies, Oxford, Blackwell, 1996.

  1. Cottingham, J., Stoothoff, R. and Murdoch, D. (eds.),The philosophical Writings of Descartes, 2 vols, Cambridge, Cambridge University press, 1985. Volume III of the preceding, by the same translators and Anthony Kenny, Cambridge, Cambridge University press, 1991.

  1. Cottingham, J.G. (ed.), Descartes, conversation with Burman, Oxford, clarendon, 1976.

  1. Hall, T.S.(ed.), Descartes, Treatise on Man, Cambridge, MA, Harvard University press, 1972.

  1. Hegel, Enzyklopadie der philosophischen Wissenschaften im Grundrisse (1830), ed. F. Nicolin and 0. poggeler. Hamburg: Felix Meiner, 1969.

  1. Hegel, Lectures on the Philosophy of Religion , Lectures of 1827. Ed. P.C. Hodgson, tr. by R.F. Brown, P.C. Hodgson, and J.M. Stewart with the assistance of H.S. Havis. University of California Press, 1988.

  1. John Cottingham, A Descartes Dictionary, Oxford, Blackwell ,1994

  1. Kant, Critique of pure Reason, tr. by N.K. Smith,London,Macmillan,1929. preface to 2th edition.

  1. Kant, Critique of Practical Reason, tr. by L. W. Beck, Indianapolis, Bobbs – Merrill, 1956.

  1. Kant, Religion within the Limits of Reason Alone, tr., T. M. Greene and H. H. Hudson. Chicago, The Open Court Publishing Company (Ger. 1793), 1934.

  1. Magee B., Modern British Philosophy, London, 1971.

  1. Mahoney, M.S. (trans.) Descartes, The World, New York, Abaris, 1979.

  1. Rosenthal M. & Yudin, A dictionary of Philosophy, Moscow, Progress Publishers, 1967 .

  1. Russell, B., Mysticism and Logic, London, Unwin Books, 1963.

ب) مراجع عربية ومترجمة إلى العربية:

  1. إ.م. بوشنسكي، الفلسفة المعاصرة في أوربا، ترجمة د.عزت قرني، الكويت عالم المعرفة، العدد 165، 1413هـ، 1992م.

  1. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية: الكتاب الثالث، الفلسفة الحديثة، ترجمة د.محمد فتحي الشنيطي. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977م.

  1. برتراند رسل، حكمة الغرب، الكويت، عالم المعرفة، 1983.

  1. جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، بيروت، دار الطليعة،1987.

  1. ديكارت، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة د.عثمان أمين، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980.

  1. ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة د.عثمان أمين، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1993.

  1. عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر/1984.

  1. د.عزمي إسلام، اتجاهات في الفلسفة المعاصرة، الكويت، وكالة المطبوعات، بدون تاريخ، ط1.

  1. مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي، مصر، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1399هـ.

  1. د.محمد عثمان الخشت، أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط، القاهرة، دار قباء، 1996.

  1. د.محمد عثمان الخشت، الأديان.. تأويل نقدي لفلسفة الدين عند هيجل، القاهرة، دار غريب، 1994.

  1. د.محمد عثمان الخشت، الدين والميتافيزيقا في فلسفة هيوم، القاهرة، دار قباء، 1997.

  1. د.محمد عثمان الخشت، العقل وما بعد الطبيعة، القاهرة، مكتبة ابن سينا، 1994.

  1. د. يحيى هويدي، مقدمة في الفلسفة العامة، القاهرة، دار الثقافة، 1982.