كم يقف النظر البشري القاصر قاصرا وعاجزا مهما أوتي من ملكات التأويل أمام دقائق هذا البيان الإلهي المعجز المبين ..!

وكم يرتد الطرف حسيرا كليلا بعد إمعان النظر وإنعام الفكر في دقائق التنزيل ..!

إنه البيان الأخاذ الذي يأخذنا في آفاقه الواسعة، ويستوقفنا ويشد انتباهنا بدقائقه المدهشة. (شجرة وشجرت ) رسمان مختلفان في وصف شجرة العذاب القبيحة المفزعة …

(شجرة الزقوم وشجرت الزقوم) في سياقين متشابهين في نظم القرآن .. لكنها المغايرة الدقيقة الموحية باختلاف المقام.

وإذا كانت غاية جهد البلاغة البشرية أن لكل مقام مقالا، فإنها في البيان الإلهي أرقى من ذلك كعبا، وأدق بيانا وإيحاء، فإن لكل مقام مقالا ورسما ..

(أَذَٰلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)

(إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَٰذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)

لما كانت غيبا مخفيا في السياق الأول محدودة المعرفة بها، وصفها وشبهها برؤوس الشياطين، وناسب ذلك رسمها بتاء مربوطة (شجرة) إيحاء بمحدودية المعرفة والعلم بها..

وعندما ذكرها في المقام الآخر في سياق ذكر المعذبين الذين ذاقوها ، إذ أصبحت طعامهم، وهم في العذاب يتقلبون وكأن المشهد حاضر للعيان، خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم …

ناسب ذلك تمام المناسبة بسطها في الرسم إيحاء بتمام الرؤية والمشاهدة للعيان، لا مرية فيها ولابهتان ..!

إنه البيان الذي يسجد في محرابه ناصية البيان …