إن من أعظم مفاخر عثمان رضي الله عنه ومن أفضل أعماله في خلافته هو جمعه للقرآن الكريم وقد كان السَّبب الحامل لعثمان رضي الله عنه على جمع القرآن مع أنَّه كان مجموعاً، مرتَّباً في صحف أبي بكر الصِّدِّيق، إنَّما هو اختلاف قرَّاء المسلمين في القراءة اختلافاً أوشك أن يؤدِّي بهم إلى أخطر فتنةٍ في كتاب الله تعالى، وهو أصل الشَّريعة، ودعامة الدِّين، وأساس بناء الأمَّة الاجتماعيِّ، والسِّياسيِّ، والخُلُقيِّ. فخشي على الأمَّة من الاختلاف، فيُمَسَّ نصُّ القرآن، وتُحرَّف عن مواضعها كلماتُه، وآياتُه، كالّذي وقع بين اليهود، والنَّصارى من اختلاف كلِّ أمةٍ على نفسها في كتابها.

الباعث على جمع القرآن في عهد عثمان

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي الله عنه وكان يُغازي أهل الشَّام في فتح أرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين ! أدرك هذه الأمَّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنَّصارى ! فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخُها في المصاحف ثمَّ نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزُّبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم فنسخوها في المصاحف.

وقال عثمان للرَّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن؛ فاكتبوه بلسان قريش، فإنَّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتَّى إذا نسخوا الصُّحف في المصاحف؛ ردَّ عثمان رضي الله عنه الصُّحف إلى حفصة، فأرسل إلى كُلِّ أفقٍ بمصحفٍ ممَّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ، أو مصحف أن يُحرق.

إنَّ هذا الحديث الصَّحيح قاطعٌ بأنَّ القرآن الكريم كان مجموعاً في صحفٍ ومضموماً في خيط، وقد اتَّفقت كلمة الأمَّة اتِّفاقاً تامّاً على أنَّ ما في تلك الصُّحف هو القرآن كما تلقَّته عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم  في آخر عرضةٍ على أمين الوحي جبريل عليه السَّلام؛ وأنَّ تلك الصُّحف ظلَّت في رعاية الخليفة الأوَّل أبي بكرٍ الصدِّيق، ثمَّ انتقلت بعده إلى رعاية الخليفة الثَّاني عمر بن الخطَّاب، ثمَّ لما عرف عمر حضور أجله ولم يولِّ عهده أحداً معيناً في خلافة المسلمين، وإنَّما جعل الأمر شورى في الرَّهط المصطفين بالرِّضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أوصى بحفظ الصُّحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأنَّ عثمان اعتمد في جمعه على تلك الصُّحف، وعنها نقل مصحفه ( الرَّسمي ) وأنَّه أمر أربعةً من أشهر قرَّاء الصَّحابة إتقاناً لحفظ القرآن، ووعياً لحروفه، وأداءً لقراءاته، وفهماً لإعرابه ولغته: ثلاثة قرشيين، وواحداً أنصارياً، وهو زيد بن ثابت صاحب الجمع الأوَّل في عهد الصِّدِّيق بإشارة الفاروق.

وفي بعض الرِّوايات: أنَّ الّذين أمرهم عثمان أن يكتبوا من الصُّحف اثنا عشر رجلاً، فيهم أبيُّ بن كعب، وآخرون من قريشٍ، والأنصار.

استشارة جمهور الصَّحابة في جمع عثمان

ومن مفاخر عثمان أنه جمع رضي الله عنه المهاجرين، والأنصار، وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الأمَّة، وأعلام الأئمَّة، وعلماء الصَّحابة، وفي طليعتهم عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وعرض عثمان رضي الله عنه هذه المعضلة على صفوة الأمَّة، وقادتها الهادين المهديِّين، ودارسهم أمرها، ودارسوه، وناقشهم فيها، وناقشوه، حتَّى عرف رأيهم، وعرفوا رأيه؛ فأجابوه إلى رأيه في صراحةٍ لا تجعل للرَّيب إلى قلوب المؤمنين سبيلاً، وظهر للنَّاس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يُعرف قطُّ يومئذٍ لهم مخالفٌ، ولا عرف عند أحدٍ نكيرٌ، وليس شأن القرآن الّذي يخفى على احاد الأمَّة فضلاً عن علمائها، وأئمَّتها البارزين.

ومن مفاخر عثمان رضي الله عنه أنه لم يبتدع في جمعه المصحف، بل سبقه إلى ذلك أبو بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، كما أنَّه لم يصنع ذلك من قبل نفسه، إنَّما فعله عن مشورةٍ للصَّحابة رضي الله عنهم، وأعجبهم هذا الفعل، وقالوا: نِعمَ ما رأيت ! وقالوا: أيضاً: قد أحسن ـ أي: في فعله في المصاحف.

وقد أدرك مصعب بن سعدٍ صحابة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم  حين مشق عثمان رضي الله عنه المصاحف، فرآهم قد أعجبوا بهذا الفعل منه، وكان عليٌّ رضي الله عنه ينهى من يعيب على عثمان رضي الله عنه بذلك، ويقول: يا أيُّها الناس ! لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً ـ أو قولوا خيراً ـ فوالله ما فعل الّذي فعل ـ أي في المصاحف ـ إلا عن ملأ منَّا جميعاً؛ أي: الصَّحابة… والله لو ولِّيت؛ لفعلت مثل الّذي فعل.

و من مفاخر عثمان أنه بعد اتِّفاق هذا الجمع الفاضل من خيرة الخلق على هذا الأمر المبارك؛ يتبيَّن لكلِّ متجرِّدٍ عن الهوى: أنَّ الواجب على المسلم الرِّضا بهذا الصَّنيع الّذي صنعه عثمان رضي الله عنه وحفظ به القرآن الكريم.

قال القرطبيُّ في التَّفسير: وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار، وجلَّة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك، فاتَّفقوا على جمعه بما صحَّ، وثبت من القراءة المشهورة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ، واطِّراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأياً سديداً موفَّقاً.

الفرق بين جمع الصِّديق، وجمع عثمان رضي الله عنهما

قال ابن التِّين: الفرق بين جمع أبي بكر، وجمع عثمان: أنَّ جمع أبي بكر كان لخشيته أن يذهب شيءٌ من القرآن بذهاب حملته؛ لأنَّه لم يكن مجموعاً في موضعٍ واحدٍ، فجمعه في صحائف مرتِّباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وجمع عثمان كان لمَّا كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتَّى قرؤوه بلغاتهم على اتِّساع اللُّغات، فأدَّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعضٍ، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصُّحف في مصحفٍ واحدٍ مرتِّباً لسوره، واقتصر من سائر اللُّغات على لغة قريش محتجّاً بأنَّه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسَّع في قراءته بلغة غيرهم دفعاً للحرج والمشقَّة في ابتداء الأمر، فرأى: أنَّ الحاجة قد انتهت، فاقتصر على لغةٍ واحدةٍ.

وقال القاضي أبو بكر الباقلانيُّ: لم يقصد أبو بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، إنَّما قصد جمعهم على القراءات الثَّابتة المعروفة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذِهم بمصحفٍ لا تقديم فيه، ولا تأخير، ولا تأويلَ أُثْبِتَ مع تنزيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِب مع مُثْبَتٍ رَسْمُه ومفروضٍ قراءته، وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشُّبهة على مَنْ يأتي بَعْدُ.

وقال الحارث المحاسبيُّ: المشهور عند النَّاس: أن جامع القرآن عثمان، وليس كذلك إنَّما حمل عثمان النَّاس على القراءة بوجهٍ واحدٍ على اختيارٍ وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين، والأنصار؛ لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق، والشَّام في حروف القراءات، فأمَّا قبل ذلك، فقد كانت المصاحف بوجوه القراءات المطلقات على الحروف السَّبعة الّتي أنزل بها القرآن، فأمَّا السَّابق إلى جمع الجملة، فهو الصِّدِّيق، وقد قال عليٌّ رضي الله عنه: لو ولِّيت؛ لعملت بالمصاحف الّتي عمل بها عثمان.

وقال القرطبيُّ: فإن قيل: فما وجه جمع عثمان النَّاس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك، وفرغ منه ؟ قيل له: إنَّ عثمان رضي الله عنه لم يقصد بما صنع جمع النَّاس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخها في المصاحف ثم نردُّها إليك ؟ وإنَّما فعل ذلك عثمان، لأنَّ الناس اختلفوا في القراءة، لتفرُّق الصَّحابة في البلدان، واشتدَّ الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم، وتشبُّثهم، ووقع بين أهل الشَّام، والعراق ما ذكره حذيفة رضي الله عنه.

عدد المصاحف الّتي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار

ومن مفاخر عثمان أنه لمَّا فرغ رضي الله عنه من جمع المصاحف، أرسل إلى كلِّ أفقٍ بمصحفٍ، وأمرهم أن يحرقوا كلَّ مصحف يخالف المصحف الّذي أرسله إلى الآفاق، وقد اختلفوا في عدد المصاحف الّتي فرَّقها في الأمصار، فقيل: إنَّها أربعة؛ وهو الّذي اتَّفق عليه أكثر العلماء، وقيل: إنَّها خمسة، وقيل: إنَّها ستَّةٌ، وقيل: إنَّها سبعةٌ، وقيل: ثمانية، أما كونها أربعةً؛ فقيل: إنَّه أبقى مصحفاً بالمدينة، وأرسل مصحفاً إلى الشَّام، ومصحفاً إلى الكوفة، ومصحفاً إلى البصرة، وأمَّا كونها خمسةً؛ فالأربعة المتقدِّم ذكرها ومصحفاً لأهل مكة، وأما كونها ستة فالخمسة المتقدمة، والسَّادس اختلف فيه، فقيل: جعله خاصّاً لنفسه، وقيل: أرسله إلى البحرين.

وأمَّا كونها سبعة؛ فالستَّة المتقدِّم ذكرها، والسَّابع أرسله إلى اليمن، وأمَّا كونها ثمانيةً؛ فالسَّبعة المتقدِّم ذكرها، والثَّامن كان لعثمان يقرأ فيه، وهو الّذي قتل، وهو بين يديه، وبعث رضي الله عنه مع كلِّ مصحفٍ من يرشد النَّاس إلى قراءته بما يحتمله رسمه من القراءات ممَّا صح، وتواتر، فكان عبد الله بن السَّائب مع المصحف المكِّيِّ، والمغيرة بن شهاب مع المصحف الشَّامي، وأبو عبد الرحمن السُّلمي مع المصحف الكوفيِّ، وعامر بن قيس مع المصحف البصريِّ، وأمر زيد بن ثابت أن يقرأ الناس بالمدنيِّ.

وعلى العموم، فإن من مفاخر عثمان أنه أحسن رضي الله عنه أيما إحسان بجمعه للقرآن، فقضى على الفرقة والاختلاف بين المسلمين في وجوه قراءته، ووحد الأمة على مصحف واحد بصورة نهائية, وتم توزيع النسخ من المصحف المعتمد والمجمع عليه على جميع الأقطار الإسلامية مع التخلص من نسخ الصحف والمصاحف غير الرسمية وغير المجمع عليها. وبذلك كان عثمان بن عفان رضي الله عنه سبباً في حفظ الوحي الذي تعهد الله بحفظه فإن فضل الخليفة عثمان بعد الله على الأمة لفضل عظيم.


المصادر والمراجع:

* علي محمد محمد الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، دار ابن كثير، دمشق، ط2، (2009)، صفحة 218:211.

* صابر حسن محمد أبو سليمان، أضواء البيان في تاريخ القرآن، دار عالم الكتب، ط1، (2000)، صفحة 77.

* صادق عرجون، عثمان بن عفان، الدار السعودية، ط3، (1990)، صفحة 178:171.

* محمد محمد حسن شراب، المدينة في فجر الإسلام والعصر الراشدي، دار القلم، دمشق، ط1، (1994)، صفحة 2/ 241، 244.