دعا القرآن الكريم إلى الكثير من المبادئ والمقاصد التي لا تصلحُ الإنسانية بغيرها، وللقرآن الكريم منهج في تصحيح العقائد والتصورات المنحرفة، ومنها:

1. الدعوة إلى التوحيد:

القرآن العظيم من أوّله إلى آخره دعوةٌ إلى التوحيد، وإنكارٌ للشرك، وبيانٌ لسوء عاقبة المشركين في الدّارين، وقد اعتبر القرآن الشركَ أعظمَ جريمةٍ يقترفُها مخلوق. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وإنّ حقيقة الشرك انحطاطٌ بالإنسان من مرتبة السيادة على الكون ـ-كما أراد الله له-إلى مرتبة العبودية والخضوع للمخلوقات، سواء كانت جماداً، أو نباتاً، أو حيواناً، أو إنساناً، إلى غير ذلك. قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *} [الحج: 30-31].

والدعوة إلى التوحيد هي المبدأ الأوّل المشترك بين رسالات النبيين جميعاً، فكل نبيٍّ نادى قومه أن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الأنبياء: 25].

فلا مكان للوسطاء بين الله عزّ وجلّ وبين خلقه، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].

وقد أصلح القرآن هنا ما أفسدته الديانات الوثنية والكتابية المحرّفة من عقيدة التوحيد، حتى اليهود جعلت الربَّ أشبه بالمخلوقين، فهو يتعب ويندم ويخاف، ويصارعُ إسرائيل، فيصرعه إسرائيلُ، فلا يتمكن من الإفلات منه إلا بوعدٍ منه بمباركة نسله، فأطلق سراحه!!

والنصرانيةُ تأثرت بوثنية روما، وطغت عليها الوثنيةُ حتى امتلأت الكنائسُ بالصور والتماثيل، وأخذت عقيدةُ التثليث والفداء من عقيدة الهنود في «كرشنة»، كل ما فعلوه أنهم حذفوا اسم «كرشنة»، ووضعوا اسم «يسوع».

2. تصحيح العقيدة في النبوة والرسالة:

وذلك بعدة أساليب:

أ – بيان الحاجة إلى النبوة والرسالة:

قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة 213]. وقال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64].

ب – بيان وظائف الرسل في التبشير والإنذار:

قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165]. فليس الرسل الهةً، ولا أبناءَ الهةٍ، إنّما هم بشرٌ يوحى إليهم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]. يملكون أن يدعوا إلى توحيد الله، ولكن لا يملكون هدايةَ القلوب، ولا السيطرةَ عليها {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ *} [الغاشية: 21 ـ 22].

جـ – تفنيد الشبهات التي أثارها الناس من قديم في وجه الرسل:

كقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10]. وقولهم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً} [المؤمنون: 24]. فقد ردّ عليهم القرآن بمثل قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]. ومثل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً*} [الإسراء: 95].

 د – بيان عاقبة الذين صدقوا المرسلين وعاقبة الذين كذبوا المرسلين:

وفي القرآن الكريم ثروة طائلة من قصص الرسل مع أممهم، تنتهي دائماً بهلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين. قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا *وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا *} [الفرقان: 37 ـ 39]. وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ *} [يونس: 103].

3. تثبيت عقيدة الإيمان بالآخرة:

ومما عني به القرآن، وكرّره في سوره المكية والمدنية الإيمان بالآخرة، وما فيها من جزاء وحساب وجنة ونار، وقد اتخذ القرآن في تثبيت هذه العقيدة وتصحيحها أساليبَ شتى؛ منها:

أ – إقامة الأدلة على إمكان البعث ببيان قدرة الله على إعادة الخلق كما بدأهم أول مرة. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

ب – التنبيه على خلق الأجرام العظيمة؛ التي يُـعْتَبَـرُ خَلْقُ الإنسان بجوارها شيئاً هيناً، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [الأحقاف: 33].

 ج – بيان حكمة الله تعالى في الجزاء، حتى لا يستوي المحسن والمسيء، والبر والفاجر، في النهاية تكون الحياة عبثاً وباطلاً يتنزه الله تعالى عنه، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ *} [ص: 28]. وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ *} [المؤمنون: 115]. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً *} [القيامة: 36].

د – إبطال الأوهام التي أشاعها الشرك والمشركون من أنّ الهتهم المزعومة تشفع لهم عند الله يوم القيامة، وكذلك ما زعمه أهلُ الكتاب من شفاعة القديسين وغيرهم، وهذا ما كذّبه القرآن، وأبطله أشد الإبطال، فلا شفاعة إلا بإذن الله، ولا شفاعة إلا لمؤمن موحّدٍ، قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ *} [غافر: 18]. وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ *} [المدثر: 48]. وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. ولا ينفع الإنسانَ إلا سعيُه، ولا يحمل وزر غيره {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم: 38 ـ 39]. وقال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا *} [الكهف: 49].

 هـ – بيان ما ينتظر المؤمنين الأبرار في الآخرة من المثوبة والرضوان، وما أعد للكفرة الفجار من العقاب والخسران، ولهذا كثر حديثُ القرآن عن القيامة وأهوالها، والكتابِ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعن الميزانِ الذي تُوْزَنُ به الحسنات والسيئات حتى لا يضيعَ على الإنسـان مثقال حبة من خردل، وعن الحساب الدقيق الذي لا يظلم نفساً شيئاً، ولا يحمّل وازرة وزر أخرى، وعن الجنة ومـا فيهـا من ألوان النعيم المادي والروحي، وعن النار وما فيهـا من صنوف العذاب الأليم الـحسي والمعنوي، ذلك لأن إنـسـان الآخرة هو امتدادٌ لإنسان الدنيا روحاً وجسماً، فلابدَّ أن يشمل الثواب أو العقاب كليهما.