يتعرض الإمام البخاري وصحيحه هذه الآونة لانتقادات متواصلة، بعضها يأتي من الخارج على يد نفر من الدارسين المسلمين الذين استقر بهم المقام في الجامعات الغربية، وبعضها الآخر ينطلق من الداخل على يد بعض مدعي التنوير في العالم العربي، وليس ثمة فروقات بين انتقادات الخارج والداخل التي يمكن إيجازها في النقاط التالية:

 – وجود قرنين من الزمان يفصلان بين عصر البخاري وعصر النبوة، قضى جميع الصحابة نحبهم خلالها، وبالتالي يصعب التثبت من صحة الأحاديث المنسوبة إليهم.

 – استغرق وضع الكتاب ستة عشر عاما وهي مدة لا تكفي لتمحيص ستمائة ألف حديث وفق المنهجيات التي صاغها بنفسه.

 – طعن في حجية البخاري وصحة أحاديثه عدد من العلماء المتقدمين كالدارقطني وغيره.

 – تناقض بعض الأحاديث مع القرآن، ومن ذلك الأحاديث التي تحقر شأن النساء وتكرس دونيتهن، وهو الادعاء الذي تتبناه الدارسات النسويات.

 في السطور التالية سأحاول بقدر المستطاع مناقشة الانتقاد الأخير إضافة إلى محاولة بيان الإمكانيات المعرفية التي يتيحها صحيح البخاري -وغيره من كتب الصحاح- للباحثين في بناء تصورات أقرب للدقة حول موقع النساء في عصر النبوة وأدوارهن وعلاقاتهن بالقضايا المختلفة، وعلى هذا سأناقش أولا دقة الادعاء من بضع نقاط ثم أردف بذكر بعض الأحاديث المتعلقة بالنساء والتي تغاير الصورة التي يريد الحداثيون تعميمها. 

أولا: يستند هذا الادعاء على بضع أحاديث تكرر ورودها باختلافات طفيفة في السند أو في اللفظ من مثل: ” يا معشر النساء، تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم، من إحداكن…”  [1] وحديث ” لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث: في الفرس، والمرأة، والدار” [2] ، وحديث ” استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء» [3]   وما إلى ذلك من أحاديث .[4]

ثانيا: ورد ذكر النساء في صحيح البخاري في بضع مئات من الأحاديث يمكن تصنيفها في فئتين: الأولى تختص بالنساء وشئونهن وأعمالهن؛ ومن ذلك أبواب: نوم المرأة في المسجد، خبر المرأة الواحدة، والثانية لا اختصاص فيها بالجنس إنما بالعمل ومن أمثلته “عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها، إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض” ولا يرتاب عاقل أنه لو قام بهذا الفعل رجلا لاستحق نفس المصير. وفي كلتا الحالتين يتعذر الادعاء أن أحاديث البخاري تحقر النساء، إذ جلها أحاديث وصفية تقريرية أتت لبيان حكم شرعي أو الوعظ والإرشاد ولا تحمل مدحا أو قدحا.

ثالثا: لم تصح لدى البخاري بعض الأحاديث التي وردت في كتب الصحاح بشأن النساء، فحين ذكر لدى عائشة رضي الله عنها ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة، قالت: لقد جعلتمونا كلابا، “لقد رأيت النبي يصلي، وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير، فتكون لي الحاجة، فأكره أن أستقبله، فأنسل انسلالا [5]. 

رابعا: قدم الإمام البخاري في صحيحه طائفة من الأحاديث تبرز نماذج نسائية عايشت النبي ، وتأثرت بدعوته، والنماذج أكثر من أن تحصى في هذا الباب وسنتخير بعضها هنا لنوضح كيف تفاعلت المرأة مع الرسالة والرسول:

– عائشة رضي الله عنها والتيمم، ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه في احدى الغزوات ومعها عقد تتزين به استعارته من اختها أسماء ففقدته فقام الرسول على التماسه ومعه الناس، فأتى بعضهم إلى أبي بكر رضي الله عنه “وقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله والناس وليس معهم ماء”، فانطلق إلى عائشة وأنبها وجعل يطنعها بيده في خاصرتها حتى آلمها ولم يمنعها من مغادرة مكانها إلا وجود رأس النبي على فخذها، فقام الرسول وقد أصبح الصباح على غير ماء، فنزلت آية التيمم، “فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك وللمسلمين فيه خيرا. وفي هذا الحديث يبدو جليا أن الرجال اعتبروا اهتمام عائشة بالعقد أمرا غير ذي بال، لا يصح تأخير الجيش لأجله، لكن العقد لم يكن ملكا لعائشة وعظم لديها أن تفرط فيما لا تملكه، ولقد كافأها الله تعالى على حرصها مرتين: مرة بعثورها عليه تحت البعير، ومرة بسن التيمم [6].

– ترشد قومها إلى الإسلام: يحكي عمران ابن الحصين رضي الله عنه أنهم كانوا مع النبي صلوات الله عليه في مسير فأدلج الليل فغلبهم النوم حتى الصباح، فاستيقظ الرسول وصلوا، ونفد الماء وعطشوا عطشا شديدا، وبينما هم كذلك إذ أقبلت امرأة سادلة رجليها بين مزاديتين أو سطيحتين (قربتين) على بعير لها، فقالوا لها: أين الماء، فقالت: لا ماء، فانطلقوا بها إلى النبي ، فحدثته بمثل هذا الحديث ولكنها أضافت أنها مؤتمة أي ذات أيتام، فأمر الرسول بالمزادتين ومسح على فم القربتين، فشربوا جميعا، وملأ كل منهم قربة كانت معه دون أن تفرغ القربتين، ثم طلب النبي من أصحابه أن يجمعوا لها مما لديهم من تمر ودقيق وسويقة، فجعلوه معها وحملوها على بعيرها، وحفظ لها المسلمون جميلها “فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوما لقومها ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا، فهل لكم في الإسلام، فأطاعوها فدخلوا في الإٍسلام. ورجاحة عقل هذه المرأة وهدايتها قومها إلى الإسلام تذكرنا بملكة سبأ التي ذكرها القرآن، وترجح أن النساء تمتعن برجاحة العقل وكن سببا في بعض الأحيان لإسلام قومهن [7] .

– تصنع منبرا لرسول الله: روي جابر بن عبد الله رضي الله عنه “أن امرأة قالت: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال: إن شئت فعملت المنبر” ويكشف الحديث عن حب المرأة للرسول وإشفاقها عليه من أن يجلس جلسة فيها مشقة، كما يكشف عن جوانب الابتكار لدى المرأة التي صنعت أول منبر ثم صار سنة متبعة [8].

– تطلب تخصيص يوم لتعليم النساء: أخبر أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن امرأة جاءت  إلى رسول الله “فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهن رسول الله ، فعلمهن مما علمه الله….”  [9] ويبين الحديث أن طلب العلم والتفقه في الدين كان مطلبا نسائيا وأن الإمام/ الرسول صلوات الله استجاب لمطلبهن المشروع.

خلاصة ما سبق، أن ادعاء تحقير أحاديث صحيح البخاري للنساء لم يستند إلى استقراء شامل للأحاديث النسائية، وإنما هو انتقاء لبعض الأحاديث وانتزاع لها عن سياقاتها ومحاولة تعميمها لخدمة أغراض أيديولوجية معينة.           


  • [1]  صحيح البخاري، كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم، 298 . 
  • [2] صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا عدوى، 5438.
  • [3] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، 3153.
  • [4] تأول بعض علماء الشريعة هذه الأحاديث من مثل : الشيخ محمد الغزالي، الشيخ محمد أبو شقة، الشيخ القرضاوي، ويمكن العودة إلى ما وضعوه بهذا الخصوص ففيه الغناء.  
  •  [5] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره وهو يصلي، 489. 
  •  [6]  صحيح البخاري، كتاب التيمم، 327   
  • [7] صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم،337  
  • [8] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، 437.
  • [9]  صحيح البخاري، باب: تعليم النبي أمته من الرجال والنساء مما علَّمه الله، ليس برأي ولا تمثيل، 6880.