قصة المُهاجر في صدر الإسلام هي قصة التخلص من عوالق المكان والمصالح، وتغليب السماء على الأرض، حين يكون المراد هو إخراج العبد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد. فكانت الهجرة هي المحك الإيماني لما تتطلبه الرسالة المحمدية من استعدادات التضحية، ومفارقة المتاع الزائل.

عاش العربي مقاوما لكل تجديد أو تغيير، شديد التمسك بأعراف قبيلته وعاداتها. وعززت البيئة الطبيعية نظرة ضيقة للحياة، وعدمَ التطلع إلى مُثُل أبعد من القيم البدوية. فكانت العقلية العربية مزيجا من الفردية والاحتماء بكيان القبيلة، ورواسب الآباء والأجداد. صحيح أن هناك نوعا من التباين بسبب اختلاف الأمكنة، خاصة بين سكان الحواضر والبدو أو الأعراب، إلا أن الوضع العام كان تعبيرا عن قلق دفين من عدم الاستقرار، الشيء الذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود من يساعده أو يحميه، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية(*).

وفي ليلة يذكرها العربي جيدا، نزل النبي صلى الله عليه وسلم من غار حراء ليعلن رسالة التوحيد، وليدعو قومه إلى نبذ الأوثان، والتحرر من كل عبودية لا تليق بما منحهم الله من مظاهر التكريم. وخلال ثلاث عشرة سنة من جهاد الدعوة في مكة، تهيأ جيل بأكمله ليكون مادة الإسلام، والصفوة التي تتحمل ثقل التكليف وعبء الرسالة.

كانت المهمة الأولى التي تصدى لها النبي صلى الله عليه وسلم هي بث الطاقة الإيمانية في نفوس الرعيل الأول من المسلمين، وتحريرهم من الخوف والقلق، والولاء لحجارة لا تضر ولا تنفع. ومعلوم أن الإيمان حين يمس شغاف القلب فإنه يُحدث انقلابا هائلا في المشاعر والسلوك، ويُمد صاحبه بدفعة قوية تتناسب مع حركة الحياة الجديدة. لذا حين بدأ مسلسل التضييق على الدعوة، كشف المسلمون عن ثمرة الإيمان السليم، وامتحنوا صبرهم وثباتهم وعزتهم في محطات الإيذاء العديدة التي تُوجت بنداء الهجرة.

تمثلت أولى لبنات الهجرة في المواجهة الأولى مع الأهل والأقارب، خاصة من ينتمي منهم لأسر مكية عريقة. وخلال تلك المواجهة تحرر المسلم من التأثير البالغ لآصرة القرابة على حساب عقيدته، خاصة وهو يُعاين كيف تغيرت قلوب من كانوا حتى الأمس القريب مصدر عطف وحنان.

أبى عثمان عفان رضي الله عنه أن يرجع عن دينه، فحبسه عمه وأقسم ألا يفك رباطه. وفي رواية أخرى أنه كان يلفه في حصير من ورق النخيل ويُدخنه من تحته.

ولما بلغ أم مصعب بن عمير خبر إسلامه، حبسته ومنعت عنه الطعام والشراب. فتغير حاله بعد نعيم العيش، وتخشف جلده تخشف الحية كما في بعض الروايات.

أما العبيد فإن سادتهم تفننوا في تعذيبهم. وشهدت بطحاء مكة ألوانا مفجعة من الاستهتار بالكرامة الإنسانية. كل ذلك والنفوس راضية وثابتة على الإيمان وصدق الاتباع.

اتسم الجو العام بحالة من الجور المادي والمعنوي. فزيادة على الإيذاء الجسدي استمات سادة قريش في التصدي لكل اقتراب من صوت الرسالة، والحيلولة بين المرء وحريته الشخصية في المقارنة بين ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبين ما ورثه عن أسلافه من وثنية ساذجة. فمنهم من أذاع صفة الجنون ليصرف الناس في موسم الحج عن سماع القرآن، ومنهم من اشترى الجواري المغنيات، وسلطهم على كل من حدثته نفسه بالإسلام ليشغلنه بلهو الحديث. وجلس النضر بن الحارث ليسرد أخبار ملوك فارس، ويزعم أنه أحسن حديثا من محمد صلى الله عليه وسلم.

رغم ألوان الاضطهاد كانت هناك مساحة من التوقع، وانتظار أن يُسفر التحمل والصبر عن تشكل قناعة جماعية بأن الإسلام خير من الكفر، أو على الأقل أن يتسع فضاء مكة لحرية الاعتقاد دون إكراه أو تضييق. إلا أن حادثة المقاطعة التي استمرت ثلاث سنين، وتخللتها صور التجويع و الحصار المؤلمة ستؤكد استحالة التعايش، وتعزز الميل إلى فصم الروابط بالمكان، نصرة لدين الله، ودفعا لفتنة الإقامة بين المشركين.

حين صدر الأمر الإلهي بالهجرة إلى يثرب، اكتملت أسباب القطع مع كل الروابط التي كان العربي حتى وقت قريب يدفع روحه فداء لها: الأسرة، والقبيلة، والعشيرة، والوثن، وكل ما يمت لحمية الجاهلية بِصلة. وبرز للوجود أنموذج فريد للمهاجر بدينه؛ لا يقبل مساومة ولا تلين عزيمته تحت ضغط أو إكراه. لذا شكل امتحان الهجرة تتويجا بالغ الأهمية للتربية المحمدية، وفي ذلك يقول صاحب الرحيق المختوم: لم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، و النجاة بالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مُستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل و أحزان”.

أوضح مثال على ميلاد المهاجر هي قصة أبي سلمة الذي كان في طليعة المهاجرين قبل العقبة الكبرى، كما قال بذلك ابن إسحق. لمّا قرر الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته. وحين بلغ الخبر أهله قالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعوها منه، فتجاذبوا بينهم الغلام الصغير حتى خلعوا ذراعه، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة.

توالت وفود المهاجرين في رحلة غيرت مجرى التاريخ، وأصبحت يثرب دار الأمن والإيمان، ومحكا للجماعة الثانية، جماعة الأنصار التي ستمتحن الأحداث التالية صدق وفائها بمواثيق البيعتين. وسيشهد التاريخ ميلاد الأنصاري الذي آوى ونصر، وعرض على أخيه في الدين أن يقتسم معه الأهل والأموال.

شكلت الهجرة منطلقا حاسما لكل ما تحقق بعدها من منجزات. وقدمت البرهان الساطع على أن بناء الفرد هو حجر الزاوية في كل حركة تروم صلاح المجتمع وبناء الحضارة. فكل الرايات المظفرة التي أخضعت المعمور لسماحة الإسلام وعدالته، كانت تخفق معها قلوب تربت في الكنف المحمدي. وسيظل حاضرنا مثقلا بأسئلة النهوض والفكاك من أسر التبعية، مالم تنبعث مجددا دعوة صادقة للهجرة..

هجرة من التقليد إلى الابتكار والإنجاز.. وهجرة من أنانية التملك إلى كينونة العطاء.. وهجرة من التفاوت وهضم الحقوق إلى عدالة التمكين !


(*)د.جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام.ج1