موضوع حوار الأديان سِمة جديدة كمصطلح، ولد سنة 1892 في الغرب، شأن الكثير من المصطلحات المعاصرة، المنبثقة تحت ظل سيادة الحضارة المدنية المعاصرة، لكن مفهومه جليّ جدا، وموقف الإسلام منه جزء لا يتجرأ من موقفه من التعامل مع غير المسلم المخالف في العقيدة: ذمّيّاً كان أو معاهداً أو مواطناً أو مقيماً. ومع وضوح الموقف الإسلامي في قبول الآخر والتعامل معه أخلاقياً بالبر والقسط، إلا أن بعض الغموض يعتري الأمر إما في مصداقه وتنزيل الواضح من هذه النظريات على أرض الواقع وقضاياه وأحداثه، وإما بتغليب خطاب داخلي آخر يفهم أصحابه الواضح من هذه المبادئ الإسلامية فهماً آخر ينتج منه الكراهية والعنف ونبذ الآخر كليّا، حتى تعطيل الكثير من النصوص الواضحات. فما هي المفاهيم التي لا تصح عن “حوار الأديان” ولا يدل عليها المصطلح؟

1. حوار الأديان لا يعني البتة التنازل عن مبدأ من مبادئ الإسلام، ولا يعني المداهنة والمجاملة على حساب الإسلام، فمن المغالطة والمصادرة على المطلوب أن يحمل حوار الأديان ويتعامل معه على المفاهيم الآتية:

  • ترك الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم
  • منع القول بأن كل دين ما عدا الإسلام غير مقبول
  • عدم الاهتمام بالدعوة وتبليغ رسالة الإسلام للناس. بل الصحيح أن الحوار دعوة بعينه.
  • إبطال العمل بمصطلحات الإسلام من كفر وإيمان. والصواب أن الحوار يقرّ بأن المسلم مسلم والكافر كافر..

2. حوار الأديان لا يعني المجادلة مع أصحاب الأديان الأخرى بالحسنى:

ورد لفظ “الحوار” و”الجدال” في آية واحدة: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي ‌تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة: 1]. حيث إن الصحابية الكريمة خولة رضي الله عنها كانت تجادل النبي لترَجعَ إلى زوجها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجادلها، بل حاورها كما يفهم من سياق القصة في كتب التفاسير. الجدال يعني المناقشة والأخذ والرد مع عاطفة وانفعال لإثبات وجهة نظر المجادل والرد على الآخر! بينما الحوار يعني تبادل الآراء وفهم ما لدى الآخر والاستماع إليه والتطلع إلى حلّ مناسب أو القدر المشترك.

فثمة فرق بين الحوار والجدل، فالجدال يتمثل في أعمال ذاكر نايك وأحمد ديدات وغيرهم، والكتب المؤلفة في الفكر الإسلامي عن الأديان بمنهج نقدي وجدلي، مثل الرد الجميل للغزالي والجواب الصحيح لابن تيمية، أما الحوار فيكون في مثل الدراسات الوصفية للأديان في الفكر الإسلامي، بما في ذلك: السلم في دراسة الأديان، وموضوع نبذ العنف في الأديان، وجريمة القتل، ومكافحة الفقر، وبرّ الوالدين في الأديان.

3. حوار الأديان ليس دعوة إلى خَلْق دين جديد بدل الأديان القائمة

مَن فهِم معنى كلمة “الدين” يُدرك عدم إمكانية الدعوة إلى وحدة الأديان. إن حوار الأديان لا يعني الخلط بين الأديان، ولا يعني السعي لإيجاد دين واحد، ولا طمس الفروق بين الأديان، ولا صحة جميع الأديان. أبدا، لا يعني شيئا من ذلك.

ولكن الحوار يعني لكم دينكم الذي تعتقدونه وتدينون به، ولي ديني الذي أعتقده وأدين به. وفوق ذلك تعالوا إلى كلمة سواء، والدعوة إلى ما قد يجمعنا مما يفيد الإنسانية رغم الفرق الكبير الذي نقرّ بوجوده بيننا. صحيح نحن مختلفون في العقيدة لكن لا يعني ذلك العداوة بالضرورة.

يمكن العمل على أن لا يهدم بعضنا معابد بعض: ﴿‌وَلَوْلَا ‌دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [الحج: 40]. ويمكن العمل على تعزيز الإنسانية السوية، وتحريك الفطرة السليمة، بتفعيل بنود الأخلاق في الأديان والثقافات: مثل محاربة العنصرية، ونبذ العنف، التعاون على إطعام جائع، كفالة يتيم، تعليم أميّ، إيقاف ظلم، نشر عدالة. وهكذا! ويكفي حلف الفضول عاضدا ودليلا للعمل الجماعي الأخلاقي رغم الخلافات. روى الإمام أحمد: “لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحبّ أن لي به حمر النعم[1].

ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «لقد شهدتُ فِي دَار عبد الله بن جدعَان حلفا، لَو دعيت بِهِ فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت، تحالفوا أَن يردوا الفضول عَلَى أَهلهَا، وَأَن لَا يَعُد ظَالِم مَظْلُوما». وقصة الحلف هو لنصر غريب مظلوم “الزبيدي” على شريفٍ “العاص بن وائل” من أهل مكة.

4. الحوار لا يعني فتح المجال لأعداء الإسلام والمستشرقين عن قصد: ولا هو ترويج للإسلاموفوبيا، ولا يعني التبرير والاعتذار للآخر، بل هو أسلوب علمي مهني مواكب وفعّال، لا يتعارض مع أسس الإسلام، ويعني بتقدير جهود الباحثين المنصفين عن الإسلام، وإتاحة فرصة بيان الإسلام بكل شموخ واعتزاز كما هو من نبعه لكل من يريد، وبيان جمال الإسلام في منصات تُعدّ لذلك يحضره العامة والخاصة من أتباع الديانات. وهذا دعوة وبيان.

5. الحوار لا يعني الركون والمودة لغير المسلم، بل التعامل بالبر والقسط، والعمل على الكلمة السواء. وقد بينت سورة الممتحنة الفرق بين الاثنين. إذ أولى آيات السورة وآخر آياتها تتحدث عن الولاء، ووسطها عن البر والقسط. فمن الولاء والبراء: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌لَا ‌تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ﴾ [الممتحنة: 1]

ومن البر والقسط: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]. وكلاهما في نفس السورة ولا نسخ فيها؛ لأنها أخبار: فيعمل بكل في محلّها.

6. حوار الأديان لا يعني الاصطياد في الماء العكر، ولا التعامل مع النوايا الخفية، ولا التركيز على المستغلين للحوار بتمرير أهدافهم عبر منصات الحوار. فالحوار مطلب إسلامي يُبنى على الظاهر الواضح، ويقوم على البراءة الأصلية في الإسلام، وعلى أن السلم هو الأصل وأنه لا عدوان إلا بعدوان ظاهر: ﴿‌وَإِنْ ‌جَنَحُوا ‌لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]. أما من استغلّ منصات الحوار فيكفيناهم قوله تعالى: ﴿‌وَإِنْ ‌يُرِيدُوا ‌خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الأنفال: 71]، وقوله: ﴿‌وَإِنْ ‌يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62].

7. حوار الأديان ليست منصة تبشيرية أو تنصيرية أو غيرها، فالذي يكتبه بعض الباحثين (بالمصادر العربية خاصة) ليس دقيقا بأن حوار الأديان بدأ بدعوة من رجال الدين النصارى، وكانت تحمل لذلك أجندة تبشيرية أو سياسية يهودية. بل يعود أول تجمع لقادة الأديان إلى 1892 في شيكاغو، لغرض مدني علمي لا ديني ولا سياسي (لدراسة أديان العالم وأثرها على أمريكا ولنشر السلم)، ما عرف بالحدث الأول لحوار الأديان. وذاك مجال آخر.

أخيرا، حوار الأديان مفهوم جديد يسعى إلى تطبيق ﴿‌تَعَالَوْا ‌إِلَى ‌كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ﴾ [آل عمران: 64] ، وإلى: ﴿‌لَيْسُوا ‌سَوَاءً ﴾ [آل عمران: 113] وإلى: ﴿‌لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13] ، وإلى: ﴿‌وَطَعَامُ ‌الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5]. يصدق عليه حلف المطيبين في الجاهلية، وحلف الفضول إقرارا به بعد النبوة، وميثاق المدينة، وغيرها من مواثيق وعهود وصلح وتعامل النبي مع غير المسلمين، ومفهوم الدعوة عامة.

يمكن خدمة الإسلام ودعوة الناس إليه بأحد المناهج الدعوية الآتية:

  1. بيان الإسلام ابتداء: وهو الأصل في البلاغ والدعوة، وهذا المنهج الدعوي جزء من نطاق الحوار، ففي الحوار بلاغ عن موقف الإسلام، إلا أنه يضاف إليه موقف الأديان الأخرى من نفس القضية بمنهج وصفي.
  2. الدفاع عن الإسلام ضد من شكك وطعن فيه، وهذا جدال وليس دور حوار الأديان، وله مجال آخر خاص، لكن من استفسر عن شي يبيّن له في الحوار، وفرق بين الاستفسار المجرد للعلم وبين التشكيك أو الطعن!
  3. بيان أوجه الاتفاق للتعاون في ذلك دون نسيان أوجه الاختلاف وهذا لبّ الحوار، خاصة في القضايا الإنسانية والأخلاقية.

وكل هذه الثلاثة وسائل دعوية، وقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الثلاثة. وينبغي استحضار الحكمة والموعظة الحسنة وتفعيلها في كلها عامة، وفي الجدال خاصة، لأن الجدال مظنة الانفعال، إذ هو ردة فعل بخلاف المنهجين السابقين، فإن الأصل فيهما مطلق الجواز، أما الجدال فيجوز المحمود منه فحسب.


[1]  «السنن الكبرى – البيهقي» (6/ 596 ط العلمية)