أحمد تمام

غلاف كتاب ابن مالك

“الألفية” نوع من المنظومات الشعرية في الفنون المختلفة، وقلَّما يخلو علم من علوم العربية من هذا النظم؛ حيث نجده في علم الحديث، والفقه، وأصول الفقه، والنحو، والبلاغة، والفرائض، وغيرها…، وتمتاز الألفية بأن أبياتها تبلغ ألفًا أو تقارب الألف أو تربو، ومن ذلك جاءت تسميتها بالألفية.

وصياغة العلوم نظمًا نشأت قديمًا بقصد التيسير على الدارسين للإلمام بالعلوم، وتذكر مسائلها، ومن أشهر ما عُرف من الألفيات: ألفية “ابن سينا” المتوفَّى سنة (370هـ = 980م) في أصول الطب، وألفية “ابن معط” المتوفَّى سنة (672هـ = 1273م) في النحو، وألفية “ابن مالك” المتوفى سنة (672هـ = 1273م)، وألفية “العراقي” المتوفَّى سنة (806هـ = 1404م) في علم مصطلح الحديث، وألفية “ابن البرماوي” المتوفَّى سنة (831هـ = 1427م) في علم أصول الفقه، وألفية “القباقبي” المتوفَّى سنة (850هـ = 1446م) في البلاغة، وكان للسيوطي المتوفَّى سنة (911هـ = 1505م) ألفيَّتان في علمي مصطلح الحديث والنحو.

غير أن ألفية ابن مالك في النحو هي أشهر الألفيات على اختلاف أنواعها وفنونها، وأصبح الذهن ينصرف إليها حين يُذكر اسم الألفية. وغدَت من الأصول التي لا يستغني عنها الدارسون للنحو حتى وقتنا هذا، وحسبك دليلاً على هذا أنها ما تزال حيَّة نابضة لم تضعفها كثرة السنين، وتغير الأحوال.

المولد والنشأة

في مدينة “جيَّان” بالأندلس وُلِد محمد بن عبد الله بن مالك الطائي سنة (600هـ = 1203م)، وكانت الأندلس تمرُّ بفترة من أحرج فترات تاريخها؛ حيث تساقطت قواعدها وحواضرها في أيدي القشتاليين النصارى. ولا يُعرف كثير عن حياته الأولى التي عاشها في الأندلس قبل أن يهاجر مع مَن هاجر إلى المشرق الإسلامي بعد سقوط المدن الأندلسية، ولا شك أنه حفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة قبل أن يتردد على حلقات العلم في بلده، ويحفظ لنا “المقري” في كتابه المعروف “نفح الطيب” بعض أسماء شيوخ ابن مالك الذين تلقى العلم على أيديهم، فذكر أنه أخذ العربية والقراءات على ثابت بن خيار، وأحمد بن نوار، وهما من شيوخ العلم وأئمته في الأندلس.

الهجرة إلى المشرق

هاجر ابن مالك إلى المشرق الإسلامي في الفترة التي كانت تتعرَّض قواعد الأندلس لهجمات النصارى، وكان الاستيلاء على “جيان” مسقط رأس ابن مالك من أهداف ملك قشتالة، وكانت مدينة عظيمة حسنة التخطيط، ذات صروح شاهقة، وتتمتع بمناعة فائقة بأسوارها العالية، وقد تعرَّضت لحصار من النصارى سنة (327هـ = 1230م)، لكنها لم تسقط في أيديهم. وأرجح أن يكون ابن مالك قد هاجر عقب فشل هذا الحصار إلى الشام، وهناك استكمل دراسته، واتصل بجهابذة النحو والقراءات، فتتلمذ في دمشق على “علم الدين السَّخاوي” شيخ الإقراء في عصره، و”مكرم بن محمد القرشي”، و”الحسن بن الصباح”، ثم اتجه إلى “حلب”، وكانت من حواضر العلماء، ولزم الشيخ “موفق الدين بن يعيش” أحد أئمة النحو في عصره، وجالس تلميذه “ابن عمرون”.

وقد هيأت له ثقافته الواسعة ونبوغه في العربية والقراءات أن يتصدر حلقات العلم في حلب، وأن تُشَدّ إليه الرِّحال، ويلتف حوله طلاب العلم، بعد أن صار إمامًا في القراءات وعِلَلها، متبحِّرًا في علوم العربية، متمكنًا من النحو والصرف لا يباريه فيهما أحد، حافظًا لأشعار العرب التي يُستشهد بها في اللغة والنحو.

ثم رحل إلى “حماة” تسبقه شهرته واستقر بها فترة، تصدَّر فيها دروس العربية والقراءات، ثم غادرها إلى القاهرة، واتصل بعلمائها وشيوخها، ثم عاد إلى دمشق، وتصدر حلقات العلم في الجامع الأموي، وعُيِّن إمامًا بالمدرسة “العادلية الكبرى”، وولِّي مشيختها، وكانت تشترط التمكن من القراءات وعلوم العربية، وظلَّ في دمشق مشتغلاً بالتدريس والتصنيف حتى تُوفِّي بها.

تلاميذه

تبوأ ابن مالك مكانة مرموقة في عصره، وانتهت إليه رئاسة النحو والإقراء، وصارت له مدرسة علمية تخرَّج فيها عدد من النابغين، كانت لهم قدم راسخة في النحو واللغة، ومن أشهر تلاميذه: ابنه “محمد بدر الدين” الذي خلف أباه في وظائفه، وشرح الألفية، و”بدر الدين بن جماعة” قاضي القضاة في مصر، و”أبو الحسن اليونيني” المحدِّث المعروف، و”ابن النحاس” النحوي الكبير، و”أبو الثناء محمود الحلبي” كاتب الإنشاء في مصر ودمشق.

مؤلفاته

كان ابن مالك غزير الإنتاج، تواتيه موهبة عظيمة ومقدرة فذَّة على التأليف، فكتب في النحو واللغة والعروض والقراءات والحديث، واستعمل النثر في التأليف، كما استخدم الشعر في بعض مؤلفاته، ومن أشهر كتبه في النحو: “الكافية الشافية”، وهي أرجوزة طويلة في قواعد والصرف، وكتاب “تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد” جمع فيه بإيجاز قواعد النحو مع الاستقصاء؛ بحيث أصبح يُغني عن المطوَّلات في النحو، وقد عُنِي النحاة بهذا الكتاب، ووضعوا له شروحًا عديدة.

وله في اللغة: “إيجاز التصريف في علم التصريف”، و”تحفة المودود في المقصور والممدود”، و”لاميات الأفعال”، و”الاعتضاد في الظاء والضاد”.

وله في الحديث كتاب “شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح”، وهو شروح نحوية لنحو مائة حديث من صحيح البخاري.

ألفية ابن مالك

والألفية هي أشهر مؤلفات ابن مالك حتى كادت تطغى بشهرتها على سائر مؤلفاته، وقد كتب الله لها القبول والانتشار، وهي منظومة شعرية من بحر “الرجز”، تقع في نحو ألف بيت، وتتناول قواعد النحو والصرف ومسائلهما من خلال النظم بقصد تقريبهما، وتذليل مباحثهما، وقد بدأها بذكر الكلام وما يتألف منه، ثم المعرب والمبني من الكلام، ثم المبتدأ والخبر، ثم تتابعت أبواب النحو بعد ذلك، ثم تناول أبواب الصرف، وختم الألفية بفصل في الإعلال بالحذف، وفصل في الإدغام.

ومن نظمه ما قاله في الكلام وما يتألف منه:

كَلامُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ كَاسْتَقِم

واسْمٌ وَفِعْلٌ، ثمَّ حَرْفٌ – الكَلِمْ

واحدُهُ كلِمَةٌ والقَوْل عَـمْ

وكِلْمَةٌ بها كـلامٌ قـد يُؤَمْ

بالجَرِّ والتَنْوِين والنِّدَا، وَأَلْ

وَمُسْنَدٍ للاسْم تَمييزٌ حَصَلْ

بتا فَعَلْتُ وَأَتت ويا افْعَلِي

ونُونِ أَقْبِلَنَّ فِعْلٌ يَنْـجَلِي

التزم ابن مالك في الألفية المنهج الاختياري الانتقائي، الذي يقوم على المزج بين مذاهب النحاة دون ميل أو انحياز، والتخير منها والترجيح بينها، وهو منهج التزمه في مؤلفاته كلها. كما توسَّع في الاستشهاد بالحديث النبوي، واتخذه أساسًا للتقعيد النحوي إلى جانب الاستشهاد بالقرآن الكريم بقراءاته المختلفة وأشعار العرب.

يُذكر لابن مالك أنه وضع عناوين جديدة لبعض مسائل النحو، لم يستخدمها أحد قبله من النحاة، مثل باب “النائب عن الفاعل”، وكان جمهور النحاة قبله يسمُّونه: “المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله”، و”البدل المطلق” بدلاً من قولهم “بدل كل من كل”، و”المعرف بأداة التعريف” بدلاً من “التعريف بأل”.

شروح الألفية

ولقد لقيت ألفية ابن مالك عناية كبيرة من العلماء، فقام بعضهم بشرحها وإعراب أبياتها، أو وضع حواشٍ وتعليقات عليها، وقد زاد عدد شرَّاح الألفية على الأربعين، من بينهم ابن مالك نفسه، وابنه “محمد بدر الدين” المتوفَّى سنة (686هـ = 1287م)، غير أن أشهر شروح الألفية وأكثرها ذيوعًا هي:

– أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك: للنحوي الكبير جمال الدين بن هشام الأنصاري المتوفَّى سنة (761هـ = 1359م)، وقد حقَّق هذا الكتاب العالم الجليل محمد محيي الدين عبد الحميد، وصنع له شرحًا باسم “عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك”، في أربعة مجلدات، وقد رُزِق الكتاب وشرحه القبول، فأقبل عليه طلاب العلم ينهلون منه حتى يومنا هذا.

غلاف كتاب شرح ابن عقيل

– شرح ابن عقيل لقاضي القضاة بهاء الدين عبد الله بن عقيل، المتوفَّى سنة (769هـ = 1367م)، وهو يمتاز بالسهولة وحسن العرض، وقد حقَّق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد هذا الكتاب، ونشره في أربعة أجزاء مع تعليقه عليه بعنوان “منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل”، وقد لقي هذا الشرح قبولاً واسعًا، ودرسه طلبة الأزهر في المرحلة الثانوية.

– “منهج السالك إلى ألفية ابن مالك” المعروف بـ”شرح الأشموني”، لأبي الحسن علي نور الدين بن محمد عيسى، المعروف بالأشموني، المتوفَّى سنة (929هـ = 1522م)، وهذا الشرح يُعَدّ من أكثر كتب النحو تداولاً بين طلبة العلم من وقت تصنيفه إلى الآن، وهو من أغزر شروح الألفية مادة، وأكثرها استيعابًا لمسائل النحو ومذاهب النحاة.

وبلغت العناية بأبيات الألفية أن قام بعض العلماء بإعرابها مثلما فعل الإمام “خالد الأزهري” المتوفَّى سنة (905هـ = 1499م) في كتابه “تمرين الطلاب في صناعة الإعراب”، كما قام بعض العلماء بشرح شواهد شروح الألفية، مثلما فعل “بدر الدين العيني” المتوفَّى سنة (855 هـ = 1451م) في كتابه “المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية”.

وفاة ابن مالك

كان ابن مالك إمامًا، زاهدًا، ورعًا، حريصًا على العلم وحفظه، حتى إنه حفظ يوم وفاته ثمانية أبيات من الشعر، واشتهر بأنه كثير المطالعة سريع المراجعة، لا يكتب شيئًا من محفوظه حتى يراجعه في مواضعه من الكتب، وكان لا يُرى إلا وهو يُصلِّي أو يتلو القرآن الكريم، أو يصنف أو يُقرِئ القرآن تلاميذه، وظلَّ على هذه الحالة حتى تُوفِّي في (12 من شعبان 672هـ = 21 من فبراير 1274م) في دمشق، وصُلِّي عليه بالجامع الأموي.

من مصادر الدراسة:

  • المقري: نفح الطبيب من غصن الأندلس الرطيب – تحقيق: إحسان عباس – دار صادر – بيروت – 1968م.
  • ابن شارك الكتبي: فوات الوفيات – تحقيق: إحسان عباس – دار صادر – بيروت – 1974م.
  • عبد الوهاب السبكي: طبقات الشافعية الكبرى – تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، ومحمود محمد الطناحي – هجر للطباعة والنشر – القاهرة – 1413هـ = 1992م.
  • عبد العال سالم مكرم: المدرسة النحوية في مصر في القرنين السابع والثامن من الهجرة – مؤسسة الرسالة – بيروت – 1410هـ = 1990م.
  • محمد كامل بركات: التعريف بابن مالك (مقدمة تحقيقه لكتاب تسهيل الفوائد) – دار الكاتب العربي – القاهرة – 1387هـ = 1967م.