مقدمة الأدلة العلمية والفلسفة المادية : قال أحمد أمين في كتابه (مبادئ الفلسفة) : (في إحدى حجرات الفاتيكان صورة شهيرة على حائط، صورها “روفائيل” تسم مدرسة أثينا. مركز هذه الصورة أرسطو وأفلاطون يحيط بهما أتباعهما وتلاميذهما وفيها يشير أفلاطون بإصبعه إلى السماء، وأرسطو يصغي إلى قوله في فتور مشيرا إلى الأرض. هذه الصورة تمثل تاريخ المذاهب في أثينا، بل وتمثل تاريخ الفكر الإنساني والنظريات الفلسفية في كل العصور. تمثل المادية والروحانية اللتين ثارت الحرب بينهما من ذلك العهد إلى الآن، فالروحانية تشير إلى السماء والمادية إلى الأرض) [1].

هنا لا يملك الإنسان نفسه من قول: كم كان جميلا لو كان إلى جانبهما شخص يشير بإصبع إلى السماء وبإصبع إلى الأرض، إذن لكان أقرب منهما إلى الحقيقة.

ماهية الفلسفة المادية ؟

الفلسفة المادية هي الفلسفة التي ترى أن المادة هي الوجود الوحيد في هذا الكون، وليس وراءها شيء آخر، وأنها هي أساس كل شيء وكل موجود، وليس هناك شيء اسمه الروح مستقلة عن المادة.

والمادة موجودة منذ الأزل وستبقى إلى الأبد؛ لأنه لا يمكن إفناؤها. فالمادة لا تفنى ولا تستحدث ولكنها تتغير من شكل إلى آخر. وللمادة صفات معينة كالكتلة واللون والحجم. وحتى الظواهر التي تبدو وكأنها غير مادية كالفكر والإرادة والعواطف ترجع في الحقيقة إلى المادة؛ لأنها نتاج عضو مادي هو المخ. لذا نرى أن أحد الفلاسفة الماديين المعروفين وهو “كارل فخت Karl Vogt” يقول: “إن المخ يفرز الفكر بيعين الطريقة التي يفرز الكبد الصفراء والكلية البول”[2]. وليس هناك تصريح سطحي مثل هذا التصريح، فلو كان الأمر هكذا، أي لو الفكر نتاج عضو مادي لكان المصارع الذي يملك جسدا أقوى من العديد من الفلاسفة مفكرًا من الطراز الأول..

ماذا تعرف عن تاريخ الفلسفة المادية ؟

تاريخ الفلسفة المادية تاريخ ضارب في القدم، إذ نراها لأول مرة في عهد طفولة الفلسفة في اليونان

فمن أشهر الفلاسفة الماديين نرى “ديمقريطس” ومن بعده “أبيقور”. ولكنها ضعفت فيما بعد أمام الفلسفة الروحانية حتى بعثت من جديد وبقوة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بعد تصاعد المعارضة في أوساط المفكرين والمثقفين ضد تصرفات الكنيسة وتعاليمها ومواقفها المعادية للعلم وللعلماء. كما اكتسبت زخمًا جديدًا من التقدم العلمي في هذين القرنين. فهذا العلم اغتر باكتشافاته واختراعاته وحسب أنه عرف كل شيء وأحاط بكل شيء، وأنه لم يبق هناك أي غموض في هذا الكون الواسع إلى درجة أن الأكاديمية الفرنسية اقترحت في أواخر القرن الثامن عشر سد وغلق قسم فحص المخترعات الجديدة على أساس أن العلم قد اكتشف كل شيء وأن المخترعات قد كملت فليس هناك مزيد من المخترعات!!.

من أشهر الفلاسفة الماديين في القرن التاسع عشر هو الفيلسوف الألماني” بوخنر” ومن أشهر كتبه في هذا الموضوع وفي الفلسفة المادية بشكل عام هو كتابه” القول الفصل في المادة”.

الأسس تترنح

ولكن أسس الفلسفة المادية بدأت تترنح في بداية القرن العشرين مع تقدم علم الفيزياء الحديثة وظهور النظرية النسبية والنظرية الكمية، فظهرت مدى سطحية دعاويها؛ لأن الفيزياء الحديثة بدأت تغير من النظرة السابقة إلى الكون والقوانين الجارية فيه.

أولا: ما هي المادة؟… كان من السهل في السابق القول بأنه لا وجود أي غموض في المادة فنحن نلمسها ونشمها ونقيس كتلتها… إلخ. كما أن القوانين الجارية فيها قوانين صارمة وثابتة، ومرتبطة بقاعدة (الحتمية Determinism). ولكن هذه المعتقدات وغيرها من المعتقدات الكلاسيكية تغيرت بعد ظهور النظرية النسبية الخاصة والعامة والنظرية الكمية (Quantum Theory). فقد ظهر أن من الصعب الوصول إلى كنه المادة التي بدت كأنها بئر لا قاع لها. فبعد اكتشاف أجزاء الذرة مثل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات ظهر أن هذه الأجزاء نفسها تتكون من أجزاء اصغر أطلقت عليها اسم الكواركات. واكتشف حتى الآن ستة أنواع من هذه الكواركات. كما ظهر هناك سيل من أجزاء دون الذرة كالنيوترينوات والكرافتون والمزون والكلاون… إلخ حتى أن العلماء دهشوا من هذا العدد الكبير وغير المتوقع لهذه الأجزاء دون الذرية؛ لأننا لم نكن نعرف حتى عام 1935 إلا ستة أنواع منها فإذا بها تطفر في عام 1955 إلى 18 نوعا.

أما الآن فقد زاد هذا العدد حتى تجاوز المائتين. كما ظهر (ضد المادة) أو (نقيض المادة). وانتهى الأمر بالمادة إلى أنها في الحقيقة طاقة مكثفة. والطاقة ليست مادة بل هي “القابلية على إنجاز شغل”. فهذا هو ما تشير إليه المعادلة الشهيرة لألبرت آنشتاين حول العلاقة بين المادة والطاقة وهي معادلة: 2 C E=M< /SPAN> حيث يمثل E مقدار الطاقة، ويمثل M كتلة تلك المادة، ويمثل C سرعة الضوء. أي أن مقدار الطاقة تساوي مقدار كتلتها في مربع سرعة الضوء.

إذن أصل المادة غير مادي، وليست هي بالبساطة المظنونة سابقا، والخواص والقوانين الجارية في مستوى الذرة -وكذلك في مستوى الثقوب السوداء- ليست هي القوانين الجارية في مستوى الحياة الاعتيادية. والفوتونات والإلكترونات وغيرهما من أجزاء دون الذرية تبدي طبيعتين متناقضتين في الوقت فهي تبدو مرة وكأنها قذيفة مادية لا تحتاج في سيرها وتنقلها إلى وسط مادي، وتبدو مرة أخرى وكأنها موجة من الموجات تحتاج إلى وسط يحملها. أي ظهر أنها تحمل صفتين نقيضتين في الوقت نفسه وهو أمر غير مفهوم تماما. أي فعالم الذرة عالم آخر، والقوانين الجارية في الذرة تختلف عن القوانين الفيزيائية التي نعرفها. وهذا الأمر وارد أيضا في الثقوب السوداء حسبما يقول العلماء. ولا نستطيع هنا التفصيل، ولكن كل من يتصفح كتابا في الفيزياء الحديثة يستطيع معرفة هذا الأمر.

إذن فمسألة المادة وكنهها ليست بالبساطة التي تخيلها الماديون وبنوا على فكرتهم الساذجة عن المادة فلسفتهم المادية.

اكتشافات أخرى توهن الأسس

علاوة على هذا فقد اكتشف العلم ظاهرة جديدة نقضت أيضا الفلسفة المادية. وإليكم التفاصيل:

كان من أعظم اكتشافات القرن العشرين اكتشاف جزيئة D.N.A في الخلية الحية في الستينيات من القرن العشرين، وهي الجزيئات التي تحمل خواص الكائن الحي. وكسب مكتشفها “فرنسيس كريك Francis Crick” جائزة نوبل في البيولوجيا. وقد ظهر أن كل جزيئة D.N.A تحوي بنكا ضخما من المعلومات، ولو قمنا بكتابة المعلومات المخزونة فيها لاحتجنا إلى 900 ألف صفحة تقريبًا. أي أن كل جزيئة من هذه الجزيئات تحوي معلومات تزيد عن المعلومات الواردة في الموسوعة البريطانية (المؤلفة من 34 مجلدًا) بأكثر من أربعين ضعفا!!… فتأمل!!. وحسب هذه المعلومات تجري جميع الفعاليات الحيوية المعقدة في الجسم من بناء لمختلف خلايا الجسم وتجديد مختلف الخلايا التي تموت ويجب تعويضها بخلايا أخرى من نوعها وليس من نوع آخر. فخلايا العين يجب أن تعوض بخلايا العين وخلايا الجلد بخلايا الجلد… إلخ. وكذلك القيام بصنع الآلاف من الجزيئات البروتينية وبمختلف أنواعها. وكذلك تجري في ضوئها عمليات إفراز مختلف الغدد في الجسم.

ولكن السؤال المطروح هنا هو: هل تستطيع المادة الصماء القيام بمثل هذه المهمة؟

أي هل تستطيع المادة القيام بالحصول على أي معلومات؟ أو إنتاج وإفراز المعلومات؟… الحصول على أو خلق هذه المعلومات ثم خزنها في هذه الجزيئات؟ وما هي وأين هي الآليات التي تملكها المادة للقيام بهذا العمل المبهر؟

هذا هو السؤال الذي يطرحه العلماء حاليا؟

وهل استطاع أي عالم من أنصار الفلسفة المادية الإجابة عن هذا السؤال؟ وهل يمكن اختزال هذه الظاهرة والادعاء بأن المادة تفرز المعلومات بشكل آلي؟… لا أحد!!.

لقد دلت جميع الأبحاث العلمية وجميع التجارب التي أجريت في هذا الخصوص بأن المادة عاجزة تمامًا عن القيام بمثل هذا الأمر.

إذن فالفلسفة المادية عاجزة تماما عن تفسير مثل هذه الظاهرة المهمة، أي ظاهرة وجود هذه المعلومات المخزونة في الخلايا.

إذن كيف تستطيع هذه الفلسفة القيام بتفسير الحياة كلها وهي عاجزة عن تفسير جزء صغير منها؟

يقول العالم الألماني “البرفيسور الدكتور وورنر كيت Prof. Dr. Werner Gitt” مدير المعهد الفدرالي للفيزياء والتكنولوجيا ما يأتي حول هذا الموضوع:

(إن أي منظومة لتسجيل المعلومات ناتجة على الدوام من جهد ذهني. ويجب الانتباه إلى أن المادة لا تستطيع القيام بتسجيل أي معلومة ولا تطوير أي منظومة في هذا الصدد. وقد دلت جميع التجارب بأنه لكي تظهر معلومة للوجود فلا بد من وجود عقل يقوم بهذا بإرادته الحرة وبخاصية الإبداع فيه. وليس هناك أي قانون في الطبيعة ولا أي مرحلة فيزيائية أو أي ظاهرة مادية تستطيع تأمين وإخراج أي معلومة إلى الوجود. أي لا يوجد أي قانون في الطبيعة ولا أي مرحلة فيزيائية تستطيع خلق معلومات بشكل تلقائي أو آلي)[3].

ولا يحسبن أحد أن هذه المعلومات موجودة في جزيئات D.N.A. العائدة للإنسان فقط، بل هي موجودة في الأحياء الأخرى من نبات وحيوان. فهل يعقل أن عقل الحيوان يستطيع إفراز معلومات في غاية التعقيد يعجز حتى عقل الإنسان ليس عن مثلها بل عن جزء من ألف جزء منها؟. وما قول الماديين في قيام النباتات بعمليات مذهلة كصنع الغذاء والتمثيل الضوئي؟ وأين هو مركز التفكير في النباتات لكي يفرز (حسب زعم الماديين) المعلومات الضرورية التي تحتاجها خلايا النباتات للقيام بوظائفها المذهلة التي يعجز الإنسان عن جزء صغير منها؟. إذ لولا هذه المعلومات المركوزة في بذور النباتات كتخطيط مذهل وبشكل شفرات ما استطاعت النباتات القيام بفعاليات وتفاعلات في تصنيع الغذاء واختيار الكميات المناسبة لها وبمقادير دقيقة جدا من الأملاح والماء من التربة لصنع الغذاء، ولا القيام بعمليات التمثيل الضوئي. وهي عمليات معقدة لم يستطع العلماء حتى تقليدها، ولو استطاعوا ذلك لصنعوا لنا التفاح والفواكه الأخرى والقمح والخضراوات…إلخ في المعامل.

المعرفة والمادة

وهذا العالم الألماني يعبر في الحقيقة عن النتائج التي توصلت إليها “نظرية المعرفة” التي تعد جزءًا من قانون الديناميكية الحرارية Thermody namic وهو القانون الذي جرت حوله دراسات مكثفة في السنوات الثلاثين الأخيرة. فهذه النظرية تسعى لمعرفة جذور المعلومات الموجودة في الكون ومصادرها وكيفية ظهورها. والنتيجة الأخيرة التي وصلت إليها هذه النظرية هي: إن المعرفة والمعلومة شيء آخر وهي مستقلة عن المادة ولا يمكن إرجاعها إلى المادة بأي حال من الأحوال. لذا يجب البحث عن مصدر كل من المادة والمعرفة بشكل مستقل الواحدة عن الأخرى.

مثلا لنأخذ جريدة أو مجلة أو كتابًا فسنرى أن الكتاب يتألف من ورق وحبر ومن المعلومات الموجودة فيه. هنا يجب التمييز بين الورق والحبر وبين المعلومات التي يضمها الكتاب. فالحبر والورق عناصر مادية. ومصادرها مادية أيضا فالورق من السليلوز والحبر من مواد كيمياوية.

أما المعلومات المندرجة في الكتاب فهي ليست مادية ومصدرها هو ذهن الكاتب. وهو يسطر أفكاره إما على الطابعة أو يسجلها في الحاسبة الإلكترونية ثم يرسلها إلى المطبعة. ونستطيع أن نقول بأنه حتى الورق والحبر والمطبعة لم تظهر بشكلها المنظم القابل للاستعمال إلا بفعل نشاط الذهن الإنساني، فالعقل الإنساني هو الذي خطط لصناعة الورق والحبر والمطبعة وجعلها صالحة للقيام بهذه المهمة.

فإذا طبقنا النتيجة التي توصلنا إليها على الطبيعة علمنا أن المعلومات الهائلة المخزونة في جزيئات D.N.A لا يمكن أن ترجع إلى أي مصدر مادي، بل هي خارج المادة ومن وراء هذه الطبيعة المادية التي نعرفها ونعرف عجزها عن توليد أي معرفة أو أي معلومات. أي أن المصدر الوحيد هو الخالق جل وتعالى.

وقد أصبحت هذه الحقيقة من البداهة والوضوح بحيث اضطر العديد من علماء الأحياء من أنصار نظرية التطور الاعتراف بها رغما عنهم. فمثلا نرى العالم التطوري “جورج وليامس George C. Williams”، وهو من أشهر المدافعين عن نظرية التطور يقول في مقالة له كتبها عام 1995م ما يأتي:

(لم يستطع علماء الأحياء من أنصار التطور إدراك أنهم يعملون في ساحتين مختلفتين، وهما ساحة المادة وساحة المعرفة. ولا يمكن أن تتوحد هاتان الساحتان في ساحة واحدة عن طريق “الإرجاع” أو “الاختزال”. والجينات هي رزم صغيرة للمعلومات أكثر من كونها مواد صماء. وعندما نتكلم عن مفاهيم في علم الأحياء مثل الجينات وحوض الجينات فنحن نتكلم عن المعلومات المخزونة فيها وليس عن مادتها. وهذا يبين لنا أن هناك ساحتين مختلفتين هما ساحة العلم أو المعلومات المخزونة وساحة المادة. لذا يجب البحث بشكل مستقل عن مصادر هاتين الساحتين المختلفتين)[4].

إذن فإن مصدر العلم لا يمكن أن يكون المادة نفسها كما تزعم الفلسفة المادية، بل هو من عقل لانهائي خارج المادة أعلى منها ومهيمن عليها، وموجود قبلها… هو الله رب العالمين وخالق كل شيء.

{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} الأنبياء :18 .

أورخان محمد علي كاتب علمي عراقي


[1] انظر: أحمد أمين (مبادئ الفلسفة) صفحة 146- 147

[2] انظر : أحمد أمين(مبادئ الفلسفة) صفحة 147 وكذلك انظر  إلى مادة (الفلسفة المادية الحديثة   Modern Materialism) في دائرة المعارف البريطانية Encyclopaedia Britannica

[3] Werner Gitt,” In the Beginning Was  Information”. CLV, Bielefeld, Germany,    صفحة 107 و 141

[4] George C.Willams,”The Third Culture:Beyond the Scientific Revolution”.(ed.John Brockman).New York,Simon & Schuster,1995 صفحة 42-4