يندر أن تجد باحثا في الثقافة العربية لم يرجع إلى كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي، ليرشده إلى ترجمة عَلَم من القديم أو الحديث، ويأخذ بيده إلى المظان التي يمكن أن يعود إليها إن أراد المزيد من التفاصيل عن الشخصية التي يبحث عنها.

ولم يأخذ هذا الكتاب مكانته بين الباحثين وأهل العلم إلا عن جدارة واستحقاق؛ فهو يجمع بين الدقة في تحرير الترجمة، والعناية بإبراز أهم ملامح المترجم له، مع الأمانة والموضوعية والإيجاز غير المخل.

وقد أنفق الزركلي السنوات الطوال في تأليف كتابه، وإعادة تحريره أكثر من مرة، مستعينا بعمله الدبلوماسي الذي هيأ له السفر والانتقال بما ساعده في أن يطالع المكتبات العامة في كثير من دول العالم، حتى خرج على الصورة التي نراها الآن: 8 مجلدات كبيرة، ومن عجب الأقدار أن المؤلف لم يعش حتى يرى الطبعة الأخيرة الأنيقة من كتابه التي صدرت بعد وفاته.

وأكسب هذا الكتاب مؤلفه شهرة واسعة، وبوّأ صاحبه منزلة كبيرة بين مؤرخي هذا الفن من أصحاب كتب التراجم، وأخفى أيضا جانبا من مواهب الزركلي فلا يعلم كثيرون أنه كان شاعرًا مجيدًا، له ديوان من الشعر العذب.

مولده ونشأته

في بيروت ولد خير الدين بن محمود بن محمد بن علي فارس الزركلي في ليلة (9 من ذي الحجة 1310هـ= 25 من يونيو 1893م)، ونشأ في دمشق حيث موطن أبيه وأمه؛ فهما دمشقيان، وتعلم في إحدى مدارسها الأهلية، وأخذ عن علمائها على الطريقة القديمة التي كانت سائدة آنذاك في التعليم، وتفتحت مواهبه مبكرًا فأقبل على قراءة كتب الأدب، وجرى لسانه بنظم الشعر، وصحب مخطوطات المكتبة الظاهرية فكان لا يفارقها إلا لساعات قليلة.

وفي هذه الفترة المبكرة من حياته أصدر مجلة أسبوعية بعنوان “الأصمعي” نشر فيها عصارة فكره المتقد، ونافح عن أمجاد العرب والعروبة، وكانت الشام آنذاك مسرحا لصراعات قومية بين العرب والترك، ولم تستمر المجلة فقد صادرتها الحكومة العثمانية، واضطر الزركلي إلى السفر إلى بيروت والتحق بمدرسة “اللاييك” أستاذا للتاريخ والأدب العربي وهو دون الخامسة والعشرين، وفي الوقت نفسه كان تلميذا بها يهوى دراسة الفرنسية.

ثم عاد إلى دمشق وأصدر سنة (1337هـ= 1918م) جريدة يومية باسم “المفيد”، وفي أثناء ذلك كان ينظم القصائد الحماسية التي تتغنى بأمجاد الوطن، ويتعلق بآمال الحرية والاستقلال حتى دخل الفرنسيون دمشق، وأطاحوا بحكومة الملك فيصل وقضوا على أماني سوريا في الاستقلال في (8 من ذي القعدة 1338هـ= 24 من يونيو 1920م) بعد أن استشهد كثير من شباب سوريا في معركة ميسلون الخالدة، وتم إعلان الانتداب الفرنسي، فغادر خير الدين الزركلي دمشق إلى عمان.

الزركلي في عمان

وبعد مغادرته البلاد قرر المجلس العسكري التابع للفرقة الثانية في الجيش الفرنسي الحكم غيابيًا إعدام خير الدين ومصادرة أملاكه؛ لأنه جاهر بعداء الفرنسيين في جريدته “المفيد” ونعتهم بالغدر والخيانة، ودعا أهل وطنه إلى مقاومتهم،وأشار إلى ذلك في إحدى قصائده بقوله:

نذروا دمي حنقا علي، وفاتهم أن الشقي بما لقيت سعيد
الله شاء لي الحياة، وحاولوا ما لم يشأ، ولحكمه التأييد

وفي عمان عُيِّن الزركلي مفتشا عامًا للمعارف سنة (1340هـ= 1921م)، ثم تولى رئاسة ديوان الحكومة، وفي خلال ذلك انطلق شعره معبرًا عن الأسى والحنين إلى دمشق، مذرفا أغزر الدمع عليها ينوح على دياره فيقول:

أبكي ديارًا خلقت للجمال أبهى مثال
أبكي تراث العزِّ والعزُّ غال صعب المنال
أبكي نفوسًا قعدت بالرجال عن النضال
أبكي جلال الملك كيف استحال إلى خيال
ضاعت بلادي يا زمان الصغار والاندثار
الناس يبنون وما في الديار غير الدمار

والقصيدة تقترب في جوها ونظمها من شعر المهجر في الأسلوب والمعنى والبحور والقوافي.

بين القاهرة والقدس

لم يستمر الزركلي في عمله كثيرا بعمان، فعاد إلى دمشق بعد إيقاف تنفيذ حكم الإعدام عليه، وأخذ عائلته واتجه إلى القاهرة سنة (1342هـ= 1923م) وكانت ملتقى الأحرار في العالم العربي وعاصمة الثقافة العربية، وأنشأ بها المطبعة العربية، وطبع بها كتبا كثيرة.

وفي أثناء إقامته بالقاهرة حكم الفرنسيون عليه ثانية بالإعدام سنة (1344هـ= 1925م) بعد اشتعال ثورة السوريين على الاحتلال الفرنسي، وكان لهذا النبأ وقع سيئ عليه، فاعتلّت صحته وباع المطبعة، واستجم 3 سنوات بدون عمل، زار خلالها الحجاز مدعوًا من آل سعود الذين آلت إليهم مقاليد الحكم هناك، وتمتّع برعايتهم.

ثم ذهب إلى القدس سنة (1349هـ= 1930م) وأصدر مع زميل له جريدة “الحياة اليومية”، لكن الحكومة الإنجليزية عطلتها، واتفق مع أصدقاء آخرين على إصدار جريدة يومية في يافا، وأعد لها مطبعة، لكن الجريدة لم يصدر منها سوى عدد واحد، وأغلقت أبوابها بسبب التحاقه بالعمل الدبلوماسي في الحكومة السعودية.

في العمل الدبلوماسي

عمل خير الدين الزركلي سنة (1353 هـ= 1934م) مستشارًا بالوكالة في المفوضية العربية للسعودية بمصر، وكان أحد المندوبين السعوديين في المداولات التي سبقت إنشاء جامعة الدول العربية وفي التوقيع على ميثاقها، ومثّل الحكومة السعودية في عدة مؤتمرات دولية، وانتُدب في سنة (1366هـ= 1946م) لإدارة وزارة الخارجية بجدة متناوبا مع الشيخ يوسف ياسين وزير الخارجية بالنيابة، ثم عين وزيرا مفوضا ومندوبا دائما لدى الجامعة العربية في سنة (1371هـ= 1951م)، ثم عمل سفيرا للسعودية بالمغرب سنة (1377هـ=1957م).

أعماله العلمية

لم تشغله أعماله الدبلوماسية عن الكتابة والتأليف وإن كف عن نظم الشعر، ولم تنقطع صلته بزيارة المكتبات ودور الكتب في أماكن مختلفة من العالم، وأثمرت جهوده عن عدة مؤلفات منها:

– ما رأيت وما سمعت، وهو عن رحلته الأولى من دمشق إلى فلسطين فالحجاز، وطُبع سنة 1923م.

– عامان في عمان، تناول فيه مذكراته عن عامين قضاهما في مدينة عمان.

– صفحة مجهولة من تاريخ سوريا في العهد الفيصلي.

الأعلام

غير أن أهم إنتاجه هو كتابه الفذ “الأعلام”، وهو يعد من أعظم الكتب العربية التي ظهرت في القرن الرابع عشر الهجري، ترجم فيه لنحو 13435 علما من القديم والجديد، معتمدا على ما يزيد عن ألف وبضع مئات من المصادر والمراجع المطبوعة والخطية، فضلا عن مئات الصحف والدوريات.

ولم يخرج هذا الكتاب مرة واحدة على الصورة التي عليها الآن، بل مر صاحبه برحلة كفاح طويلة استغرقت معظم حياته، فقد بدأ الإعداد في تأليفه في سن مبكرة من حياته وهو لا يزال صغير السن غض الإهاب، ثم صدرت طبعته الأولى في 3 أجزاء سنة (1346هـ= 1927م)، ثم سكت 30 عاما حتى صدرت طبعته الثانية سنة (1377هـ= 1957م) بعد مراجعة وتنقيح وإضافات، ثم استدرك على هذه الطبعة بأخرى مزيدة ومنقحة، ثم ظهرت الطبعة الرابعة الكاملة بعد وفاته سنة (1396هـ= 1976م).

والمنهج الذي التزمه لاختيار من يترجم لهم هو “أن يكون لصاحب الترجمة عِلم تشهد به تصانيفه أو خلافة أو ملك أو إمارة أو منصب رفيع كوزارة أو قضاء كان له فيه أثر بارز أو رئاسة مذهب، أو فن تميز به، أو أثر في العمران يذكر له، أو شعر أو مكانة يتردد بها اسمه، أو رواية كثيرة، أو أن يكون أصل نسب أو مضرب مثل”.

غير أن هذا النهج لم يلتزمه مع خلفاء الدولة العثمانية وكثير من أمرائها وولاتها، فأعرض عن الترجمة لهم؛ متأثرًا بنزعته القومية العربية وعدم ميله إلى الأتراك، وكان قد عاصر الصراع الذي شب في الشام بين حكّام الأتراك ورعاياهم من العرب، هذا في الوقت الذي عُني فيه بالترجمة لكبار المستشرقين.

وانتهج في كتابه الترتيب الألفبائي وإيراد الترجمة تحت اسم العلم الحقيقي لا تحت اسم شهرته؛ فترجمة المتنبي تحت اسمه (أحمد بن الحسين) لا تحت اسم شهرته، مع الإشارة تحت اسم الشهرة إلى الإحالة إلى موضع الترجمة تسهيلا للبحث، فحين يرد اسم المتنبي في حرف الميم يشير إلى اسمه الحقيقي الذي ترد فيه الترجمة. وحرص المؤلف على أن يلحق بالمترجم صورة له إن كان ذلك موجودًا أو نموذجا من خطه وتوقيعه.

وقد لقي الكتاب حفاوة وإقبالا من القراء والباحثين لأهميته، وتحريره المادة العلمية بدقة، وإرشاده إلى مراجع إضافية للمزيد، مع الدقة والإيجاز، ولم يعد يستغني عنه باحث أو تغفل اقتناءه مكتبة.

الأيام الأخيرة

ظل الزركلي موضع حفاوة وتقدير من المجامع العلمية؛ فانتخب عضوا بالمجمع العلمي العربي بدمشق سنة (1349هـ= 1930م)، واختير عضوا مراسلا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1366هـ= 1946م)، وبالمجمع العلمي العراقي سنة (1380 هـ= 1960م)، وظل بعد خروجه من العمل الدبلوماسي مقيما بالقاهرة التي عاش فيها أغلب حياته، وفي إحدى زياراته إلى دمشق أصابته وعكة صحية ألزمته الفراش بصفة أسابيع، فلما قرب على الشفاء رحل إلى القاهرة للاستجمام، لكن الحياة لم تطل به فوافته المنية على ضفاف النيل في (3 من ذي الحجة 1396هـ = 25 من نوفمبر 1976م) عن 83 سنة.

أحمد تمام –   باحث مصري في التاريخ والتراث.


هوامش ومصادر:

خير الدين الزركلي: الأعلام- دار العلم للملايين– بيروت– 1986م.

سامي الدهاق: الشعراء الأعلام في سوريا– دار الأنوار- بيروت– 1968م.

فضل عفاش: رجالات في أمة– دار المعرفة– دمشق– (1408هـ= 1988م).

محمود محمد الطناحي: الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم- مكتبة الخانجي– القاهرة– (1406هـ= 1985م).