من دلالات مادة “عقل” في اللغة كما في لسان العرب: الجامع لأمره، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، وقيل “العاقل” الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أُخذ من قولهم قد اعتقل لسانه إذا حُبس ومنع الكلام. والمعقول: ما تعقله بقلبك. والعقل: التثبت في الأمور. والعقل: القلب، والقلب العقل. وسُمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، وبهذا يتميز الإنسان من سائر الحيوان، ويقال: لفلان قلب عقول، ولسان سئول، وقلب عقول: فهم. وعقل الشيء يعقله عقلا أي فهمه.

ويمكن القول إن لمقصود بالعقل في التصور الإسلامي أمران:

أ- الأداة الغريزية في الإنسان التي يدرك بها الأشياء على ما هي عليه من حقائق المعنى، ويسميها بعضهم “العقل الغريزي” فهو الطاقة الإدراكية في الإنسان.

ب- ما توفره هذه الأداة الغريزية وتلك الطاقة الإدراكية من حصيلة معرفية وخبرة وفكرة ويسميها بعضهم العقل المكتسب فهو نتيجة للعقل الغريزي، وهو ينمو أن استعمل وينقص أن أهمل، وهو ما ذهب إليه الماوردي في الفكر الإسلامي، ويشبه مذهب كانط في الفلسفة الألمانية والذي يتحدث عن العقل المحض (الفطري)، والعقل التجريبي (العملي).

وينصرف معنى العقل أيضاً إلى “العقل الجمعى” لا عقل الإنسان الفرد فقط، فيكون معناه مجموع الطاقات الإدراكية للأمة والتي يدور حولها فكر الأمة وعلومها وخبرتها، حيث يعتد الإسلام بالقيمة الذاتية للفكر الإنساني باعتباره ناتج عقول الأمة وأهل النهى وأولي الألباب فيها. والتي ترسم مسار الفقه وحركته في التاريخ بين تواصل مع الأصول واجتهاد السابقين من ناحية، وتجديد واجتهاد من ناحية أخرى بما يحقق التراكم الفكري، ويستهدف تطوير حكمة الرؤية المقاصدية والفقهية بل والثقافية الحضارية التي تميز الأمة.

ضرورة العقل وأهميته في الشرع

لقد عُنِيَ الإسلام بالعقل عناية لم يسبقه إليها دين آخر من الأديان السماوية، فتقرأ قاموس الكتاب المقدس، فلا تجد فيه كلمة “العقل”، ولا ما في معناها من أسماء هذه الخاصية البشرية المتفردة التي فُضل الإنسان بها على جميع المخلوقات، لا لأن هذه المادة لم تذكر في كتب العهدين مطلقا، بل لأنها لم يعتد بها فيهما أساساً لفهم الدين ودلائله، والاعتبار به، فلم تتطور علوم حول النص كما تطورت في ظل الفقه والفكر الإسلامي، فلا الخطاب بالدين موجه إليه كما في الإسلام، أو قائم به وعليه، مثلما كان في هدي القرآن التفكر والتدبر والنظر في العالم من أعظم وظائف العقل. ومداخل العقيدة والإيمان.

أما ذكر العقل باسمه وأفعاله في القرآن الكريم فقد جاء زهاء 50 مرة، وأما ذكر أولي الألباب، أي العقول ففي بضع عشرة مرة، وأما كلمة أولي النهى (جمع نُهية- بالضم- أي العقول)، فقد جاءت مرة واحدة في آخر سورة طه. وهذا دليل على اعتبار العقل ومنزلته في الرؤية الإسلامية، كما نهى الشرع عن الاستدلال بالاعتماد على الظنون؛ لأن الظنون لا تغني من الحق شيئاً، ونهى عن اتباع الهوى وتحكيمه في الاستدلال بالنصوص.

وترجع أهمية العقل إلى الآتي:

1- بالعقل ميز الله الإنسان؛ لأنه منشأ الفكر الذي جعله مبدأ كمال الإنسان ونهاية شرفه وفضله على الكائنات، وميزه بالإرادة وقدرة التصرف والتسخير للكون والحياة، بما وهبه من العقل وما أودعه فيه من فطرة للإدراك والتدبر وتصريف الحياة والمقدرات وفق ما علمه من نواميسها وأسبابها ومسبباتها، فيعلو ويحسن طواعية والتزاما بالحق، وينحط ويطغى ويفسد باجتناب الحق واتباع الهوى… فالعقل الإنساني أداة الإدراك والفهم والنظر والتلقي والتمييز والموازنة بين الخير والنفع والضرر، وهو وسيلة الإنسان لأداء مسئولية الوجود والفعل في عالم الشهادة والحياة. والعقل بما أُودع من فطرة إلى جانب أنه الوسيلة الأساسية للإدراك فإنه يحوي في ذاته بديهيات المعاني والعلاقات بين الإنسان والحياة والوجود والكائنات، ويبني عليها منطقه ومفاهيمه الأساسية في هذا الوجود؛ ولأنه مناط تشريف وتكليف فهو مناط حساب ومسئولية.

2- العقل الإنساني وقدرته على الإدراك والتمييز والتمحيص هو وسيلة الإنسان إلى إدراك فحوى الوحي ووضعه موضع الإرشاد والتوجيه لعمل الإنسان وبناء الحياة ونظمها وإنجازاتها بما يحقق غاية الوحي ومقاصده. فبغيره لا يتم تنزيل النص على الواقع، والعقل ابتداء يميز بين الوحي الصحيح، وبين الدجل والخرافة والكهانة الكاذبة. فكما أنه وسيلة الإنسان إلى الفكر الصحيح والعلم النافع فهو وسيلته قبل ذلك إلى الهداية وإلى الإيمان بالوحي ورسالات السماء.

3- كذلك فإن العقل بما يملك من طاقات إدراكية أودعها الله فيه ذات دور مهم في الاجتهاد والتجديد إلى يوم القيامة؛ وذلك بالنظر إلى انقطاع الوحي، فالعقل له دور في استـقراء الجزئيات والأدلة التفصيلية التي يجمعها مفهوم معنوي عام، باعتباره مبنى من مباني العدل، وهى الأصول الكلية، والقواعد العامة التي تستـشرف مقاصد ومصالح إنسانية مادية ومعنوية يعبر عنها بالحاجات والمطالب، والعقل يرد الفروع والجزئيات التي تنزل في الواقع، وليس لها نص إلى الأصول والكليات المنصوصة من خلال ما عُرف بالقياس وغيره. والعقل يقيم النظم والمؤسسات التي يتذرع بها لتحقيق هذه الكليات والأصول والقواعد العامة في الواقع المتغير، وإلا فإن هذه الكليات والأصول من حيث ذاتها لا تحقق لها في الخارج إلا عن طريق تلك النظم التي يؤسسها النظر العقلي. ومن ثم كان العقل أداة وصل الدين بقضايا الواقع.

4- العقل مناط التكليف بخطاب الشارع طلباً أو كفًّا أو تخييراً أو وضعاً؛ لأن التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال، فالمجنون، والصبي الذي لا يميز، يتعذر تكليفه؛ لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب، فهو يتوقف على فهم تفاصيله. إذن فعماد التكليف العقل؛ لأن التكليف خطاب من الله ولا يَـتلقى ذلك الخطاب إلا من يعقل ويدرك معناه.

وهكذا تبدو ضرورة العقل وأهميته المصلحية بوصفه أصلاً من أصول المصالح التي بدونها لا مجال لوجود الإنسان ولا لحياته الاجتماعية من بقاء، كذلك بدون العقل لا يوجد مجال للتلقي عن رسالة الوحي بوصفها مصدراً للمعرفة والعلم والتوجيه، ولا مجال لمسئولية الخلافة الإنسانية وإعمار الكون دون وجود العقل وإعمال دوره ووظيفته في الفهم والإدراك والتمييز بين المصالح والمفاسد، ومن هنا كفلت الشريعة أحكام حفظه باعتباره كياناً وجودياًً في الإنسان، وضابطا لدوره ووظيفته في الكون.

قواعد الشريعة في حفظ العقل

ومن هذا المنطلق يأتي منظور الشريعة في حفظ العقل، سواء من جانب الوجود ابتداء بتحصيل منفعته أو من ناحية درء المفاسد عنه أو المضار اللاحقة به.

فأحكام حفظ العقل من ناحية الوجود، هي الأحكام التي تقيم أركانه وتثبت قواعده بحيث تثمر منفعته فكراً مستقيماً وعلوماً نافعة ومعارف صالحة تمكن الأمة من تحقيق مفهوم “الاستخلاف” في الأرض وعمارة الكون والحياة. ومن هنا شرع طلب العلم والتفكر والنظر والتدبر، وليس هناك دليل أسطع من افتتاح الله كتابه الكريم وابتدائه الوحي بهذه الآيات التي تأمر مرتين بالقراءة على الإطلاق دون تقييد بمقروء مخصوص، وتذكر مادة العلم على إطلاقه أيضاً ثلاث مرات، قال تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

وآيات القرآن التي تحث على العلم والنظر في آيات الله في الكون، والتفكر فيها بما يعمق الإيمان بالله أكثر من أن يتسع لها السياق هنا.

إن الإنسان يزداد عقلاً وتهذيباً وصقلاً بازدياد المعارف والعلوم. فيشير ابن خلدون إلى أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة، وأن خروجها من القوة إلى الفعل، إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل، وعقلاً محصناً، فتكون ذاتا روحانية وتستكمل حينئذ وجودها، فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلاً فريداً، والصنائع أبداً يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة، فلذلك كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً، والملكات الصناعية تفيد عقلاً، والحضارة الكاملة تفيد عقلاً، ومعاشرة أبناء الجنس، وتحصيل الآداب في مخالطتهم، ثم القيام بأمور الدين واعتبار آدابها وشرائطها، وهذه كلها قوانين تنتظم علوماً، فيحصل منها زيادة عقل.

وهكذا فإن مفهوم العلم -في الرؤية الإسلامية- الذي يفيد زيادة عقل، مفهوم شامل يتغيا معرفة الله والتقرب إليه، بما يحقق مهمة الخلافة في الأرض، وعمارة الكون والحياة، سواء كانت هذه العلوم نابعة من كتاب الله المقروء ممثلاً في القرآن الكريم أو نابعة من قراءة كتابه المنظور ممثلاً في الكون وسننه الطبيعية.

أما تدابير حفظ عقول الأمة من ناحية ما يدرأ عنها الخلل الواقع أو المتوقع فيتمثل في موقف الإسلام من صور الغلو والانحراف الفكري. والفكر قد يكون مجرد رأي وصل إليه العقل بطريقة أو بأخرى، وقد يكون عقيدة عند الاقتناع به وتحرك الوجدان نحوه، وانفعال النفس به انفعالا يظهر أثره في القلب والسلوك، ومن الانحراف في الرأي التعصب لحكم اجتهادي ليس له دليل قاطع في ثبوته أو دلالته. ومن الانحراف في العقيدة إنكار وجود الإله الخالق، وكذلك الغلو في الإيمان بوجوده، غلوا يتنافى مع ما يجب له من الجلال والجمال.

فأخطر أنواع الانحراف هو انحراف الفكر والبعد به عن القصد إفراطاً أو تفريطاً، ذلك أن السلوك نابع منه ومتأثر به، ولهذا كانت العناية بتقويم الفكر وتصحيح الاعتقاد هي أول نقطة في أي برنامج من برامج الإصلاح التي جاء بها الأنبياء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. والقلب أحد معاني العقل كما سبق.

والانحراف الفكري ينتج عن خلل في البناء الفكري، وهذا الخلل قد يعود إلى الأمور الآتية أو إلى أحدها:

1-الجهل بأصول التشريع: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، أو الإعراض عن الأخذ بهذه الأصول أو إحداها، مثل من سموا أنفسهم بالقرآنيين الذين لا يرون في غير القرآن حجة، وينكرون حجية السنة.

2-الجهل بمناهج التعامل مع هذه الأصول، كالجهل بمآخذ الأدلة وأدوات الاستنباط أو الجهل باللغة العربية -لغة الوحي- وأساليبها، وإجمالاً بمنهج تحليل نصوص الوحي واستنباط الحكم منها.

3-وجماع الأمرين السابقين صدور الاجتهاد من غير أهله مع الجهل بمقاصد الشريعة والمصالح المعتبرة شرعاً.

والانحراف الفكري والعقائدي كانت له آثار سياسية خطيرة في الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي ارتبطت بالموقف من النظام السياسي والقيادة السياسية، وعرفت فقهاً بقضية الخروج على الحكام، وتكفير المجتمع، وكانت قضية الإمامة هي المركز الذي استقطب أصحاب هذا الفكر في أول خلاف سياسي في تاريخ الإسلام ممثلاً في فكر الخوارج والشيعة. وظاهرة الانحراف والغلو الفكري لبعض تيارات لصحوة الإسلامية تعود في بعض أسبابها إلى الخلل في البناء الفكري والمنهجي، الذي أدى إلى كثير من السلبيات والمواقف التي تـتـناقض مع المقاصد والمصالح الشرعية العامة للأمة.

درء تعارض العقل والنقل

بين حفظ الدين وحفظ العقل في التصور الإسلامي ارتباط وثيق، لما لهما من أهمية عظمى في حياة الأمة وكيانها العقيدي والفكري والسياسي. وإذا كانت الفلسفة الغربية قد وضعت الفكر الوجودي الذي يبحث في جوهر الإنسان وغاياته وتحققه في هذا الوجود كمنهج عقلي “تحرري” في مواجهة الدين فإن رؤية التوحيد الإسلامية والتي ينبثق عنها مفهوم الاستخلاف تربط بين التوحيد والوجود، وبين العقل والتقل.

وبين الإنسان والكون في علاقة مركبة لا تناقض فيها ولا تعارض مع خالقه، بل تتكامل المفاهيم وتتضافر من أجل “تحرير” الإنسان من عبودية الطبيعة أو ألوهية الهوى والمنفعة المادية الضيقة التصارعية بسبيل أفق رحب يجعل الإنسان سيد في الكون وخليفة لرب هذا الكون، ويجعل العلاقات بين البشر أصلها التعارف، والتدافع الخلاق.

هذا الرب الذي يبين النص القرآني أنه علم آدم الأسماء كلها وعلَّمه ما لم يكن يعلم، في مقابل تصورات الإله في التراث الغربي القديم التي يصارع الرب فيها الإنسان، ويحتكر المعرفة، ويسعى لمنع الإنسان من الحصول على شعلتها المقدسة، أو تصورات الرب في العهد القديم التي يخشى الرب فيها من اتحاد البشر وقوتهم فينزل ليبلبل عليهم ألسنتهم (من هنا اسم مدينة بابل في رأي بعض المؤرخين)، أو تحتكر المؤسسة الدينية أسراراً، مثل سر العقيدة، أو سر طقوس العبادة، أو سر عقد الزواج -بوكالة عن الله- فلا تتاح تلك الأسرار للإنسان المؤمن بل يستأثر بتلك المعرفة سلك رجال الدين كوسيط بين الله والبشر.

وما بين الدين والعقل علاقة ارتباط وثيقة العرى وهي علاقة وظيفية متبادلة تتعلق بدور العقل في فهم وتطبيق الوحي، ودور الوحي في توسيع مدارك ومدارات العقل ومصادر معرفته، وإساءة فهم هذه العلاقة أو القصور في فهم أبعاد ودور كل منهما ونطاقه يولّد انحرافا في التفكير والاعتقاد والسلوك. فلو تخيلنا دائرة مركزها الإنسان، ونهايتها ملكوت السماوات والغيب، فإننا نجد ثلاث دوائر لوسائل العلم والمعرفة (بعد دائرة الوجدانيات والحدس)

الأولى: دائرة الحواس، وهذه تختص بإدراك الأعراض الحسية في عالم المشاهدة والمادة.

الثانية: دائرة العقل التي تبدأ من حيث تنتهي دائرة الحواس، حيث يقوم العقل بعملية الربط بين الجزئيات بعد تلمس العلل والأسباب، ويأخذ من تلك الجزئيات كليات مجردة عن المادة، وبهذا تكون الدائرة الأولى مقدمة للدائرة الثانية.

الثالثة: دائرة الوحي وهي المحيط الذي لا شاطئ له ولا يعلم مداه إلا الله، ولا يستطيع العقل أن يجاريه في الغيب المجهول، ولكن يكون مسترشداً به ومتبعا لهدايته وإشاراته في إدراك الحقائق الغيبية؛ لأن العقل محدود، وله مدى لا يتعداه، وبالتوازي مع ذلك فإن العقل من جهة أخرى وسيلة إدراك خطاب الوحي، وأساس الإلزام بتكاليف الشريعة وأحكامها ولذلك فإن عدم العقل يسقط التكليف والمخاطبة بالوحي، كما أننا نجد كثيراً من جزئيات الوحي يقوم العقل بربطها بكليات عامة عن طريق الإلحاق والقياس. ولكن الوحي حاكم، والعقل محكوم في مجال التشريع واعتبار المصالح؛ لأن العقل لا يستقل وحده بإدراك أحكام أو تقدير المصالح والمفاسد أو معرفة الحسن والقبيح دون هدي من وحي أو إرشاد من سنة النبي، أو اجتهاد ينبني على فقه عميق بهما.

يقول الإمام الشاطبي: “إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكـون متبوعـا، ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل”.

ومن هنا فإن الاعتداد بالوحي ظاهراً دون إعمال العقل، أو الاعتداد بالعقل وتقديسه وتقديمه على الوحي أوقع كثيرا من الفرق الإسلامية في الصراع والنزاع، سواء كان ذلك بين أهل السنة والاعتزال أو بين أهل الشريعة وأهل الفلسفة، أو بين أهل التصوف وغيرهم، أو بين أهل الرأي وأهل الحديث… الخ، ويمكن اعتبار تصور العلاقة بينهما أحد محاور تصنيف مدارس الفكر والفقه والتأريخ لها في مسيرة العقل المسلم منذ عهد الصحابة وحتى اليوم.

ويلاحظ القارئ لكتاب الله كثرة ورود وذكر الوظائف العقلية في القرآن من التدبر والتفكر والنظر والتعقل، وأهل هذه العمليات العقلية الذين هم أولو النهى وأولو الألباب، والحث على النظر في خلق السماوات والأرض وما فيهن من آيات الله الدالة على حكمته وقدرته وأن تعطيل هذه الوظائف وإهمالها سبب عذاب الآخرة، يقول تعالى على لسان هؤلاء: “وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ” (سورة الملك:10)

فالدين والعقل أصلان من أصول العقيدة، وبهما تُقاس مصالح العباد، ويعرف ما ينفع الناس، ويتعلقان بالكيان الحضاري للأمة، ومنطق فكرها ورؤيتها للكون والحياة بين الأمم والملل، وقد وضعت الشريعة أحكام المحافظة عليهما، كما كفلت الشريعة حفظ الحواس باعتبارها من مصادر العلم والمعرفة التي ذكرها القرآن الكريم، ورتب الشرع مسائل وأحكام حفظ الأنفس، وحفظ الجسد، واحترامه واعتبار حاجاته وغرائزه وتنظيمها، فلا ازدواج أو تعارض بين عقل ووحي، ولا بين جسد وروح، ولا بين عقيدة ومنافع الناس، ولا بين حقوق الفرد وحق الجماعة، ولا بين الخصوصية ومسئولية التضامن الجماعي، ولا بين دين ودنيا، ولا بين دنيا وآخرة.

تصورات الديـن وتصورات العقل

ربما كان الحديث في منزلة العقل في الإسلام ينبغي أن يبدأ بتعريف الدين في التصور الإسلامي، فليس الدين محض شعائر روحية، ولا هو أساطير موروثة وخرافات مروية، ولا هو قيد على العقل يسلم الإنسان لمؤسسات وكهنوت وسلطة مؤسسية، ليس الدين هذا ولا ذاك كي يوضع في مواجهة العقل فتصبح “العقلانية اللادينية” شرط التنوير والنهضة والتقدم، بل الدين في الرؤية الإسلامية يطلق على رؤية الوجود والمعرفة والذات والمآل التي تنتظم في تصور أيًّا كان هذا التصور، فلا يستغني مجتمع عن تلك المنظومة لإدارة شئونه، ولا ينفك إنسان عن تصور ما لهذه الأبعاد، سواء أكان دينا اتبعه أو تصورا وضعيا اعتنقه.

ومن اللافت أن القرآن أسمى الكفر ديناً، أي أن الدين هو وصف لرؤى الحياة والعالم التي يتبناها فرد أو جماعة أيًّا كان المصدر، وبغض النظر عن ملامح ومضمون هذه المنظومة. ففي سورة الكافرون – الآية 6 يقول تعالى: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ”. وقال تعالى في سورة آل عمران-الآية 85: “وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.

إن من حكمة الله أن جعل هدف رسالات الأنبياء كلها هي تبليغ الحق والدعوة إلى “الإسلام”، وهي تسمية بمصدر أسلم إذا أذعن ولم يعاند، والإذعان اعتراف بحق لا عن عجز بل تسليم بعد بحث ونظر وتعقل، ثم هو إرادة حرة في القبول مصداقاً لقوله: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، ومصداقاً لدعاء الرسول الذي يجعل العقيدة والإيمان متأسساً على “الرضا” بالله ربًّا وبالإسلام ديناً، وفي المقابل يصف القرآن الإصرار على الكفر رغم البينات ورغم “عقلانية” الرسالة وقابليتها للفهم والتدبر بأنه كبر واستعلاء يورث صاحبه الذلة والخسران يوم القيامة


 د. فوزي خليل