إذا كان هدف الإدارة الرسمية الدولية للديون هو استنزاف المدينين لنقل الثروات التي لا حصر لها من الجنوب إلى الشمال! وأن يشنوا حربًا غير معلنة على القارة الفقيرة وشعبها؛ فإن سياستهم لتحقيق ذلك قد نجحت نجاحًا منقطع النظير، واذا سلمنا أن هذه السياسة تهدف -كما تزعم مؤسساتهم دائمًا- إلى تقديم منافع التقدم لكل أفراد المجتمع وليحافظوا على بيئة فريدة ومثالية وليقللوا عبء الدين نفسه فيمكننا القول: إن فشلهم في تحقيق ذلك يسهل جدًا إثباته.

وسنتكلم عن أشد مظاهر هذا الفشل وطأة فهو-إلى جانب وضوحه الشديد- يعتمد على وجهة نظر مالية:منذ بداية أزمة الديون في عام 1982 وحتى عام 1990 -وفي كل شهر ولمدة 108 شهر- أحيل مبلغ 6.5 بليون دولار من الجنوب إلى الشمال أو تحديدًا من البلاد المدينة في الجنوب إلى البلاد الدائنة في الشمال، وهذا المبلغ يمثل الفوائد فقط، ولو أنه اشتمل على أقساط الدين نفسه لكان إجمالي المبلغ المدفوع 12.45 بليون دولار، فما مصير هذه الأموال وماذا حدث لها؟ وكيف يمكن أن نقيس تدفُّق الثروات من الجنوب إلى الشمال؟

أحيلت هذه الأموال إلى البنوك الخاصة والدول الدائنة والمؤسسات العامة العالمية، ويرجع الفضل في ذلك إلى دموع وآهات وتوجع المئات من الملايين.
نظريًا الفوائد المدفوعة من دول العالم الثالث كافية لتقديم 1000 دولار لكل رجل وامرأة وطفل في الشمال وفي دول أوروبا خلال فترة 9 سنوات.
أما عمليًا فبالطبع لا يحصل الناس في الجنوب على هذه الميزة على الرغم من الثروات التي لا حصر لها والتي تنتقل من الدول النامية إلى الدول الغنية، بل إن سكان الجنوب كما سنرى لاحقاً يدفعون العديد من الغرامات بسبب السياسات البلهاء للقروض التابعة لحكوماتهم وبنوك دولهم.

مظهر آخر من مظاهر الفشل يتمثل في تدخلهم في إدارة اقتصاديات الدول المدينة، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يعملان باجتهاد لتحقيق مصالح الدول الدائنة، التي تمثل أكبر المساهمين بهما، وعملهم هذا بسيط للغاية: “ضمان أن الدين مخدوم”، وهكذا فإن الهدف الأساسي من إدارتهم الاقتصادية هو: تجميع العملة الصعبة الكافية لضمان مستوى معين من المدفوعات (كالتي ذكرناها من قبل)، ولتجميع العملة الصعبة فإنه يتعين على أي دولة زيادة الصادرات وتخفيض الإنفاق. ولن نشرح هنا كيف تستطيع الدول أن تقوم بذلك، لكننا فقط سنذكر أن الدول المدينة ملزمة -كي تكون حرة للارتباط ببرامج إصلاحية- أن تدفع ما عليها من ديون.

إن هذه المساعدات التي لم يسبق لها مثيل من الفقراء إلى الأغنياء ربما تكون مجحفة، لكنها ليست حسابيًا الحقيقة الوحيدة التي زيفت.فتبعًا لمنظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية وما بين عام 1982 وحتى عام 1990 كانت الثروات التي أحيلت للدول النامية تقدر بنحو 927 بليون دولار، ومعظم هذه الموارد والثروات لم تكن في هيئة هبات، وإنما كانت عبارة عن دين جديد يترتب عليه مدفوعات وفوائد جديدة واجبة الدفع في المستقبل.
وخلال نفس الفترة دفعت الدول النامية للدول الدائنة فقط كخدمة للديون 1345 بليون دولار.

ولتقديم صورة صادقة عن تدفق الموارد يجب أن تضيف الكثير من التدفقات العينية والمالية الأخرى التي تخرج من الجنوب إلى الشمال مثل “إتاوات” حقوق الملكية الفكرية، وإعادة تحويل أرباح المشروعات الأجنبية إلى الخارج، والمواد الخام مبخوسة السعر، وما شابه ذلك، وهكذا يكون الفرق بين الوارد لهذه الدول والخارج منها -وهو 418 بليون دولار (927-1345) لصالح الدول الغنية- أقل من الواقع بكثير.

وهل ساهمت هذه التدفقات الخارجة في تخفيض عبء الدين المطلق؟ للأسف لا.فبالرغم من ضخامة حجم خدمة الدين الكلية -شاملة أقساط السداد التي تتجاوز 1.3 تريليون دولار في الفترة 1982-1990 إلا أن الدول المدينة في مجموعها دخلت عقد التسعينات بزيادة 61% في ديونها عما كانت من قبل عام 1982؛ فقد زادت ديون منطقة إفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 133% خلال نفس الفترة، وبصفة عامة ارتفع عبء الدين للدول الأكثر فقرًا، والتي يطلق عليها الدول منخفضة التنمية إلى 110%.

السياسات الإقتصادية وتدفُّق الثروات من الجنوب إلى الشمال

إن السياسات الاقتصادية المفروضة على الديون لم تعالج أي شيء على الإطلاق، بل على العكس فقد سببت معاناة أسوأ للبشرية؛ إذ قامت بتدمير شامل للبيئة والأوضاع الاجتماعية، وأدت إلى نضوب موارد الدول النامية مما يجعلها كل سنة أقل قدرة على سداد خدمة دينها السنوي، فما بال استعادة مواردها البشرية والاقتصادية؟!
المسئولون عن برامج الإصلاح الهيكلي في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا يمكنهم إرجاع فشل هذه البرامج لعامل الوقت، فهم لا يستطيعون الشكوى بأن برامجهم لم تُعطَ الوقت الكافي كي تعمل وتحقق أهدافها.
إن أي مدير لجمعية عامة أو مكتب خاص محلي من الممكن أن يطرد لسوء الخدمة (الأداء)، ولا تطبق هذه المسألة على البيروقراطيين العالميين الذين يعملون دائمًا لمصلحة الحكومات الدائنة، فالمتحكمون في إدارة الديون العالمية لا يخضعون أبدًا لمحاكمة من ضحاياهم، وردهم الوحيد يكون لرؤسائهم الذين لا يخضعون أيضًا لأي نوع من المسائلة، فهم في أعلى شجرة البيروقراطية.

المتحكمون في إدارة الديون يطالبون بزيادة الصادرات وتخفيض النفقات العامة وهم بالتأكيد لا يشعرون بآثار البطالة، والتخفيض الشديد للرواتب، وآثار تقليل الخدمات العامة التي تتبع تطبيق هذا المطلب، وحتى اللامركزية التي يطبقونها لا تفيد الاقتصاد، وسيصعب عليهم للغاية إثبات غير ذلك؛ عندما تم تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي في المؤسسات المحلية والعالمية في البلاد المدينة زادت أرباح هذه المؤسسات، لكن ذلك كان نتيجة أن هذه البرامج كانت تخفيض المرتبات وتطبيق اللامركزية.
وبالنسبة للكثير من البنوك العالمية فإن مدفوعات خدمة الدين بفائدة كبيرة جدًا في أواخر الثمانينات ساعدت في تمويل سجلات الربح ولسنوات عديدة؛ لذا فإنه من منظور هذه البنوك قد نجح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي نجاحًا منقطع النظير.

برنامج فاشل

ولم ير علية القوم في دول العالم الثالث أي سبب للشكوى، فلقد نجحوا في اجتياز عقد الثمانينات بسهولة نسبية، وقد ربحوا الكثير من الأموال واستفادوا من هبوط المرتبات، وأموالهم في مأمن خارج البلاد بالدولار الأمريكي أو الفرنك السويسري. وفي كل مرة يطالب الصندوق الدولي بتخفيض العملة المحلية لتشجيع التصدير فإن أولئك الذين يحتفظون بالعملة الأجنبية يصبحون أغنى وبطريقة أتوماتيكية وهم في منازلهم.
اقتصادياً واجتماعيًا وبيئيًا: برنامج الإصلاح الهيكلي برنامج فاشل، بل وأصبح يمثل كارثة، لكن ذلك لا يردع أبدًا صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي. ويمكن تفسير مثابرتهم -ولو جزئيًا- بالتشجيع الصريح الذي يتلقونه من جهات معيّنة، والحكم على نشاطات البنك الدولي وصندوق النقد يعتمد اعتمادًا تامًا على الذين يخدمون كهيئة المحلفين.
وعلى الناحية الأخرى فإن عدم اتحاد الدول المدينة سيؤدي وبالتأكيد إلى استنزاف اقتصادهم، وإلى استمرار تدفُّق الثروات من الجنوب إلى الشمال.


سوزان جورج – باحثة في علاقات الشمال – الجنوب