مع توقيع اتفاقية التجارة العالمية المعروفة باسم “الجات” والاتفاقيات الملحقة بها، ومنها اتفاقية الجوانب التجارية الخاصة بحقوق الملكية الفكرية والمعروفة اختصارًا باسم “التربس”.. أصبحت هذه الاتفاقية ملزمة لكل الدول الأعضاء الموقعة عليها، وأصبحت تلك الدول مطالبة بتوفيق تشريعاتها مع بنود الاتفاقية وقانون المنظمة الدولية لحماية حقوق الملكية الفكرية “الوايبو” (Wipo).

وإذا كانت بعض التحليلات ترى أن هناك أغراضًا خبيثة وراء إصرار الدول المتقدمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية على تطبيق الاتفاقية، ومنها الهيمنة على المعرفة والتكنولوجيا لكي تضمن تبعية الدول النامية لها وعدم انتقال المستحدثات التكنولوجية إليها، فإن هناك تحليلات أخرى ترى أن الدول النامية تستطيع أن تتحلل من بعض الالتزامات وفقًا لمصالحها الوطنية، وأن هناك بنودًا لهذه التيسيرات في اتفاقية “التربس”، وكذلك من خلال القوانين المحلية التي يمكن أن تتضمن إجراءات لمنع الاحتكار وسوء استغلال حقوق الملكية الفكرية، وهو ما تحقق إلى حد ما في مشروع القانون المصري الذي انتهى مجلس الشورى أخيرًا من مناقشته.

يُذكر أن منظمة التجارة العالمية عقدت منذ إنشائها منذ عام 1947 ثماني جولات، كان أهمها دورة أوروجواي (1986-1993) التي تضمنت أحكامًا جديدة، وشملت أنشطة اقتصادية وتجارية وتكنولوجية وفكرية؛ بهدف وضع إطار قانوني ينظم الوضع التجاري العالمي بين أكثر من 130 دولة هي دول الجات التي تتعامل في أكثر من 90% من حجم التجارة العالمية.

وتعد اتفاقية التجارة المرتبطة بحقوق الملكية الفكرية المعروفة باسم “التربس” من أهم اتفاقات الجات؛ نظرًا لما أثارته من جدل واسع حول إقرارها نتيجة لتعارض المصالح بين الدول الغنية والدول الفقيرة.

أيهما أولى: الأرواح أم الأرباح؟

من أخطر المجالات التي تثير المخاوف تجاه الاتفاقية الدولية وقوانين حماية حقوق الملكية الفكرية، مجال صناعة الدواء الذي يتوقع ارتفاع أسعاره بعد تطبيق أحكام “التربس” عام 2005، وهو موعد انتهاء فترة السماح التي منحتها منظمة التجارة العالمية للدول النامية، حيث يحذر الخبراء من أن أسعار الأدوية سوف تقفز إلى أرقام خيالية.

ويؤكد د. “جلال غراب” رئيس الشركة القابضة للأدوية في مصر أن تطبيق الاتفاقية الدولية سيتيح أمام الشركات العالمية متعددة الجنسيات فرصًا أكبر لغزو الأسواق بإنتاجها من الأدوية القديمة التي كانت تنتجها شركات محلية بتراخيص منها في الماضي، ولن تمنحنا هذه الشركات العالمية تراخيص لإنتاج الأدوية الجديدة، وسنضطر إلى استيراد المواد الخام من هذه الشركات بأعلى الأسعار، وسيترتب على ذلك ارتفاع سعر الدواء، وإن القول بأن أمامنا 96% من الدواء نستطيع إنتاجه بمفردنا غير صحيح.

ويضيف د. غراب: إن هناك خسارة مؤكدة في صناعة الدواء المصرية وفي سائر دول العالم الثالث مع تطبيق “الجات” و”التربس”؛ حيث إن الدول التي سبقت في تنفيذ أحكام هذه الاتفاقيات الدولية لحقت بها خسائر قدرها 14 مليار دولار خلال سنة بسبب فروق الأسعار، ويقترح إنشاء هيئة لتنظيم صناعة الدواء في مصر؛ لأن جميع الشركات تنتج نفس الأدوية تقريبًا وللاهتمام بالتطوير والبحث العلمي في هذه الشركات لمواجهة الآثار السلبية المتوقعة على صناعة الدواء.

كما يؤكد على أهمية إنشاء صندوق لموازنة أسعار الدواء الذي جاء في مشروع قانون حماية حقوق الملكية الفكرية لمواجهة كارثة ارتفاع أسعار الدواء، التي جعلت دولة مثل جنوب إفريقيا تهدد بعدم تنفيذ اتفاقية “التربس” بعد أن اكتشفت أن الأسعار ستتضاعف ثلاث مرات على الأقل فور تطبيق قانون حماية حقوق الملكية الفكرية، ومن هنا طرح شعار “الأرواح قبل الأرباح” ضد شركات أدوية أنتجت عقارًا يساهم في علاج مرض الإيدز، ورفعت سعره إلى 30 ألف دولار، وهو الأمر الذي ينذر بخلافات جمة بعد تطبيق الاتفاقية.

السطو على البرمجيات

وعن تأثير “التربس” والقانون المصري الجديد على صناعة البرمجيات أشار الدكتور “باسل توفيق” رئيس مركز بحوث وتطوير البرمجيات بكلية الهندسة بجامعة القاهرة إلى أن القضاء على ظاهرة سرقة برامج الكمبيوتر ونسخها وتقليدها لا يكون بتطبيق الاتفاقيات وتشريع القوانين وحده، وإنما بطرح هذه البرامج بأسعار معقولة من جانب الشركات؛ فيجب أن يكون هناك قدر من المرونة والنسبة والتناسب بين إمكانيات ومستوى المعيشة والأسعار، وألا تقف القوانين في سبيل الحصول على المعرفة والعلم، خاصة وأن مواقع البرامج المجانية على الإنترنت تجعل تحقيق الحماية الكاملة حلمًا بعيد المنال.

كما يطالب شركات برامج الكمبيوتر بتقديم تبرعات غير مشروطة من البرامج الأصلية؛ لأنها الوسيلة للتواصل مع مستحدثات العلم والتكنولوجيا، كما يطالب بتوفير مناخ أفضل في مجال براءات الاختراع الذي يعتبر مثبطًا للهمم وغير مشجع في الوقت الحالي بسبب البيروقراطية والإجراءات المعقدة التي توضع أمام المخترعين.

ومن جهة أخرى يؤكد المهندس “وليد العمروسي” مدير التسويق بإحدى الشركات الخاصة للبرامج الهندسية، أن الأمر المهم ليس في إصدار القانون ولكن في تطبيقه بحسم وبشكل رادع، مشيرًا إلى وجوب إلزام المستخدم بشراء البرامج الأصلية ودفع ثمنها وتوقيع غرامة عليه حتى تتحقق الحماية لصناعة البرمجيات بقوة القانون، خاصة وأن الشركات المنتجة للبرامج تمنح خصمًا قد يصل إلى 90% للجهات العلمية والتعليمية لخدمة أغراض البحث العلمي.

كما يشير إلى آلية أخرى لحماية البرمجيات، وهي ضرورة أن تكون الشركة الطالبة لشهادة الجودة الأيزو مستخدمة لبرامج أصلية وليست مقلدة، مشيرًا إلى أن كثيرًا من هذه الشركات الحاصلة على شهادات جودة عالمية لا تستخدم برامج أصلية.

نزع ملكية الاختراع

وبالنسبة لمشروع قانون حماية حقوق الملكية المصري، فسوف يحل القانون الجديد محل ثلاثة قوانين قديمة هي: قانون براءات الاختراع والرسوم والنماذج الصناعية، وقانون المصنفات الفنية، وقانون البيانات والعلامات التجارية.

ويقع مشروع القانون الجديد في 199 مادة موزعة على أربعة أبواب، تشمل مجالات حقوق الملكية الفكرية وتنظيمها وعقوبات التعدي عليها.

وفي مناقشته لمواد مشروع قانون حماية حقوق الملكية الفكرية المصري وافق مجلس الشورى على معظمها، وقام بتعديل بعضها واستحدث بعض الفقرات؛ حيث وافق على نزع ملكية براءة الاختراع لأسباب تتعلق بالأمن القومي، وقد علق د. مفيد شهاب الوزير المصري لشئون البحث العلمي على هذه المادة بقوله: إن هذا لا يعتبر مصادرة غير دستورية، وإن اتفاقية “التربس” الدولية أجازت أيضًا مصادرة الاختراع، ولكننا لم نستخدمها؛ لأنها تتعارض مع دستورنا.

كما استحدث مجلس الشورى فقرة في المادة 25 تعطي الحكومة الحق في إصدار تراخيص استغلال إجبارية للاختراعات؛ لتحقيق أغراض المحافظة على الأمن القومي والصحة وسلامة البيئة والغذاء ومواجهة حالات الطوارئ أو ظروف الضرورة القصوى، وذلك دون الحاجة إلى تفاوض مسبق مع صاحب البراءة على أن يتم إخطاره ودون إخلال بحقوقه المادية.

وكذلك إصدار الترخيص الإجباري إذا طلب وزير الصحة في أية حالة من حالات عجز كمية الأدوية المحمية بالبراءة عن سد احتياجات البلاد أو انخفاض جودتها أو الارتفاع غير العادي في أسعارها، وإذا تعلق الاختراع بأدوية الحالات الحرجة والأمراض المزمنة، وكذلك إذا ثبت تعسف صاحب البراءة أو استغلاله لها بشروط احتكارية مجحفة.

هذا، بالإضافة إلى جواز إسقاط البراءة إذا تبين بعد سنتين من منح الترخيص الإجباري أن ذلك لم يكن كافيًا لتدارك الآثار السلبية التي لحقت بالاقتصاد القومي بسبب تعسف صاحب البراءة في استخدام حقوقه.

عقوبة الاعتداء على حقوق الملكية

وفيما يتعلق بعقوبات الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، وافق المجلس على المادة التي تنص على أن يعاقب بغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه ولا تتجاوز 100 ألف جنيه كل من قلّد موضوع اختراع أو استورد أو عرض للبيع منتجات مقلدة للاختراع أو وضع بغير حق علامة تجارية مقلدة، وفي حالة العودة يزيد الحد الأدنى للغرامة إلى 40 ألف جنيه والحبس لمدة ثلاثة أشهر.

ومن المنتظر أن يبدأ مجلس الشعب المصري في مناقشة مشروع القانون خلال الأيام القليلة القادمة لإقراره في صورته النهائية، باعتباره السلطة التشريعية؛ حتى يتسنى عرضه على المنظمة الدولية للملكية الفكرية Wipo لمراجعته وإبداء ملاحظاتها عليه قبل شهر يونيو القادم بحيث لا يتعارض مع الاتفاقية الدولية “التربس”.

 

خالد يونس – أحمد إبراهيم – نشرت في 09/4/2001