أثيرت مؤخرا زوبعة حول ما أطلق عليه “الأطفال المعدلين وراثيا”، حيث نشرت وكالات الأنباء العالمية نقلا عن خطاب علمي توضيحي أرسله علماء من معهد طب وعلوم الإنجاب في “سانتا باربرا” بولاية “نيوجيرسي” الأمريكية إلى دورية “Human Reproduction” العلمية نشر الجمعة 4/5/2001 أكدوا فيه على أنهم قد تمكنوا من إجراء تعديلات وراثية على أجنة ثلاثين طفلا – منهم 15 طفلا ولدوا نتيجة برنامج تجريبي نفذ في أحد المختبرات الأمريكية منذ أكثر من عامين – مشيرين في نهاية خطابهم العلمي إلى أن تجاربهم تعد أول تجارب ناجحة تنتهي إلى ولادة أطفال طبيعيين، ويتمتعون بصحة جيدة.

لكن سرعان ما نُفي هذا الخبر بناء على التصريحات التي أدلى بها “جاك كوهين” – المدير العلمي لمعهد الطب الإنجابي في “سانت بارناباس” في “نيوجيرسي” – يوم السبت 5/5/2001، والتي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية؛ حيث نفى فيها “كوهين” توليد أطفال معدلين وراثيا، وأكد على أن فريقه قد طور تقنية حديثة لعلاج النساء المصابات بالعقم عن طريق حقن بويضاتهن بميتوكوندريا (وهي إحدى عُضيات الخلية، وعبارة عن حبيبات خيطية صغيرة تلعب دور مولدات الطاقة في الخلية؛ حيث تقوم بدور فعال في عملية تنفس الخلية) مأخوذة من متبرعات سليمات لتنشيط بويضاتهن، وأن هذه التقنية قد تم استخدامها بنجاح في دول أخرى، ولا توجد لها أي أخطار، ولا تغير التركيب الوراثي.

ولمحاولة استجلاء الحقيقة فيما يتعلف بمسألة الأطفال المعدلين وراثيا، ارتأينا مناقشة ما حدث بتأن وروية لإيضاح هذا الأمر الجلل، والتي تشير كل دلالاته الواضحة إلى أن العلماء قد أنتجوا أطفالا معدلين وراثيا بالفعل، ونظرًا لسهولة تطبيق هذه التقنية المستحدثة فقد تصل إلي بلاد المسلمين بسرعة كبيرة؛ حيث سيصبح في الإمكان لأي مختبر يقوم بإجراء عمليات التلقيح الاصطناعي (أطفال الأنابيب) اعتماد هذه التقنية كأسلوب حديث لعلاج العقم.. وبناء على رأى الخبراء والعلماء في مجال الهندسة الوراثية وتكنولوجيا الإنجاب نقول للجميع: لا تصدقوا كوهين..

وإليكم الدليل على مغالطاته العلمية:

كوهين: لم نعدل المخزون الوراثي

كان “كوهين” قد أكد في تصريحاته على أن المشروع لم يفض إلى ولادة أطفال معدلين وراثيا، وإنما يحملون تكوينات إضافية من الحمض النووي منقوص الأوكسجين (DNA) ليست له وظيفة معروفة ولا يسبب أي ضرر، كما نفي “كوهين” أيضا القيام بتعديل مورثات الأطفال، أو تعديل القواعد الأساسية التي يتشكل منها هذا الحمض الهام الذي يحمل الشفرة الوراثية للكائن الحي ويشكل الجينوم البشرى والموروث الجيني لكل فرد منا، وقال: “إن حوالي 30 طفلا ولدوا في أنحاء العالم، نصفهم تقريبا في أوروبا، باستخدام تقنية علاج العقم لدى النساء التي توصل إليها فريقه”.

وأوضح أن بويضة المرأة مثل أي خلية، تتألف من نواة تحتوي على المادة الوراثية (DNA) الموجودة على شكل صبغيات (كروموزومات)، والميتوكوندريا، وكلها تسبح في سائل الخلية أو السيتوبلازم. كما أضاف أن الخلية قد تحتوي على 100 ألف من الحبيبات الخيطية (الميتوكوندريا )، وأن الـ “DNA” الموجود داخل هذه الحبيبات ليس له دور معروف بعد، وينتقل بالوراثة من جيل إلى آخر عبر الأم؛ مشيرا إلى أن هذه التقنية قيد التجريب وتجري تحت إشراف عدة معاهد.

وأكد كوهين لوكالة الصحافة الفرنسية “فرانس برس” أن المقال المذكور غير واضح، وأن سبب الارتباك هو جملة أخرجت عن سياقها بواسطة هيئة الإذاعة البريطانية، وصرح : “لقد نشرت قبل سنوات دراسات حول الموضوع، والمقال كتب بصورة هدفها إثارة الجدل، لكنه غير دقيق.. وتساءل: “هل قمنا بتعديل مورثات الأطفال؟ هل عدلنا القواعد الأساسية التي يتشكل منها الحمض النووي منقوص الأوكسجين؟ هل عدلنا المخزون الوراثي؟ الجواب: لا”.

وفي الواقع لقد قال كوهين بعض كلمات الحق التي يراد بها باطل، والدليل على ذلك أنه استند في نفيه لحدوث تعديلات وراثية للمواليد على عدم حدوث تعديل جيني بالمفهوم التقني السائد للهندسة الوراثية، الذي يصور حدوث التعديل الوراثي بقص جينات من كائن حي ولصقها بآخر باستخدام تقنيات الهندسة الوراثية المعروفة بـ Recombinant DNA، كما استند في تفسيره على أن المادة الوراثية المنقولة للمواليد من المتطوعات ليس لها دور معروف.

كيف تم التعديل الوراثي؟!

طبقا لما ذكره علماء معهد طب وعلوم الإنجاب في “سانتا باربرا” بولاية “نيوجيرسي” الأمريكية، والذي أكده كوهين؛ فمنذ مدة طويلة اعتقد الباحثون أن خللا يحدث في البويضات بسبب وجود بعض التشوهات أو العطب في الميتوكوندريا يعد من بين أسباب العقم لدى النساء.

ونجح الفريق الأمريكي في تطوير تقنية جديدة تقوم على حقن بويضات المرأة العقيمة بكمية صغيرة من السيتوبلازم البويضيOoplasm الحاوي للميتكوندريا (حوالي 5%) مأخوذة من بويضات نساء خصيبات متبرعات، وأطلق على تلك التقنية المستحدثة Ooplasmic transfer.

وتبعًا لهذه التقنية؛ فإن الأطفال المولودين عبر التلقيح الصناعي بعد استخدام هذه التقنية يحملون نظريا سيتوبلازما أو ميتكوندريا من امرأتين مختلفتين أو بلازما متباينة غير متجانسة heteroplasmic، ومن المعروف علميا أن الميتوكوندريا تحتوى على جينات خاصة، وتحتوى على حمض نووي ديوكسي ريبوزي خاص بها يسمى mtDNA، وينتقل هذا الحمض النووي وراثيا من الأم فقط إلى الأبناء جيلا بعد جيل، وتحتوى كل جزئية من هذا الحمض النووي الخاص على 13 جينا تشفر لبروتينات مهمة، كما تحتوى أيضا على 24 جينا من النوع المعروف بالحمض النووي الريبوزي RNA، الذي يستعمل في تصنيع البروتينات خارج الميتوكوندريا.

ومن المعروف أيضا أن نسخ وترجمة الـ mtDNA مسيطر عليه من قبل نواة الخلية. كما أن البروتينات الناتجة بناء على المعلومات الموجودة في جينات الميتوكوندريا تتفاعل مع أكثر من 60 بروتينا نوويا مشفّرا لتشكيل السلسلة التنفسية للميتوكوندريا، وهذه السلسلة التنفسية مسؤولة عن انتزاع الطاقة من الجلوكوز الذي يشغّل كلّ النشاطات الحيّة.

أخطار هذه التقنية

تعتبر هذه التقنية أحدث ما تمخضت عنه تكنولوجيا التناسل، ويحاول الأطباء أن يتجنبوا الاعتماد على تقنيات الاستنساخ البشرى التي يستعاض فيها عن بويضة الأم ببويضة أو بديلة متبرعة، ويدافع أحد العلماء عن هذه التقنية ويؤكد على أنها البديل الوحيد المتاح للمرأة العقيمة للحصول على نسل من صلبها؛ حيث يمكنها المشاركة بصفاتها الوراثية في تشكيل الجنين (عن طريق نقل كروموزومات نواة الخلية التناسلية)، ولا يلقي هذا الباحث وأمثاله بالا للمقدار الضئيل من المعلومات الوراثية التي تحملها خلايا الميتوكوندريا البديلة، فمن المعروف علميا أن هناك بعض الأمراض تنتج عن وجود بلازما غير متجانسة بخلايا الميتوكوندريا Mitochondrial Heteroplasmy، وغالبا ما تنشأ هذه الأمراض بعد سن البلوغ أو في مراحل متأخرة في حياة الإنسان مثل الضمور البصري، وفقدان السمع ومرض السكري، وأعراض مرضية أخرى، كما تلعب تلك التغيرات دورا مهما أيضا في الشيخوخة، وكذلك في حدوث أعراض مرضية مرتبطة بالشيخوخة، مثل تحلل بعض الخلايا العصبية التي تحدث أمراضا مثل مرض الشلل الرعاش “باركنسون”.

ويشار أيضا إلى أن المصدر الوحيد للميتوكوندريا هو بويضة الأم التي تحتوي في الغالب على عدد مضاعف قد يصل إلى 100 ضعف (حوالي 100 ألف نسخة) من الحمض النووي الخاص بالميتوكوندريا، وذلك لحكمة عظيمة يعلمها الخالق الأعظم الله – عز و جل – فبعد عملية الإخصاب تتلاشى كل نسخ الحمض النووي من الحيوان المنوي، وبالتالي تأتي كل نسخ الحمض النووي الخاص بالميتوكوندريا من الأم فقط، ويعتمد عليها نسلها طوال حياته، وتورثها بناتها فقط إلى أحفادها وأحفاد أحفادها بنفس الطريقة، وإذا كان هناك خلل أو عطب في هذه المورثات فسوف تنتقل عبر الأم إلى أطفالها؛ مما يؤكد على أن الميتوكوندريا تنقل صفات وراثية هامة، وبناء عليه يحدث التعديل الوراثي إذا تم نقلها للأجنة أو التلاعب بمحتوياتها الوراثية.

وقد أثبتت الاختبارات الجينية باستخدام تحليلات البصمة الوراثية التي أجريت على اثنين من الأطفال الخمسة عشر- الذين كانوا نتاجاً لاستخدام التقنية الجديدة- عمرهما سنة، أنهما يحويان في تركيبتهما الجينية على كمية قليلة من المورثات أو الجينات، لا تعود للأب والأم الأصليين؛ وإنما تعود للأم المتبرعة.

ومن خلال الحقائق العلمية السابقة نخلص للآتي:

1- خلافا لما ذكره “كوهين” فإن الميتوكوندريا تحتوي على جينات هامة للغاية ومعلومات وراثية حقيقية، جرت العادة في الأمور الطبيعية أن تنتقل من الأم لوليدها.

2- تؤدي هذه الطريقة الحديثة إلى تعديل للمحتوى الوراثي للأطفال عن طريق نقل صفات وراثية هامة من بويضة المتبرعة إلى بويضة الأم الأصلية للطفل، وهذا ما أثبتته تحاليل البصمة الوراثية لبعض الأطفال المنتجين بهذه الطريقة.

3- إضافة للخلط الوراثي، تؤدي هذه التقنية إلى دمج المحتوي السيتوبلازمي للبويضات، وتؤدي إلي تخليق أطفال بمزيج من الجينات، وبخليط متباين من السيتوبلازم heteroplasmic؛ مما يؤكد أن نفي التعديل الوراثي وخلط الأنساب عن هؤلاء الأطفال ما هو إلا ادعاء كاذب، وقد يعرضهم هذا المزيج الشيطاني للعديد من الأمراض في المستقبل.

4- أن القول بأن الأطفال المعدلين وراثيًّا يتمتعون بصحة جيدة غير مؤكد، ولا ينفي تعرضهم للأضرار مستقبلا نتيجة لهذا التلاعب الوراثي.


طارق يحيى قابيل – باحث في جامعة كليمسون – الولايات المتحدة