فرط الحركة عند الأطفال سيناريو يتكرر في عيادات طب الأطفال مرة على الأقل في الشهر الواحد، وذلك منذ عدة سنوات والأمر آخذ في الازدياد الملحوظ! فما هو هذا التناذر والمسمى بتناذر فرط الحركية وضعف الانتباه عند الأطفال، والذي لم يكن ملحوظا بهذه الصورة في العقود الماضية؟

ما زلت أذكر تلك الأم التي أتتني منذ أسابيع وهي تدفع إلي بطفلها ذي السبعة أعوام وهي تبكي وتقول: لا أدري ماذا أفعل مع ولدي هذا، لا يكف عن الحركة طيلة النهار، لا يثبت على وضعية معينة، لا يهدأ، لا يستطيع تركيز ذهنه للحظات على أي شيء، معلمته تشكو أنه لا يركز أبدا، لا يستقر في مقعده، تباطأ فهمه، وكثر شروده، وأصبح أحيانا عدوانيا يضرب هذا ويؤذي ذاك.. ما العمل يا دكتور؟ قل لي ما العمل؟

وأذكر أيضا كيف أنني وبعد أن فحصت هذا الطفل هدأت روعها، وطمأنت خوفها، وشرحت لها أن طفلها مصاب بتناذر فرط الحركة عند الأطفال وقلة الانتباه Attention-Deficit Hyperactivity Disorder (ADHD)، وأن الأعراض سوف تخف مع الأسابيع الأولى لتناول الدواء.

غابت الأم أسبوعين.. وعادت باسمة الوجه، هادئة الأعصاب، مسرورة المحيا لتقول لي: أشكرك يا دكتور فإن ولدي قد تبدل طبعه وهدأت حركته، وعاد تركيزه واختفى شروده، وبذلك عادت حياتنا طبيعية كما كانت.

ما هو تناذر فرط الحركة عند الأطفال؟

يلخص هذا التناذر بكلمتين: فرط الحركية التي تؤدي بدورها إلى التهيج والاندفاع، وكذلك إلى ضعف الانتباه والتركيز؛ ولذلك فإن هذه الأعراض الثلاثة تلخص الصورة السريرية للطفل المصاب بهذا التناذر.

ويقدر مدى انتشار الحالة بـ 3% من الأطفال قبل سن البلوغ، أي أن طفلا واحدا على الأقل في كل صف في مدرسة ابتدائية مصاب بالتناذر الحركي، وهذه الحالة تصيب الصبيان أكثر من البنات بحوالي 6 أضعاف، وهكذا فإن نسبة الإصابة هي 6 صبيان إلى فتاة واحدة.

تبدأ هذه الحالة مبكرا عند الطفل ومنذ سنواته الأولى، إلى أن تتطور وتصبح صعبة التحمل من الأهل والمدرسة فتبدأ الشكوى التي تدفع الأهل إلى الاستشارة الطبية التي تقود إلى التشخيص فالعلاج فالتحسن بأمر الله.

الأعراض.. تزول بمشاهدة فيلم سينمائي!! 

الطفل يندفع إلى ألعاب خطرة دون تقدير العواقب في الحقيقة هناك مجموعة كبيرة من الأعراض. وللتبسيط يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:

1- أعراض فرط الحركة عند الأطفال Hyperactivity: يكون الطفل كثير الحركة، لا يهدأ أبدا، يركض ويقفز حتى في الأوقات غير المناسبة، لا يستطيع اللعب بهدوء وصمت.

2- أعراض الاندفاع والتهيج Impulsivity: ونجد الطفل يسرع في الإجابة على السؤال حتى قبل أن ننتهي من طرحه، لا يحتمل انتظار دوره في اللعب، يندفع إلى ألعاب خطرة دون أن يقدر عواقبها وليس حبا في المغامرة.

3- أعراض ضعف الانتباه Inattention: يلاحظ أن الطفل لا يعير اهتمامه للتفاصيل ويكرر أخطاءه المدرسية رغم التنبيه، يجد صعوبة في تركيز ذهنه على لعبة معينة أو كلام موجه له من المعلمة أو أمه، يبدو دائما غير مصغ لما يقال له، يضيع حاجياته الضرورية كثيرا، من السهل أن يشرد نتيجة أي منبه خارجي، ينسى دائما أشياءه الضرورية.

ومن الملاحظ أيضا وهذا يدعو للدهشة: أن الأعراض تخف بل تزول عند متابعة الطفل لفيلم سينمائي أو مشهد تلفزيوني أو لعبة إلكترونية.. لماذا؟ الأمر غير واضح تماما لكنه يثير التساؤلات ويضع إشارات الاستفهام العديدة؟؟

أسباب.. يشوبها الغموض!!

تشتت الذهن وشروده من سمات فرط الحركة آلية هذا المرض حتى اليوم ليست مفهومة بشكل جيد ككثير من الأمراض والإصابات، ولكن يعتقد الباحثون أن هناك نقصا ما في مادة الدوبامين Dopamine التي تعمل كناقل عصبي، وبنقصها تضطرب عملية النقل العصبي إلى بعض أقسام الدماغ وخاصة الفص الجبهي frontal lobe الذي يتم فيه ضبط كثير من السلوكيات والتصرفات؛ وهو ما يؤدي إلى اضطراب وفوضى في التحكم في كثير من الحركات ونقص في الانتباه وتشوش في التركيز وزيادة في الشرود.

ولتقريب المشهد، ففي حالة الطفل الطبيعي وهو في الصف يتلقن دروسه، نرى أن انتباهه مشدود إلى ما تقوله المعلمة رغم أن هناك سيارة يرد صوتها عبر النافذة، وضجيج حركة الأطفال في الصف.

أما في حالة الطفل المصاب فنرى أن الطفل يسمع مثلا ما تقوله المعلمة، ولكن أيضا وبنفس الوقت يسمع بنفس الأهمية والشدة صوت السيارة في الخارج وصوت الضجيج في الداخل وعيناه ترى المعلمة لكنهما مشغولتان أيضا برؤية بقية الأطفال والسبورة والسقف والرسوم على الحيطان.. أي أن ذهنه مشغول بل مشتت بأمور عدة في وقت واحد دون ترتيب للأهميات والأولويات.

ويعتقد أن الإصابة وراثية، أي أن هذا النقص في مادة الدوبامين هو من أصل وراثي في حوالي 95% من الحالات، ومما يدعم هذه النظرية أن الحالة موجودة عند آباء هؤلاء الأطفال بنسبة 35% من الحالات وعند أمهاتهم بنسبة 17% من الحالات.

جدول كونرز.. للتشخيص

الطبيب غالبا يقع في حيرة من أمره لتأكيد التشخيص، فليس هناك فحص نوعي -لا مخبريا ولا إشعاعيا- يمكن إجراؤه فيتأكد به التشخيص، لكن هناك منهجية موضوعية في ترجيح التشخيص، وهذه المنهجية هي:

1- فحص الطفل السريري والعصبي يكون طبيعيا.

2- غالبا ما نطلب تخطيطا للدماغ لنفي وجود أحد أنواع الصرع غير النمطية، وأحيانا أخرى نطلب تصويرا طبقيا محوريا للدماغ لنفي وجود أورام دماغية في بداية تنشئها والتي قد تغير من مزاج وسلوك الطفل لعدة أسابيع أو أشهر قبل أن تصبح أعراضها صارخة وسهلة التشخيص.

3- ثم بعد ذلك نلجأ إلى إعطاء الأهل وكذلك المعلمة أحد الجداول العلمية كجدول Conners وهو من أبسطها وأوضحها، والذي يحوي معظم الأعراض السريرية لهذا التناذر، ونطلب من الأهل وكذلك معلمة الطفل التأمل الدقيق في هذه الأعراض لعدة أيام ثم الإجابة عليها بتأن وتجرد وموضوعية.

4- وبعد ذلك يلخص الطبيب حالة الطفل ويعيد دراسة الحالة من جديد، ثم إذا خلص أن معظم القرائن تدل على الإصابة وضع الطفل على العلاج… وهذه القرائن التي نعتمد عليها في ترجيح الإصابة بهذا التناذر هي:

1- استبعاد أي إصابة عضوية كالصرع أو أورام دماغية حديثة الظهور وخفية الأعراض.

2- بدء الأعراض يكون قبل عمر السبع سنوات.

3- الأعراض الحالية عمرها أكثر من ستة أشهر.

4- نفس الأعراض تتكرر في البيت والمدرسة.

5- الأعراض تتفاقم وتؤدي إلى عقبات اجتماعية، مدرسية وشخصية.

6- إجابة كل من الأم والمعلمة على جدول Conners برقم زاد عن 15.

(التقييم في الجدول يكون بالأرقام من 0 – )3

الأعراضلاقليلاكثيرا كثير جدا
هياج وعدم استقرار
يتحرش ببقية الأولاد
يبدأ عملا ولا يتمه
شارد، ويصعب عليه أن يثبت انتباهه
يتحرك باستمرار، ولا يثبت في مكانه
يجب أن يجاب إلى طلبه بسرعة وإلا..
يبكي بسرعة
يغير بسرعة ملامحه من الفرح إلى الحزن وبالعكس
يغضب بسرعة، وسلوكه لا يمكن التنبؤ بها لعلاج والبحث ما زال مستمرا


إن العلاج هو دواء واحد شائع الاستعمال ذائع الصيت حاليا، إنه Methylphenidat، وهو يعمل كمحرض نفسي Psycho stimulator بمساعدته على زيادة إفراز مادتين من المحرضات العصبية وهما الدوبامين Dopamine والنورأدرينالين Noradrenaline اللذان يساعدان على نقل السيالة العصبية من خلية عصبية إلى أخرى.. ولكن لماذا بزيادة إنتاج هاتين المادتين تخف الأعراض وتتحسن الحالة؟.. الله أعلم.

كما أن مدة المعالجة قد تمتد لسنوات وسنوات وليس هناك فترة محددة يجب أن يوقف عندها الدواء والدراسات مستمرة في هذا المجال لتحديد مدة العلاج.

وما زالت هناك أسئلة كثيرة تطرح نفسها حول هذه المشكلة السلوكية، هل هي مشكلة نفسية؟ أم عضوية؟ أم الاثنتان معا؟ لماذا لم نكن نتكلم عنها منذ عدة سنوات بهذا الزخم؟ هل لأنها كانت غير موجودة أم أن جهلنا بها كبير؟ لماذا ازدادت الحالات المشخصة منذ عدة سنوات؟

المعالجة الدوائية: هل هي كافية وحدها؟ أم يجب إشراك المعالجة النفسية مع الدواء؟ هل ستستمر الحالة مدى الحياة؟ أم ستختفي مع الزمن؟ أم ستخف مع الزمن مع ملازمتها لصاحبها ما دام حيا؟ عشرات الأسئلة ما زالت تنتظر الإجابة من الباحثين والنفسانيين والمهتمين من الأطباء والعلماء…


د. مصطفى عبد الرحمن – 22/04/2004