يتناول هذا الجزء أحكام بيع التقسيط من حيث شروط التعامل به وضوابطه كي يكون طريقًا إلى جلب المصلحة، ودرء مفاسد الغش والغبن والاستغلال.

أولاً: شروط البيع بالتقسيط:

من المعلوم أن لعقد البيع المطلق شروطًا فصلتها كتب الفقه الإسلامي، غير أن البيع بالتقسيط يختص ببعض الشروط المرتبطة بطبيعته، وأهم هذه الشروط ما يأتي:

أ – أن يكون الأجل أو الآجال فيه معلومة:

فلما كان الأجل عنصرًا أساسيًّا في بيع التقسيط لأنه قسيم البيع المطلق أو الحال الذي يدفع الثمن فيه فورًا، فسنتكلم عن العلم بالأجل من حيث الاعتبارات الآتية:

معناه: من اللازم أن يكون أجل دفع كل قسط في هذا البيع معلوم الوقت عند كلا المتعاقدين لأن جهالته تفضي إلى النزاع فيفسد البيع. والظاهر من عبارة جمهور الفقهاء أن أجل الدفع إذا كان مجهولاً فإن البيع يفسد، سواء أكانت الجهالة يسيرة أم فاحشة. فإذا تحدد دفع كل حصة بآخر الشهر مثلاً صح باتفاق نظرًا للعلم النافي للجهالة.

أما إذا كان وقت الدفع مجهولاً جهالة الفاحشة كما لو حدده بنزول المطر مثلاً فهذا باطل باتفاق.

أما إذا كانت الجهالة يسيرة كالتحديد بالحصاد فالبيع باطل عند الجمهور أيضًا لأن الفاحشة فيها غرر الوجود والعدم، واليسيرة مما يتقدم الأجل فيها ويتأخرº فيؤدي إلى المنازعة فيوجب فساد البيع.

وقال بعض الحنفية بالجواز إن كانت الجهالة ليست فاحشة نظرًا لأن الحصاد لا يكون في كل وقت، بل في مدة من الزمن محدودة يتردد وقوعها بين أولها وآخرها.

وقد ذهب المالكية والشافعية والحنابلة في الصحيح في المذهب إلى أن تأجيل الثمن إلى أجل مجهول يبطل العقد.

وذهب الحنفية إلى أن البيع لا يبطل بالجهالة اليسيرة كقدوم الحاج والحصاد. وذهب أحمد في رواية عنه، وهو في قول ابن شبرمة إلى أن العقد صحيح ويبطل التأجيل.

ودليل الجمهور: أن هذا الشرط فاسد والبيع يبطل بالشروط الفاسدة، وأنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة.

أما دليل الحنفية: أن الجهالة مانعة من لزوم العقد، وليست في صلبه، بل في أمر خارجه وهو الأجل، فإذا زال المانع قبل وجود ما يقتضي الفساد، وهو المنازعة عند المطالبة الحاصلة عند مجيء الوقت، ظهر محل المقتضى.

دليل رواية الحنابلة الثانية قوله – صلى الله عليه وسلم -: “المسلمون على شروطهم” (رواه البخاري). ولأن الأجل مجرد وصف للعقد لا ركن فيه فيلغى ويصح العقد، ولأن الفساد للمنازعة وقد ارتفع قبل تقرره والراجح ما ذهب إليه الجمهور من القول ببطلان هذا العقد، لأن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولأن العقد لا يخلو عن أن يكون صحيحًا أو فاسدًا، فإذا كان صحيحًا مع وجود الأجل لم يفسد باشتراطه، وإن كان فاسدًا لم ينقلب صحيحًا كما لو باع درهمًا بدرهمين ثم حذف أحدهما.

جاء في المادة: 246 من مجلة الأحكام العدلية: “يلزم أن تكون المدة معلومة في البيع بالتقسيط والتأجيل”، وفي المادة: 247: “إذا عُقد البيع على تأجيل الثمن إلى كذا يومًا أو شهرًا أو سنة أو إلى وقت معلوم عند أحدهما فقط فلا يصح”. وفي المادة: 248: تأجيل الثمن إلى مدة غير معينة كإمطار السماء يفسد البيع.

أما القانون الوضعي ففي المادة: 483 من القانون الأردني: “الثمن في البيع المطلق يستحق معجلاً ما لم يُتفق على أو يُتعارف على أن يكون مؤجلاً أو مقسطًا لأجل معلوم”. وفي المادة: 574 مدني عراقي:”يصح البيع بثمن حال إلى أجل معلوم”.

وهاتان المادتان وإن ذكرتا الأجل في ظاهر النص، وأوجبتا أن يكون أجل ثمن المبيع معلومًا، إلا أنه ليس فيهما ما يدل على أن عدم ذكره يبطل العقد. فلم يقصد بهما مخالفة القواعد القانونية العامة، وهي تجيز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول، فيرجع إلى القواعد القانونية العامة وهي تجيز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول.

ومن هنا نرى أن الاتجاه القانوني يخالف الاتجاه الفقهي الإسلامي من حيث تحديد أجل معلوم الثمن. ففي حين يشترط الفقه الإسلامي تحديد أجل معلوم للثمن، ويتشدد في ذلك، ويبطل العقد عند انعدامهº فإن القوانين المدنية تسمح بقدر من الغرر لا تسمح به الشريعة الإسلامية. ولا ريب في أن نظرة الفقه الأكثر سدادًا، وهي الأحق بالعمل بها.

وهذا هو قول أبي حنيفة، وقال صاحباه: “الحالان سواء ولا يُعطي المشتري أجلا في الحالة الثانية لأن السنة المطلقة تنصرف إلى سنة تعقب العقد بلا فصل فإذا مضت انتهي الأجل كما لو عُيِّن الأجل نصًا”.

وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة حيث اعتبروا ابتداء الأجل من وقت العقد. وقد أخذت مجلة الأحكام العدلية برأي أبي حنيفة. ففي المادة رقم: 250 تقول: “يعتبر ابتداء مدة الأجل والقسط المذكورين من وقت تسليم المبيع”.

كما نصت المادة: 484 من القانون الأردني على أنه إذا كان الثمن مؤجلاً أو مقسطًا فإن الأجل يبدأ من تاريخ تسليم المبيع. وفي المادة رقم: 574 من القانون العراقي يعتبر ابتداء الأجل والقسط المذكورين فيعقد البيع وقت تسليم المبيع ما لم يتفق على غير ذلك.

وما قلناه من ابتداء الأجل من وقت التسليم عند أبي حنيفة مشروط بما إذا لم يكن للمشتري خيار. فإن كان في البيع خيار لهما الشرط لهما فابتداء الأجل من حين وجوب العقد هو وقت سقوط الخيار لا حين وجوده، لأن تأجيل الثمن هو تأخيره عن وقت وجوبه، ووقت وجوبه هو وقت انبرام العقد لا قبله. وهذا قول أبي حنيفة، وبه قال إمام الحرمين من الشافعية، لأن الخيار يمنع المطالبة بالثمن كالأجل، فكان قريبًا. والخيار تأجيل لإلزام الملك أو نقله والأجل تأخير المطالبة فكان في معناه ولا سبيل إلى جمع المثلين. وقال الشافعية والحنابلة ابتداء الأجل من وقت العقد على الراجح من مذهبهم.

ب – انتهاء الأجل:

إذا باع رجل لآخر سلعة ما بثمن مؤجل أو مقسط، فإن الأجل يحل في الحالات الآتية:

1 – حلول الأجل: فإذا باع السلعة على أن يدفع المشتري مقدارًا معينًا من الثمن في نهاية كل شهر مثلا، فإن الأجل ينتهي لكل قسط بانقضاء الشهر. وقبل ذلك لا يحق للبائع أن يطالب المشتري بالثمن لأن رضاه بالتأجيل رضى بتأخير حقه إلى الموعد المضروب.

2 – موت المشتري وإفلاسه: فإذا توفي المشتري حل الثمن المؤجل، ولا يحل بموت البائع، لأن الأجل يبطل بموت المدين دون الدائن، ووجه ذلك: أن فائدة التأجيل تظهر في أن يتجر المشتري فيؤدي الثمن من نماء المال، فإذا مات تعين المال الذي تركه لقضاء الدين فلا يجدي التأجيل. وإذا أفلس المشتري في البيع، وعجز عن أداء الثمن فلا يفسخ العقدº لأنه يجوز للشخص أن يشتري سلعة بقرش حالا وإن لم يكن في ملكه، نعرف أن وجوب تسليم الثمن ليس من حكم العقد، والعجز عن تسليم الثمن إذا اقترن بالعقد.

جـ – شروط التأجيل:

يشترط لصحة التأجيل والتقسيط ما يأتي:

1- أن يكون الثمن من نوع الديون. فإذا تأجل تسليم البيع المثلي إلى الثمن المعين بأن قال: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت كذا فالبيع باطلº لأن التأجيل إنما جاز لضرورة عدم وجود الثمن لدى المشتري وتمكينًا له من اكتسابه في مدة الأجل، ولا ضرورة في الأعيان، فكان التأجيل فيها تغييرًا لمقتضى العقد فأوجب فساده.

2- ألا يكون الثمن بدل صرف، ولا ثمن مسلم فيه في بيع السلم، لأنه يشترط فيها قبض الثمن في المجلس، فلا يمكن التأجيل سدا لذريعة الربا.

3- ألا يكون في السعر غبن فاحش: فعلى البائع أن يقتصر على الربح الذي جرت به العادة وألا يستغل ظروف المشتري الحرجة ليبيعه بأضعاف مضاعفةº لأن هذا من الجشع والطمع والإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل.

4- العلم بالثمن الأول إذا كان البيع بالتقسيط يقع في نطاق بيوع الأمانة كبيع المرابحة والتولية أو المواضعة، فإذا لم يكن معلومًا فالبيع فاسد لجهالة الثمن.

5- ألاَّ يُشترَط في عقد البيع بالتقسيط أن يشتري البائع على المشتري -سواء عند العقد أم بعده- أن يزيد في الثمن أو الربح عندما يتأخر المدين عن الوفاء بالدين.

6- لا يجوز في عقد البيع بالتقسيط أن يشتري البائع على المشتري -سواء عند العقد أم بعده- أو أن يزيد في الثمن أو الربح عندما يتأخر عن الوفاء بالدين.

7- أن يكون غرض المشتري من شراء السلعة بثمن مؤجل أعلى من المعجل سد حاجته إليها، أو الاتجار بها، إما إذا كان يقصد من ذلك بيعها لحاجته الماسة إلى مبلغ من المال لقضاء بعض مصالحه، وهي ما تعرف بمسألة عدم الجواز، لما روي عن عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – عندما سئل عن التورق فقال: هو أخية الربا.

وهناك بعض الشروط التي انفرد القانون الوضعي بذكرها لبيع التقسيط:

1- أن يكون البائع تاجرًا، ومعتادًا على بيع السلعة بالتقسيط، أو يشكل البيع بالتقسيط أحد أعماله الأساسية.

2- ألاَّ يقل رأس ماله عن خمسة آلاف جنيه مصري أو ما يعادلها لغرض إكسابه مركزًا ماليًّا قويًّا يمنعه من التعسف.

3- أن يتوفر لديه سجل خاص لقيد العمليات المتعلق بها البيع وفق النموذج الذي تقره وزارة التجارة.

4- أن يكون عقد البيع محررًا على نسختين، وذلك حسمًا لمادة النزاع الذي ربما ثار بين المتعاقدين.

5- أن يستوفي البائع ما لا يقل عن 25% من ثمن السلعة نقدًا عند التسليم بقصد حماية المشتري.

6- ألا يقل القسط عن جنيه شهريًّا، وألا تزيد مدة التقسيط المتبقي من ثمن البيع عن سنتين من تاريخ العقد.

7- أن تكون أقساطا متساوية في المقدار، وأن تكون منتظمة وتؤدى خلال فترة معقولة.

وهذه الشروط لا تأباها نصوص الشريعة وقواعدها العامة كقوله – تعالى -: “يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه…” (البقرة: 282)، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: “المسلمون على شروطهم…” (سبق تخريجه)، وقاعدة: “المعروف عرفا كالمشرط شرطا”.وقاعدة: “لا ضرر ولا ضرار“: الضرر يزال، كما أشار ابن عابدين في حاشيته إلى بعض هذه الشروط.

ثانيًا: مقتضى البيع بالتقسيط وتبعاته:

مقتضى عقد البيع انتقال ملكية المبيع للمشتري، وملكية الثمن للبائع. ولما كان الثمن في البيع بالتقسيط مؤجلاً، فعليه لا يتم قبضه عند التعاقد، غير أن ذلك لا يعطي البائع حق الامتناع من تسليم البيع.

جاء في المجموع شرح المهذب: “قال أصحابنا: للمشتري الاستقلال يقبض المبيع بغير إذن البائع إذا كان دفع الثمن، أو كان مؤجلاً… “.

وقال في موضع آخر “ولو باع بشرط لا يسلم المبيع حتى يستوفي الثمن فإن كان الثمن مؤجلا بطل العقد، لأنه يجب تسليم المبيع في الحال، فهو شرط منافٍ, لمقتضاه.

ومعلوم أن مقتضى العقد هو تملك المبيع بمجرد تمامه. وقال الكاساني في عداد حديثه عن الشروط الفاسدة في عقد البيع.. ومنها شرط الأجل في المبيع العين والثمن العين، وهو أن يضرب لتسليمها أجلº لأن القياس يأبى التأجيل أصلا، لأنه قبل حلول الأجل ليس له أي مطالب بالثمن، وإنما يحبس المبيع بما له أن يطالبه بالثمن، وأما بعد حلول الأجل فلأن حق الحبس لم يثبت له بأصل العقد فلا يثبت بعد ابتداء بحلول الأجل.

وجاء في المدونة: (قلت) أرأيت أني لو اشتريت من رجل ثوبا بعينه بعشرة دراهم إلى أجل، وافترقنا قبل أن أقبض الثوب منه، وليس للبائع إلا الثوب ويقول لا أدفعه حتى يأخذ الثمن.

وفيها أيضًا: (قلت) أرأيت لو اشتريت منه سلعة بعينها إلى أجل فافترقنا قبل أن أقبض الثوب منه، أيجوز ذلك في قول مالك؟ (قال): نعم لا بأس بذلك في قوله وليقبض سلعته لأن مالكا كره أن يشتري الرجل الطعام كيلا بدين إلى أجل والطعام بعينه، ثم يؤخر الطعام إلى الأجل البعيد.

وفيها أيضًا: (قلت) أرأيت لو اشتريت منه سلعة بعينها بدين إلى أجل افترقنا قبل أن أقبض، أيجوز ذلك في قول مالك أم لا؟ (قال) لا بأس في ذلك في قوله وليقبض سلعته، لأن مالكا كره أن يشتري الرجل الطعام كيلا بدين إلى أجل والطعام بعينه ثم يؤخر كيل الطعام إلى الأجل البعيد.

وفي المغني: يصح القبض قبل نقد الثمن وبعده، باختيار البائع وبغير اختياره، لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن.. وهذا في حال كون الثمن معجلا، ففي المؤجل أولى.

وفيه أيضًا “وإن اختلفا في التسليم فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري لا أسلم حتى أقبض المبيع، والثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع على الإطلاق يعني سواء أكان في الذمة أم عينا، مؤجلا أم معجلا. وفي الدر المختار: وفي بيع سلعة بمثلها أو ثمن سلما معا ما لم يكن أحدهما دينا كسلم عن مؤجل. وقال صاحب الدر المختار: للبائع حبس المبيع إلى قبض الثمن… ويسقط بتأجيل ثمن.

ويقول ابن أمير الحجاج: المبيع المؤجل فيه الثمن سبب في الحال، لأن الأجل دخوله على الثمن ليفيد تأخير المطالبة قبل الأجل لا على البيع، فلا معنى لمنعه من الانعقاد ولا لحكمه الذي هو ثبوت الملك في البيع وثبوت الثمن في الذمةº إذ لا وجه لتأثير الشيء فيما لا يدخل عليه. ومعنى هذا أن البيع المؤجل فيه الثمن ينعقد صحيحًا نافذًا لازمًا إلا فيما دخل عليه الأجل…

ومن هذه العبارات يظهر بجلاء أن الملكية تنتقل بمجرد العقد، وأنه ليس لأجل الإضافة في الفقه الإسلامي أثر على وجود الالتزام، وأن البائع لا يجوز أن يمتنع عن تسليم السلعة إذا قبضها المشتري بإذنه، أو كان الثمن مؤجلا قبض شيئا من الثمن أو لم يقبضه كله، لأنه أسقط حق نفسه باختياره، فلا يثبت له ما ينافي مقصود الشرع من العقد.

وكما أن المبيع يتنقل إلى المشتري كمقتضى للعقد، فإنه ينتقل إلى البائع بمقتضاه أيضًا، يكون هذا الانتقال فوريا إذا كان الثمن حالا، وعند حلول الأجل إذا كان الثمن مؤجلا.

وفي القانون الوضعي من المقرر كذلك أنه لا ارتباط بين انتقال الملكية وبين أداء الثمن، فالملكية تنتقل إذا كان المبيع منقولا معينا بالذات فعقد البيع ينشئ التزاما بنقل الملكية وإذا جرى الاتفاق على تأجيل الثمن أو على أقساط تستحق بعد فترة من إبرام العقد فيتوجب على البائع أن يتسلم أن يسلم المبيع فور الانتهاء من إبرام البيع، ولكن انتقال الملكية كما نصت على ذلك المواد رقم: 286 و269 و374 من مجلة الأحكام. وإلى هذا أشارت المادة رقم: 346 من القانون المدني المصري، والمادة رقم: 356 مدني عراقي، والمادة رقم: 397 مدني كويتي. ولكن انتقال الملكية يتم تلقائيا في المبيع المعين بالذات الذي يملكه البائع، والإفراز في المبيع المنقول المعين بالنوع، وبالتسجيل في العقار يتم انتقال الملكية مقابل التزام المشتري بالثمن سواء دفعه المشتري حين العقد، أم بقي دينا في ذمته مستحق الأداء أم كان مؤجلاً أم مقسطًا.

وهذا ما نصت عليه المادتان: 204، 205 مدني مصري، والمادتان: 393، 394 مدني لبناني، والمادة: 231 مدني عراقي، والمادتان: 205، 206 مدني سوري، والمادة: 494 مدني أردني.

ومما تقدم يظهر أنه فيما يتعلق بالمنقول المعين بالذات أن ملكيته تنتقل إلى المشتري فور إبرام العقد، ويستوي في ذلك حكم الشرع ومجلة الأحكام والقوانين الوضعية. ونظرًا لطبيعة بيع التقسيط التي تيسر للمشتري الحصول على السلعة بشروط سهلة تغريه بالشراء فيثقل بذلك كاهله ويعجزه عن الوفاء بدينهº مما ينعكس أثره على البائع إضاعة لحقوقه، وإضعافا لمركزه المالي مع من يحصل على بضائعه منهم، لذا اقتضى الأمر أن يقوم البائع والمشتري في هذه المعاملة، وكان أبرز هذه الإجراءات ما يأتي:

المحافظة على حقوق البائع تحقيقا لهذا الغرض مع منح الضمانات الآتية:

1. حق حبس المبيع والامتناع من تسليمه للمشتري في حالة إفلاسه للمشتري أو إعساره أو ضعف التأمينات التي قدمها لكفالة الثمن.

2. حق استرداد المبيع إذا أخل المشتري بتنفيذ التزامه بسداد ثمن المبيع بعد مضي الأجل المحدد في بيع التقسيط.

3. الاحتفاظ بالملكية: فيجوز للبائع أن يشترط في العقد تعليق انتقال الملكية على شرط واقف يتمثل بدفع الثمن المقسط كله.

4. الرهن والكفالة.

5. إيقاع بعض الجزاءات على المشتري إذا امتنع عن تسلم المبيع كالغرامة التهديدية أو إيداع المبيع عند ثالث، أو المطالبة بالفسخ.

وتطبق هذه الضمانات أحكامها العامة كما أوردتها كتب الفقه والقانون في مظانها، ولقد رتب قانون التجارة على المشتري عقوبات شديدة في هذه الحالة منها بيع السلعة بالمزاد العلني بعد مضي مدة معقولة يحددها البائع ويخطر بها المشتري بسرعة، أو أن يبيعها في السوق أن كان لها سعر معلوم على يد سمسار، ومن ثم يوضع حصيلة البيع خزانة المحكمة مع الاحتفاظ بحقه في خصم الثمن ومصروفات البيع.

شروط البيع بالتقسيط في جانب المشتري:

قلنا بأن البيع إذا تم صحيحا مستوفيا لأركانه وشروطه لزم البائع أن يقوم بتسليم المبيع للمشتري سواء كان الثمن حالا أو مؤجلا برضا البائع، ويلتزم البائع في مقابل ذلك بتسليم الثمن للبائع إذا كان حالا، أو عند حلول أجل الأقساط إذا كان مقسطًا.

وتحدثنا فيما تقدم عن الضمانات الشرعية والقانونية التي تحفظ حق البائع في مواجهة المشتري سواء من حيث الامتناع من تسليم المبيع أو فسخ العقد واسترداد السلعة أو الاحتفاظ بملكية المبيع أو الإيجاز السائر للبيع أو أخذ رهن أو كفيل وسنتكلم الآن عن الضمانات التي منحها الشرع والقانون للمشتري من أجل المحافظة على حقوقه وأهمها تسليم العين المبيعة وينطبق على التسليم من حيث كيفيته وطرقه والحالة التي يسلم عليها المبيع وجزاء الإخلال به من التنفيذ العيني جدا وفسخ العقد وضمان عدم التعرض والاستحقاق والعيوب الخفية وأحكام تسليم المبيع والثمن بوجه عام على البيع بالتقسيط.

3 – حق حبس الثمن فإذا كان تنفيذ البائع لالتزامه بتسليم المبيع مؤجلا إلى وقت لاحق محدد ومتفق عليه بين الطرفين، وكما دفع الثمن مقسطا كذلك فلم يقم البائع بتسليم المبيع في الزمن المحدد فإن للمشتري الحق في التوقف عن دفع الأقساط اللاحقةº لأنه لا يمكنه المطالبة بإبطال البيع في هذه الحالة ولا ممارسة دعوى الضمان فيكون له الامتناع عن الوفاء بالثمن.

ويملك المشتري هذا الحق سواء أكان لم يتسلم المبيع بعد أم كان قد تسلمه، لكنه عاد إلى البائع لسبب فاحتفظ به، ومن جهة أخرى يملك المشتري حبس الثمن عن البائع إذا تهدد حق المشتري في ملكية المبيع الذي تسلمه فعلا كما لو تعرض أحد للمشتري مطالبًا بالمبيع استنادًا إلى حق سابق على البيع أو إذا حكم على المبيع أن ينزع من المشتري لظهوره مستحقا بدين أو رهن أو كان به عيب خفي يبرر رده. وقد جاء في المادة 392 من المجلة أنه لا يجوز بأي وجه كان للمشتري أن يحبس الثمن الحال بعد قبض في المبيع إلا إذا استحق المبيع، وقد نص القانون على جواز البيع كما في المادة رقم: 457 مصري، والمادة رقم: 446 ليبي، والمادة رقم: 425 سوري، والمادة رقم: 430 لبناني، والمادة رقم: 576 عراقي. ويثبت حق المشتري في التعرض ولو لم ينص عليه في البيع كما في المادة رقم: 445 مصري، والمادة رقم: 434 ليبي، والمادة رقم: 413 سوري، والمادة رقم: 576 عراقي.

وكذلك يملك نزع البيع من يد المشتري لأسباب جدية كما لو طالب الشفيع المبيع بحق الشفعة ودفع الثمن للبائع أو كما كان البائع قد اشترى المبيع ولم يدفع ثمنه، الأمر الذي هدد بفسخ عقد البيع واسترداد المالك الأصلي للمبيع.

ولو ظهر في المبيع عيب خفي يستوجب ضمنا البائع كان للمشتري أن يحبس الثمن.

وفي الحالات السابقة يتوقف حق حبس الثمن على ما إذا كان لم يدفع الثمن، أما إذا كان قد دفعه فليس أمامه إلا دعوى الفسخ أو دعوى الضمان.

ويسقط حقه في الحبس في تلك الحالات إذا زال سبب الحبس أو تنازل المشتري له عن حق الحبس أو قدم البائع للمشتري كفيلا بالثمن.

حماية المشتري بالتطبيق للقواعد فيستطيع المشتري بموجب القواعد العامة المنظمة لإبرام العقود اللجوء إلى القواعد المتعلقة بعيوب الإرادة بصفة خاصة كالغلط والتدليس والإكراه والاستغلال، كما يستطيع اللجوء إلى نظرية الظروف الطارئة التي تسمح للقاضي إذا ظهرت حوادث استثنائية لم يكن بالإمكان توقعها ويترتب على حدوثها المدين وتهديده بخسارة فادحة بأن يتدخل لتعديل آثار العقد لصالح المشتري وخفض المؤجل دفعه من الثمن.

حماية المشتري بنصوص تشريعية خاصة

فنظرًا لعدم القواعد العامة على توفير الحماية اللازمة للمشتري فقد وضع المشرع عددا من الأنظمة التشريعية الخاصة بهدف الوقوف إلى جانب المشتري، ومنها:

حماية سابقة على التعاقد، وذلك بإلزام كل من يقوم بالنشر أو الإعلان عن سلعة لإغراء المستهلك بشرائها بالتقسيط ببعض البيانات سواء الشخصية المتعلقة بشخصية البائع وطبيعة المبيع، ومدة الدفع أو المتعلقة ببيان ثمن السلعة الحقيقي، وبذا يكون المشتري على بينة من الأمر فلا يتعرض للغش أو الخداع من قبل البائع.

حماية في مرحلة التعاقد، وذلك عن طريق إصدار الأنظمة التي تلزم بأن يتم عقد البيع الآجل كتابة، وإعلام المشتري بشروط التعاقد، وتحديد الشروط للتعاقد من حيث بيان الحد الأدنى الذي يقوم بدفع مقدما، ومدة الأجل، والحد الأقصى للزيادة في الثمن مقابل الأجل وعدم إعطاء البائع الحق في استحقاق الأقساط المتبينة إذا عجز المشتري عن أداء بعض الأقساط.

التاجر يكسب أيضًا من التقسيط.. الرواج

تتمثل أهم النتائج التي توصلتُ إليها بعد إعداد البحث فيما يلي:

1- أن البيع بالتقسيط يُعين أن يعرض البائع على المشتري سلعة بثمن يدفعه في وقت لاحق لإتمام العقد، وبصورة دفعات متفرقة تُدفع في أزمان يتفق المتعاقدان عليها، مع ملاحظة وجود زيادة في ثمن السلعة عن ذاك الذي تُباع به لو كان الدفع للثمن حاضرًا عند العقد.

2- أن مظان البيع بالتقسيط تكمن في ثنايا البيوع الفاسدة أو البيوع المنهي عنها في كتب الحديث النبوي والفقه الإسلامي، لاسيما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، ونهيه عن صفقتين، ونهيه عن شرطين في بيع أو سلف وبيع؛ ذلك لأن من أبرز معاني هذه الأحاديث -كما ذكرتها عبارات شراح الحديث والفقهاء- أن يقول البائع للمشترى: “أبيعك هذه السلعة بكذا حالا أو بكذا مؤجلا”، وهي أقرب معين على بيع التقسيط والبيع بأجل.

3- أن البيوع المذكورة باطلة أو فاسدة عند جمهور العلماء، وعلة بطلانها أو فسادها كون الثمن مجهولا، ولكونها ذريعة إلى الربا المحرم، وعليه فقد بينت عبارات العلماء بصورة صريحة أو عن طريق الدلالة أنه إذا انتفت هذه العلة بأن اختار المشتري أحد الثمنين وعيَّنه قبل التفرق من المجلس، ولم يكن البائع قد ألزمه بالبيع قبل الاختيار، فإن العقد يكون صحيحا، بل إن الفساد يزول عند الحنفية لو عيّن الثمن المراد بعد العقد من منطلق قولهم بأن الفساد يرتفع بزوال المفسد.

4- بناء على ما تقدم، ولما كان بيع التقسيط يتضمن اختيار المشتري برضاه وإرادته للثمن الآجل مع الزيادة قبل التفرق من المجلس، وبناء على ما أقامه جمهور الفقهاء من أدلة تنفي التشابه بين الزيادة في الثمن عند البيع بالتقسيط والزيادة في الربا، وهو المستند الرئيسي للمانعين من القول بصحة بيع التقسيط، بالإضافة إلى أدلتهم القوية الأخرى، ومناقشتهم الدقيقة لأدلة القائلين بالبطلان؛ مما جعلها لا تنهض بها حجة.. كل ذلك كان مرجحًا ومعززًا للقول بصحة التعامل ببيع التقسيط، وأنه لا إثم ولا حرمة فيه ولا شبهة.

5- أن فتاوى وأقوال جل علماء الشريعة قد توافقت في القول بصحة البيع بالتقسيط.

6- أن علماء القانون المدني الوضعي قد وافقوا علماء الشريعة في القول بصحة البيع بالتقسيط.

7- أن علماء الشريعة ورجال القانون قد أحاطوا عقد البيع بالتقسيط بسياج من الشروط التي تضمن تحقيق هدفه في تيسير معاملات الناس، وتسهيل حصولهم على حاجاتهم، من خلال الدفع الميسر المريح، مع ملاحظة ترويج بضائع التجار، وتنشيط الحركة التجارية دون أن يكتنف ذلك شيء من الاستغلال أو الغبن أو التغرير أو الخداع وإضاعة الحقوق، أو المماطلة والتسويف، أو اتخاذ الحلال ذريعة للحرام.

8- أن الأحكام الفقهية والنصوص القانونية أوضحت بصورة جلية حدود العلاقة بين البائع والمشتري، وما يترتب لكل واحد منهما إزاء الآخر من حقوق والتزامات، ووضعت القيود، ومنحت كلا منهما الضمانات التي تكفل له حقه وتصونه من العبث والإهدار؛ فيبقى التعامل بين المسلمين نقيا لا يشوبه لَبس، ولا يُفضي إلى خصومة، بل يكون سبيلا لتحقيق مقصود الشارع الحكيم في المحبة والتعاون والتراحم بين العباد.

د. محمد عقلة الإبراهيم