الشيخ “طنطاوي جوهري” هو من العلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين علوم كثيرة يبدو بعضها متناقضا، فكان من علماء الأزهر، وصاحب منهج تفسيري في كتابه “الجواهر” حول العلاقة بين آيات القرآن والعلم، وله إسهامات في الكتابة عن الموسيقى، ورغم ذلك كان من المؤمنين بالروحانيات، من دعاة السلام العالمي، من المناضلين الوطنيين ضد الاستعمار ومن المنضمين لغالبية الحركات والجمعيات الإسلامية التي نشأت في تلك الفترة من التاريخ، ووصفه الزعيم مصطفى كامل بأنه “حكيم الإسلام”.

التكوين

ولد “طنطاوي” في قرية “كفر عوض الله حجازي” التابعة لمحافظة الشرقية بمصر سنة (1287هـ- 1870م) واشتغل في مبدأ أمره بالزراعة مع أسرته التي كان لها اتصال حميد بعلماء الجامع الأزهر.

أرسله والده إلى كتاب القرية لحفظ القرآن الكريم، ولما أتم الحفظ ازداد ولعه بالعلم فالتحق بالأزهر، وبعد سنوات قضاها في الأزهر وقعت أحداث الثورة العرابية فاضطر لأن يرجع إلى قريته سنة (1882م).

ثم عاد إلى القاهرة مرة أخرى بعد أن تم القضاء على العرابيين والتحق بمدرسة دار العلوم عام (1889م) وفيها تفتحت آفاقه على ثقافات أوسع، فقد هزته دراسات العلوم الطبيعية والفلك وغيرها من العلوم التي لم يكن يدرسها في الأزهر، ويقول عن ذلك: “كنت في هذه المدرسة أقرأ ما يروي ظمأ روحي”.

تخرج “طنطاوي” في دار العلوم سنة (1893م) وعين مدرسا بمدرسة دمنهور الابتدائية، وتنقل بين عدد من المدارس منها المدرسة الخديوية حيث بقى فيها عشر سنين (من سنة 1900 إلى سنة 1910م) وأثناء وجوده بها عكف على تعلم اللغة الإنجليزية حيث أتقنها وترجم بعض كتبها ومنها مؤلفات اللورد “افبوري” كما ترجم أعمالا لبعض الشعراء الإنجليز.

وخلال هذه الفترة رشح لتدريس الفلسفة العربية في جامعة لندن ولكن دسائس زملائه حالت دون سفره.

ولما تولي “أحمد باشا حشمت” نظارة المعارف العمومية عين الشيخ “طنطاوي” مدرسا للتفسير والحديث سنة 1911م بمدرسة دار العلوم، كما اختير “طنطاوي” ضمن هيئة التدريس بالجامعة المصرية الأهلية ليلقي بها محاضرات في الفلسفة الإسلامية وفي ذلك الحين رشح لتولي منصبا قضائيا لكنه لم يقبل.

وبعد إعلان الحرب العالمية الأولي سنة 1914م كان الشيخ طنطاوي هدفا لدسائس كثيرة من بعض الجاحدين انتهت به إلى المدارس الثانوية فانتقل إلى مدرسة “العباسية” الثانوية بالإسكندرية، وهناك كون جمعية من الطلاب أسماها “الجمعية الجوهرية” كان لها أثرها في بث الوعي القومي والثقافي بين الشباب السكندري.

وفي أكتوبر سنة 1917م دعي إلى القاهرة للتدريس بالمدرسة الخديوية ثانية وفي عام 1919 -أثناء المظاهرات التي قامت ضد الإنجليز- قام البوليس بتفتيش مسكنه لما عرف من وطنيته، ولمقالاته التي كان ينشرها في جريدة “اللواء” عن الأمم المستعبدة والأمم المستضعفة ووسائل الإصلاح.

في ذلك الحين كان الشيخ طنطاوي قد أخذ على نفسه عهدا وقال: “إنني عاهدت ربي أن أعلم الناس ما علمت وأني إن وقفت على حقيقة نشرتها بين العالم الإسلامي، وإن لم أنشر ذلك بين الملأ كنت كافرا بنعمة ربي ناقضا لعهده”.

الجواهر والتفسير العلمي

بدأ “طنطاوي” يحقق ما قال وأخذ يقرن العمل بالقول فأبرز للعالم الإسلامي كتابيه: “ميزان الجواهر” و”جواهر العلوم”.

وفي سنة 1922م انقطع الشيخ طنطاوي عن التدريس لبلوغه السن القانونية للمعاش لكنه استطاع أن يهب وقته كله لكتابة تفسيره “الجواهر” الذي عمل لإنجازه دون توقف من سنة 1922 إلى سنة 1935.

يقع كتاب “الجواهر في تفسير القرآن الكريم” في نحو ستة وعشرين جزءا وكان قد نشر شذرات متفرقة منه باسم “التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم”.

يتحدث في مقدمة التفسير عن البواعث التي دفعته لتأليفه فيقول: “أما بعد فإني خلقت مغرما بالعجائب الكونية معجبا بالبدائع الطبيعية مشوقا إلى ما في السماء من جمال وما في الأرض من بهاء وكمال آيات بينات وغرائب باهرات، ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية ألفيت أكثر العقلاء وبعض جلة العلماء عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج بها ساهين لاهين فقليل منهم من فكر في خلق العوالم وما أودعت من الغرائب فأخذت أؤلف لذلك كتابي”.

وسمى تفسيره “الجواهر في تفسير القرآن الكريم” لأنه يجعل الجوهرة بدل الباب أو الفصل والجوهرة يتفرع عنها الماسة الأولى والماسة الثانية وهكذا.

وطريقته في تفسير القرآن أن يبدأ بالتفسير اللفظي للآيات التي يعرض لها ثم يتلوه بالشرح والإيضاح، أي أنه يشرح متوسعا في الفنون العصرية المتنوعة.

وكان يضع في تفسيره كثيرا من صور النباتات والحيوانات ومناظر الطبيعة وتجارب العلوم بقصد التوضيح والبيان.

فمثلا عند تفسيره لقول الله تعالى “وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد… الآية” البقرة: 61

نجده يبين الفوائد الطبية في هذه الآية ثم يأخذ في بيان ما أثبته الطب الحديث عن نظريات طبية ويذكر مناهج أطباء أوربا في الطب ثم يقول: “أليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن؟ أو ليس قوله “أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير” رمزا لذلك؟.

ونراه يلوم المسلمين لأنهم اهتموا واعتنوا بالفقه واختلاف الفقهاء، ولم يهتموا بالعلوم والآيات الدالة عليها، رغم أن آيات الأحكام قليلة جدا.

ويقول: “لماذا كثر التأليف في علم الفقه وقل جدا في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة، وهي تبلغ (750) آية صريحة؟ وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آياته قليلة ويجهلوا علما آياته كثيرة جدا؟”.

وكان لهذا التفسير في الشرق الأقصى وفي إيران بوجه خاص سمعة طيبة وشهرة واسعة النطاق وقد قالت عنه مجلة الجمعية الآسيوية الفرنسية: “إن الشيخ طنطاوي رجل فيلسوف حكيم بمقدار ما هو عالم دين، وبهاتين الصفتين قد فسر القرآن الذي أثبت أنه دين الفطرة بما هو أكثر ملائمة للطباع البشرية وموافقة للحقائق العلمية والنواميس الطبيعية.

عني الشيخ طنطاوي بالموسيقى وتحدث عنها حديث الخبير بها وربطها بالفكر الإسلامي. فتحدث عن موقف الإسلام من الأغاني والفنون وكان يقول: “إن الموسيقى المسموعة باب من أبواب الموسيقى المعقولة” وأورد في تفسيره كثيرا من النوادر والحوادث الشخصية التي كانت الموسيقى حافزا له فيها على ارتياد مواطن جديدة من النشاط الفكري.

كان “طنطاوي” من أبرز أعضاء “دائرة القاهرة الروحية” وله عدد من المؤلفات التي يعتد بها في هذا الموضوع مثل “الأرواح” وفيه يدافع عن الروحية، وقد ألف كتاب “براءة العباسة” أخت هارون الرشيد، وذكر في الكتاب أنه قام بتحضير روح هارون الرشيد وأن روح هارون شكرته على تأليف هذا الكتاب.

وقد أولى “طنطاوي” اهتماما خاصا بالسلام العالمي ووضع نظرية في هذا المجال استمدها من مفاهيم القرآن، وخلاصة رأيه فيها أن “سياسة الأمم إن لم يكن بناؤها على حساب كحساب العلوم فإن النوع الإنساني سيحل به الدمار ولا يستحق البقاء”.

جعل علوم الرياضة والفلك والنبات والكيمياء والتشريح وعلم النفس وسيلة توصل إلى حل مشكلة السلام العام، وله كتابان وجههما إلى العالم في هذا الشأن هما: “أين الإنسان” وصاغه على هيئة رواية سياسة فلسفية تناول فيها آراء عدد من الفلاسفة مثل “الفارابي” و”ابن طفيل” و”توماس مور”، وكتاب “أحلام في السياسة وكيف يتحقق السلام العام”.

وقد رشح عام 1939م بكتابيه هذين إلى الدوائر الغربية لنيل جائزة نوبل للسلام، رشحه للجائزة الدكتور مصطفي مشرفة بوصفه عميدا لكلية العلوم والدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان والرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين وأخذت وزارة الخارجية بهذا الترشيح وأرسلت مؤلفاته إلى البرلمان النرويجي مشفوعة بتقرير عن جهوده في سبيل العلم والسلام وشهادات علماء إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في قيمة هذه المؤلفات، لكن وفاة الشيخ “طنطاوي” حالت دون إتمام الأمر لأن جائزة نوبل لا تمنح إلا للأحياء فقط.

طنطاوي في عيون العلماء

أولى الباحثون الغربيون اهتماما كبيرا بطنطاوي جوهري وتحدثوا عن مؤلفاته وآثاره؛ فاهتم البارون “كراديفو” به في كتابه “مفكرو الإسلام” ووصفه بأنه واحد من المصلحين الذين ربطوا بين جوهر الإسلام وبين النهضة الحديثة.

يقول “كراديفو”: إن الأزهر أظهر ثلاثة مصابيح: محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطنطاوي جوهري”.

كما ذكره “تشارلز آدمز” في كتابه “الإسلام والتجديد في مصر” كواحد من تلاميذه في مدرسة التوفيق بين المدينة الغربية والإسلام.

وقال الدكتور ريتشارد هارتمان: “إن طنطاوي جوهري يسير على نهج الإمام محمد عبده في فهمه أن الإسلام هو دين العقل والفهم لا التقليد، وأن العلم إذا أحسن فهمه يصبح أداة صالحة لفهم الدين”.

ونجد المستشرق الإيطالي الشهير “سانتيلانه” يقول في كتابه “صدى صوت المصريين في أوروبا” والذي نشر عام 1911م: “ليس هناك بمصر من يجهل الشيخ طنطاوي جوهري، فهو ذلك الكاتب النحرير والمحرر الشهير، ذلك الإنسان ذو العقل الكبير؛ بل أحد رؤساء الحركة السياسية والاجتماعية التي انتشرت في طبقات الشعب الإسلامي كافة تحت اسم الجامعة الوطنية”.

وقال الأستاذ العلامة “كريستيان جب”: إن كتاب “أين الإنسان” يبحث في أعقد المشكلات العالمية بحثا عجزت أوربا إلى اليوم عن الإتيان بمثله.

وقال: “إني أعلن أن خير كتاب أخرج للناس في هذا الشأن هو كتاب “أين الإنسان” الذي يرسم للعالم بأسلوب فلسفي عميق الطريق المستقيم إلى السلام الدائم الذي رسمه الله في قوله تعالى “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”.

وفي صباح يوم الجمعة 12 يناير سنة 1940م توفي الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله تعالى.

ياسر حجازي