خالد عبد المعطي- من دعاة الجمعية الشرعية
في لقائه مع بعض السيدات
في قرية صغيرة اسمها “كوم حلين” بمحافظة الشرقية التي تشتهر في مصر بأنها تضم “الأطيب” من حيث البشر، ولد د. فؤاد مخيمر في 5 مايو 1939 لأب وأم من الريف النبيل، وسط أسرة متواضعة من تلك التي “تكمل عشاءها نومًا”. كما يقول المثل الشعبي المصري.
لم يمنعه شظف العيش ورقة الحال من أن يتم حفظ القرآن وهو في الثانية عشرة من عمره على يد الشيخ غنيمي بدار، وأن يتم تعليمه في الأزهر حتى يحصل على الإجازة العالية (الليسانس) بتقدير عام (جيد جدًا) مع مرتبة الشرف الأولى عام 1973م، ومن لطائف القدر أن تكون بداية حياته العملية مدرسًا بمعهد الزقازيق الديني في أول أكتوبر 1973م، وهو شهر النصر على العدو الصهيوني في حرب العاشر من رمضان.
وما لبث أن حصل على الماجستير شعبة (اللغويات) وعين مدرسًا بالكلية عام 1975، ثم الدكتوراة في اللغويات من كلية اللغة العربية 1979 ، ثم نال درجة الأستاذية في اللغة العربية وآدابها 13-6-1990.
العلم وحده لا يكفي
رأى الشيخ أن العلم لا قيمة له إلا بالعمل فحمل على عاتقه أمانة العلم والعمل معًا ومارس الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وجند في سبيل ذلك ما يملك من قدرات ومواهب فيكفي أن تقرأ قائمة بمؤلفاته لتعرف كيف جند الرجل قلمه وفكره في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، فضلا عن مئات المقالات في الصحف والمجلات.
ظل مشاركًا بدأب في كل أنشطة الجمعية الشرعية الدعوية لأربعين عامًا كاملة حتى إذا توفي سابقه الشيخ محمود فايد وجد أعضاء الجمعية فارسنا علمًا شامخًا يسد هذا الثغر المتين، ولم تلهه الأعباء الإدارية عن العمل الدعوي المباشر حتى قبيل وفاته بأربع وعشرين ساعة، يشارك في المؤتمرات والندوات ويعتلي المنابر، ومما يذكر عنه أنه كان نادر الاعتذار عن عمل دعوي، وإن فعل فمراعاة لأولويات العمل.
يتحكم في الملايين ويأكل الفول فقط!!
بلغ إنفاق الجمعية الشرعية الشهري ملايين ضخمة لكن نظيف اليد والجنان د.فؤاد، لم يتنكر لرقة حاله يوما، ورغم سفره وإلقائه المحاضرات وتدريسه في جامعات العالم المختلفة، وقدرته على العيش في بحبوحة ورغد فإنه ظل وفيا لبساطته وزهده في الدنيا، ومن ذلك ما يذكره بعض أصدقائه أنهم زاروه ذات مرة يوم عيد الفطر، وهو رئيس الجمعية الشرعية، فوجدوه يأكل فولا نابتًا (أحد أرخص الأطعمة الشعبية في مصر) لا غير.. وما زلت أذكر وقد رافقت مشواره في رئاسة الجمعية الشرعية، آخر غداء له قبل وفاته بيوم واحد ولم يزد عن طبق صغير من الفول.
وربما يفسر ذلك بضيق ذات يده مثلا، ولكن تبقى الحقيقة أنه تحديد الأولوية، فقد كانت له قطعة أرض زراعية يحرص على حضور يوم حصادها، ولا يزال فقراء قريته يذكرون مشهده وهو يوزع معظم محصولها بنفسه عليهم باسمًا ضاحكًا.
وليس هذا عجيبًا على رجل ما زلت أذكر له موقفًا منذ كنت طالبًا في معهد الإمامة، فتقدمت للامتحان أمامه وتناقشنا في مسألة واختلفنا حولها، فلما علم أن الصواب معي لم يستنكف ـ وهو الإمام ـ أن يقرر بأن الحق معي، ويحمد الله أنه يتعلم من أبنائه.
على فلسطين انفطر قلبه
منذ اندلعت انتفاضة الأقصى وأصبح الرجل غير الرجل، وزاد من ذلك ما اندلع من بغي على أفغانستان، وصارت خطبه كلها بمثابة النذير العريان للأمة المسلمة.
وحينما حاصر اليهود المسلمين في جنين يقول أولاده وأهله: بلغ به الأمر أننا لم نكن نستطيع أن نكلمة من شدة حزنة وغضبه، وكنا لا نستطيع أن نجلس معه لنستمع إلى نشرات الأخبار بكثرة ما كان يتلوى ويغضب ولا سيما وقد تقدمت به السن وهاجمته الأمراض فلم يتحمل هذه الصدمات المتلاحقة.. حتى لفظ أنفاسه حزينًا على أمته ووطنه.
ولم يكن د. فؤاد يكتفي بالحزن فحسب، لكنه منذ سنوات وهو يمتنع تمامًا عن تناول المشروبات الغازية الأمريكية، وإذا رآها على مائدة أو في حفل دعا إلى مقاطعتها بحماس يحسد عليه، وليس ذلك خلال الانتفاضة الحالية ولكن منذ سنوات وقبل أن تتحدث عنها الأجهزة الرسمية وحرص على جعلها سلوكًا عامًا بين أبناء الجمعية.
ولعل أبرز ما تميزت به الجمعية في عهده ـ رحمه الله ـ هذا الدور البارز في دعم قضية فلسطين؛ حيث جعل منها مادة علمية للوعاظ والعلماء، بل حصلت الجمعية على سبق أن تكون الجهة الوحيدة التي يسمح لها بجمع التبرعات مع الهلال الأحمر المصري، مما كان له أثره في إرسال التبرعات والإعانات إلى أرض الجهاد في فلسطين.
وكان الفقيد رحمه الله مهمومًا بما يجري في الأرض المحتلة وكان شغله الشاغل تقديم المساعدات لأهل فلسطين، وبالفعل أرسل خلال 2001 فقط معونات بـ مليوني دولار، وكان آخر عمل قدمه لفلسطين قبل وفاته بساعات تقديم ثلاث سيارات إسعاف مجهزة تجهيزًا كاملاً لمساعدة مرضى فلسطين.
ولم يكن الشيخ بصفة عامة بمعزل عن الأحداث العالمية وقضايا الساعة فهو حريص على أن تكون للجمعية الشرعية كلمتها في قضايا الساعة مثل: نقل الأعضاء البشرية، وتأجير الأرحام، والاستنساخ، والعلميات الاستشهادية، وغير ذلك.
تميز كذلك بمنهجه المتميز في إعطاء الفرصة لمن حوله وعدم فرض الرأي عليهم، فحين تناقش القضايا الملحة كان يكلف بعضًا من السادة العلماء بالبحث فيها على أن تناقش في اجتماع العلماء بالجمعية كل شهر، ويترك الأمر للبحث دون فرض رأي بل أحيانا كان يدافع عن الرأي الأضعف حتى لو لم يكن مؤمنًا به حتى لا يظلم أنصار هذا الرأي.
أولاده وأسرته.. نذر لله
المطالع لسيرة الرجل يجده قد وظف كل من حوله لخدمة دعوته، وأقرب من حوله أهله لذا كان حريصًا على مشاركتهم في العمل الصالح فقد دفع بولده [ على فؤاد على مخيمر] ليكون مسئولا عن مشروع جديد من مشروعات الجمعية الشرعية وهو مشروع “رعاية طالب العلم”.
ويكفي زوجته فخرًا أنها تحملت معه أعباء دعوته، فقد تحول منذ توليه الجمعية الشرعية إلى ترك منزله ليقيم في استراحة الجمعية الشرعية الرئيسية بالقاهرة، حتى إذا ما احتاجته الدعوة في ليل أو نهار كان على أهبه الاستعداد.
سماح السلطة للجمعية لا يعني تأميمها
رغم أن الدولة قد سمحت بنشاط الجمعية ولم تضيق عليه فإن ذلك لم يكن يعني تخاذلا أمام السلطة، وما زالت مواقفه تأخذ جانب الحق مهما كانت التبعات، ومن آرائه الصادعة بالحق في قضايا مختلفة مثل: وجوب المقاطعة الاقتصادية، أو فضل العمليات الاستشهادية، أو وجوب إعلان الجهاد، فقد اتخذ فيها مواقف لا ترضى عنها السلطة تمامًا، وأبعد من ذلك أنه كان يقف في صف الدعاة الأكفاء حتى وإن لم يكونوا ممن ترضى السلطة عن آرائهم ومواقفهم خاصة السياسية، وما زلت أذكر أن بعض سلطات الأمن طالبت الشيخ بإقصاء أحد العلماء وهو أستاذ جامعي مرموق، ومن خيار رجال الجمعية فرفض الشيخ بشدة، وقال لهم: “أنا لا أعلم عنه إلا خيرًا، وإذا كانت هذه النماذج تبعد عن ساحة التوجيه فاعزلوني قبل أن تعزلوه”.
ولطالما دافع عن الشباب المسلم الذي اندفع للعنف رغم غضب بعض الحكومات الإسلامية من ذلك، لكن الشيخ لم يتراجع عن قوله: “إن الشباب الذي عرف طريق الله لا يخرب ولا يدمر.. والنصر إن شاء سيكون على أيدي أولئك الشباب.. لكن للأسف كثير من الحكومات في البلاد الإسلامية في غفلة عن هذا”.
وأرجع سوء الفهم العميق والثقة المفقودة بين هذا الشباب والحكومات إلى مكر الأعداء بالليل والنهار والذين يهدفون من ورائه إلى إبعاد الشباب الملتزم عن ميدان المواجهة مع الأعداء، وإنما يريدون شبابًا صنعوه هم فسعوا إلى توسيع الفجوة بين الشباب الملتزم والحكومات الإسلامية.
الجمعية الشرعية معه.. وثبة للأمام
إن روحًا جديدة سرت في جسد الجمعية الشرعية في حياة الشيخ تمثلت في نضوج الوعي بقضايا الأمة وعدم اجتزاء الدين، والنظرة الحضارية للإسلام، والانفتاح على العالم، وهو نفسه كان يسخر من النظرة القديمة للجمعية الشرعية، فكثيرًا ما كان يقول: “الإسلام لا يقتصر على الهدي الظاهر فما زالت هناك بدع باطنة أشد خطرًا من البدع الظاهرة”.
وقال يومًا في اجتماع العلماء “أريد من سيادتكم أن تقدموا للناس الصورة الكاملة عن الإسلام، فما زال الناس يظنون برجال الجمعية الشرعية أنهم شكليون لا يعرفون غير اللحية والسواك وإطالة صلاة الظهر إلى العصر”، ويمضي قائلا: “فلا بد أن نعي جيدًا الدور المنوط بنا وهو جمع الأمة على كلمة سواء والتركيز على الثوابت”.
وقد أيد ذلك بموقفه العملي فانتماؤه للجمعية الشرعية لم يمنعه من أن يخطب في مسجد العزيز بالله ـ أحد أكبر مساجد أنصار السنة المحمدية ـ بل استطاع أن ينقل المستمعين إلى ساحة الثوابت والاتفاق وليس التنازع والاختلاف، ولم يذكر عنه أحد أبدًا أنه قدح في عالم خالفه في الرأي، بل كان يذكره بأفضل الألقاب، ويلتمس له الأعذار.
ومنذ توليه رئاسة الجمعية في 6 صفر 1418هـ وحتى وفاته في 1423هـ نجد تقدمًا ملحوظًا في نشاط الجمعية، مثل:
– القوافل الدعوية التي كانت تغطي القطر المصري والمحافظات النائية ـ وما زالت ـ وكان الإمام عضوا بارزًا فيها، وكانت الجمعية قد تبنتها من قديم إلا أنه نظمها ووجهها.
– معاهد الدعوة والأمامة وقد نشطت في عهده نشاطًا ملحوظًا لتخرج كوادر من الدعاة والخطباء، وكان يدرس فيها بنفسه ويرأس بعضها، وآخر مشاريع الجمعية في عهده كانت إنشاء (11) معهدا جديدا للدعوة في القاهرة والمنصورة، و الباجور ، وأشمون ، وبني سويف ، وبتكلفة (11) مليون جنيه مصري، كان د. فؤاد يطمح إلى إرسال هؤلاء الخريجين إلى بعض الدول الإسلامية في أفريقيا وآسيا الوسطى.
– “أسبوع الدعوة”، وهو أسبوع ثقافي دوري يقام في مسجد من المساجد يلتقي فيه دعاة الأمة بالجماهير العريضة من الناس.
– اللقاءات الإدارية في الجمعية للتخطيط والإدارة والمتابعة، للحفاظ على تجدد عطاء الجمعية واستمراره.
– توسع الإمام الراحل في الدعوة إلى مبادئ الإسلام بالسلوك العملي، من خلال الانفتاح على المجتمع، وللحق فإن أحد أهم المشروعات الاجتماعية التي تبنتها الجمعية الشرعية هو “مشروع كفالة الطفل اليتيم“، ولكنه كطبيعة الأشياء بدأ بخطوات وجلة، فجاء الشيخ مخيمر وسانده بكل قوة، حتى أصبح محل دراسات أكاديمية وأصبح للجمعية الشرعية في المجتمع المدني ثقلا لا يستهان به، ولا شك أن الإنفاق على 320 ألف يتيم موزعين على أكثر من ألف وثلاثمائة مسجد تابع للجمعية في 20 محافظة قد حدا بالإمام الشيخ أن يتوسع في مشروعات أخرى أضحت رائدة مثل:
– محو الأمية.
– مشروع تشغيل أمهات الأيتام.
– تيسير زواج اليتيمات وقد قام بتزويج 4563 فتاة يتيمة.
– المشروعات الطبية [غسيل الكلي 60 جهاز غسيل كلى بالمستشفيات المختلفة ـ وحدة الأشعة ـ حضانة للأطفال المبسرين…الخ].
– مشروع [رعاية طالب العلم]
– مشروع المعوق المسلم، هذا المشروع يهدف إلى تحويل المعوق من شخص عاجز إلى منتج.
– برنامج إطعام مرضى المستشفيات 600 وجبة ساخنة يوميا.
– مشروع علاج مرضى الفشل الكلوي ويقوم على توفير 40 جلسة غسيل كلوي مجانا للمريض.
لا بد للفارس أن يترجل
ترجل الفارس ليلقى ربه في 14صفر1423هـ.. يذكر القريبون منه في هذه اللحظات أنه في أيامه الأخيرة كان يكثر من الدعاء للعلماء الراحلين ولأئمة الأمة، ويذكر قضية الموت والاستعداد للرحيل كما لم يكن يذكرها من قبل، ويهيب بإخوانه أن يربوا الصف الثاني والثالث لحمل أمانة الدعوة..
دب المرض في جسده بعد حياة مليئة بالمتاعب، ولكنه ما كان يستسلم لهذا المرض أو ذاك بل كان يعمل بدأب ونشاط إلى آخر رمق، ورغم سطوة المرض في الأيام الأخيرة فإن ذلك لم يمنعه من اجتماع الأربعاء 12صفر1423هـ، في الجمعية العمومية، ورغم أن المقرر له أن يتكلم خمس عشرة دقيقة إلا أن كلمته قاربت الساعة، وتحدث عن كل شيء يخص المسلمين كأنها موعظة مودع.
تحدث عن الحكام المسلمين ومسئوليتهم، والمقاطعة والتأصيل الشرعي لها، حتى قال الشيخ عمر السطوحي- أحد دعاة الجمعية- “والله لقد رأيت الموت في عينيه يومها، قد انبرى جسمه ونحتته الهموم نحتًا”، وقد ازداد تعبه في اليوم التالي (الخميس) فجمع أبناءه وذويه وظل يوصي الجميع ويحمل الأمانات والتبعات، ثم أمر الجميع بالانصراف للاختلاء بربه، ثم دخلوا بعد فترة فإذا به في الرمق الأخير وكان الوقت ليلاً وما كادوا يصلون إلى المستشفى حتى فاضت روحه إلى بارئها صباح الجمعة التي كان من المقرر أن يعتلي فيها منبر الجمعة بالجلاء وبالقاهرة لكن يشاء الله أن تتحدث عنه يومها المنابر.