علاء سعد – 33 عامًا – مصر

لك الله يا مريم.. لك الله يا بنيتي.. أكيد أنا وأمك أخطأنا في تقدير العواقب..
لم تتحمل أعصاب ابنتي الحبيبة مريم ذات الست سنوات فانهارت تمامًا.. وأنا الآن
عائد وحيدًا من المستشفى لأقيم بمفردي بالمنزل بينما تبقى أمها إلى جوارها بالمستشفى..
لم أكن أتصور أن يتطور الموقف إلى هذا الحد.. في البداية كنا نريد أن تعرف موطنها الأصلي تتأكد هويتها وأصالتها في أعماقها.. منذ سنوات وهي تسمع أنشودة: “مريم اسم طفلة فلسطينية كان ميلادها في المخيم”.
وهي منذ وعت الكلام تقول في براءة الطفولة التي تفطر القلب:
عندما أكبر اشترِ لي سلاحًا لأقاتل اليهود وأحرِّر المسجد
كانت الكوابيس الصغيرة تأتيها في أحلامها على هيئة خرافات أسطورية متوحشة تصرخ بالليل.. خائفة من اليهود.. خائفة من الصهاينة.. لماذا يا مريم؟
– هم يقتلون الأولاد يا ماما
تأخذها أمها في أحضانها، وتربت على كتفها، وتمسح على شعرها، وتردد آيات القرآن الكريم:
– لا تخافي يا مريم أنت في حضن ماما.. وهذا بابا نائم بجوارك.
– وهل يستطيع أبي أن يحميني؟؟
– طبعًا يا مريم طبعًا..
– لكنهم قتلوا محمد وهو في حضن أبيه
تسكت الأم تخبئ دمعها.. تصرخ الصغيرة:
– قتلوه وأنا أرى صورته كل يوم في التلفزيون عشر مرات
– اطمئني يا حبيبتي واهدئي اليهود لا يدخلون مكة إنهم..
– (تصرخ) سمعت الشيخ يقول عندما يفرغون من القدس فسيأتون.. قتلوا إيمان.. طفلة أصغر من أختي فاطمة التي ترضع منك يا ماما.. رأيت صورتها على غلاف مجلة عند أبي..
أراهم في الحلم.. أراهم بوجوه سوداء مرعبة يحدقون في وجهي بعيون نارية.. عيون.. تطلق الرصاص فتنزف الدماء، وأراك بعدها تصرخين وأبي يبكي.. الصور التي علقها أبي في غرفة الضيوف.. فيها جنود يقتلون الأطفال.. فيها دماء كثيرة.. فيها..
– سأنزعها في الصباح يا مريم لا تخافي..
– عندما أسمع صوت باب غرفة الصالون يفتح أشعر أنهم سيخرجون من الصورة سيقتلونني، وسأنزف دمًا لا يبقى على الحائط، لكن سيلطخ أرض الغرفة..
كانت القاصمة لمريم عندما تابعت في الفضائيات دفن الجثث المتعفنة.. كانت تواري دمعها عنا وتخفي وجهها.. وتتشنج.. لم أملك القدرة على إغلاق التلفاز.. تجاهلت أساها.. قلت في نفسي: مريم مشروع استشهادية يبنيها الأسى والحزن والحقد على الغاصب.. لكنها ظلَّت طوال الليل تصرخ.. تصرخ حتى وهي نائمة.. تصرخ وتهذي بحروف متلعثمة غير مترابطة: رأيتهم وهم يدفنونك يا أبي.. خلعوا الوردة الحم..را.. الحلوة.. كانت ور..دتي، وحفروا تحت الحو..ض الخراب الأسود تحت التر..اب .. وضعوا فاط..مة، ثم تصرخ وتنادي على أختها.. وأنا وأمها نبذل المستحيل لتهدأ لكنها لا تشعر بوجودنا.. حرارتها فوق الأربعين.. وهذيانها مستمر وصراخها لا ينقطع.. وأخيرًا في المستشفى حقنة منومة وعلاج.. وما زالت مريم ترقد فوق السرير الأبيض تحلم بالدم القاني..
النقد والتعليق:
القاص والسيناريست عماد مطاوع: يولد الإنسان وتتواصل معه الأيام والسنوات؛ ليكبر ويتمكن هو من التواصل مع حياته ومجتمعه؛ ليصبح عضوًا فاعلاً فيه، وهناك أشياء خاصة للغاية لا يتسنى للمرء أن يسقطها من ذاكرته، خاصة إذا كانت هذه الأشياء تخص ذكريات أثرت على مجرى حياته كله، وأحيانًا تكون هذه الذكريات حافزًا ودافعًا قويًّا كي ما يعمل المرء بجهد حتى لا يتعرض أطفاله لمثل هذه الذكريات إذا كانت محزنة؛ ولهذا أجدني سعيدًا للغاية بقدر ما أنا أيضًا حزين.. فعندما اقرأ قصة “مريم” هذه الطفلة ابنة السادسة تربت هويتها، وتكون وعيها على أبوين فلسطينيين بثًّا فيها روح قضيتها الكبرى.. أسمعاها أغنية تربطها بجذورها.. بدلاً من أن يسمعاها أغاني الأطفال الوادعة.. تطلعت إلى مشاهد القتل والتدمير التي يتعرض لها أبناء وطنها وكانت دائما مؤرقة بهاجس الخوف.. من الصهاينة عندما تشاهدهم يقتلون الأطفال حتى عندما تهدئها الأم.
لا تخافي أنت في حضن ماما.. وهذا بابا بجوارك فترد في لهجة يائسة لكنها منطقية للغاية:
– قتلوا محمد وهو في حضن أبيه.
أية مأساة تلك التي تسلم الأطفال للهلع والخوف.. أي عبث هذا الذي يمنع الأزهار الصغيرة من أن تنعم بحياة هادئة مستقرة، ثم لا يتحمل قلب الزهرة الصغيرة فتسقط محمومة.. تهذي خائفة ويرجع الأب وحيدًا بعد أن تركها في المستشفى وإلى جوارها أمها.. يرجع حزينًا يشعر بالذنب فهو الذي بثَّ هذه الروح فيها كان يعدها كي ما تصبح استشهادية.. لكن القلب الغض لم يستطع التحمل، وبدلاً من أن تحلم بالبساتين والورود تحلم مريم بالدم القاني.. الذي كتب عليها أن تشاهده يلطخ وجه العالم.. الصامت المستكين.
إن قصة مريم تحمل حالة إنسانية خاصة.. وتعكس عجزًا يجد المرء نفسه في مواجهته.. وهل هناك أشد من شعور الأب بعدم القدرة على حماية ابنته الصغيرة.. والذي رمز له علاء في قصته بعجزه وفشله في الرد على استفسارات ابنته الصغيرة…
من ناحية البناء الفني.. وبالنسبة للحوار فقد جاء متميزًا لقدرته على التعبير عن الاضطراب والهجوم والدفاع في آنٍ واحد، وعجز الأبوين أمام أسئلة ابنتهما الصغيرة الكبيرة، وماثل بين عجز جمال الدرة عن حماية ابنه وعجز أبي مريم عن الإجابة على ابنته..
أخيرًا.. أقول لقد نجح الكاتب في التعبير عن حالته القصصية.. دونما اللجوء للصوت الزاعق، بل إنه كان هادئًا جدًّا بقدر ما كانت الأحداث تتفجر من حوله.. وهي صرخة أطلقت في قالب جيد البناء لا يشوبه إلا القليل جدًّا من لحظات مباشرة لم يكن لها داع.. لكنها قصة تنبئ عن قلم ناضج أتمنى أن أتابع ما ينتجه كاملاً حتى يتم التواصل بيننا.
وتبقى لنا ملاحظة مهمة وهي: لم يكن هناك داع لتقطيع الكلمات في الكتابة، (الحم.. راء.. الحلوة.. كانت ور..دتي، وحفروا تحت التر..اب الأسود.. ووضعوا فاط..مة) خاصة أنك وصفت طريقة نطق الكلمات؛ فكان يكفي وصفك (نطقت بحروف متلعثمة غير مترابطة) وهي عبارة دالة على طريقة نطق الكلمات، بل إنها تعطي مندوحة للقارئ ليتخيل هذا التلعثم ويقطّع الكلمات هو بدلا من أن تحدد له أنت طريقة نطقها. فضلا عن أن كتابتها مقطعة غير صحيحة إملائيا.