اللغة وسيلة التخاطب المكونة من حروف وكلمات وجمل بها نتكلم ونتحاور، وفي أقصى الحدود نتجادل ونتخاصم، إلى يصل الأمر إلى ما يشبه “حرب المصطلحات”، ولكننا قليلاً ما نراها كسلاح وأداة تشكل المفاهيم، وتبلور القناعات، و تنشر الثقافات، وتمكن الناطقين بها من السيطرة والتحكم. ويدلل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على خطورة اللغة قائلاً : “الكلمة ليست نسيمًا عليلاً يداعب مخيلاتنا وعقولنا دون أن يؤثر فيها، ولكن الكلمة هي أداة الإرسال والاستقبال والتوجيه، هي مسدسات محشوة قد تحمي الخير أو تجهز عليه”.

في خضم حرب المصطلحات، أصبحت الانجليزية بانتشارها الواسع لغة التخاطب العالمي global language، وبهذا انتقلت الدول الناطقة بالانجليزية لتمسك زمام إدارة العالم و تنشر ثقافتها الخاصة عن طريق اللغة، فيصبح المرء لا يستطيع أن يولي شمالاً أو جنوباً إلا إذا تكلم الانجليزية، ولا يحصل علما أو منصباً إلا إذا كان إتقان الانجليزية من أول مؤهلاته. واللغة ليست أداة حيادية، و إنما هي حسبما يقول الدكتور محمد عمارة أوعية تحمل مفاهيم و مضامين وسلوكيات.

في ظل ثقافة العولمة

وفي ظل ثقافة العولمة ،التي تغيب الخصوصيات الثقافية والدينية، تعتبر المفاهيم ليس فقط عابرة للقارات وإنما للحضارات، وتعتبر أن ما ينفع المرأة وسياقات التجربة النسوية في الغرب ينطبق انطباقاً تاماً على كل نساء الأرض، ولا تقيم وزناً لما يُعرف بنظرية جغرافيا الكلام التي تقول أن صحة الكلام تختلف باختلاف البيئات والأماكن.

إن السيطرة اللغوية للانجليزية منحتها أفضلية تحديد المعايير و المقاييس والنمذجةand models standarsiteds ، وما يعتبر فضيلة أو رذيلة، أو تقدما أو تخلفا مقارنة مع المقياس الغربي، فكلما اقترب الآخر العربي والإسلامي من النموذج الغربي عُدِّ متقدما، وكلما ابتعد مكتفيا بمراعاة الخصوصية عُدِّ محافظاً متخلفاً. والمأساة الأكبر في تعاملنا مع المصطلحات الانجليزية في المعاهدات الأممية التي تُعنى بالمرأة والطفل والأسرة هو أخطاء وتجاوزات الترجمة التي تتغافل، بقصد أو جهل ، عن أبعاد المصطلح في اللغة والثقافة التي كُتبت فيها، وتنقله إلى العربية ترجمة حيادية خاطئة لا تحمل أي دلالة معنوية تدل على معناه وكيفية استعماله في اللغة الأم.

مصطلح الجندر

من أمثلة حرب المصطلحات، مصطلح الجندر gender الذي ظهر أول مرة في وثيقة مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994 في واحد وخمسين موضعاً، وعندما طالب ممثلو الدول العربية بمعرفة معناه تُرجم خطئا ليعني الجنس sex أي الذكر والأنثى، بينما معناه كما ورد في تعريفات منظمة الصحة العالمية والموسوعة البريطانية هو “المصطلح الذي يصف الخصائص التي يحملها الرجل و المرأة كصفات اجتماعية لا علاقة لها بالاختلافات العضوية، بمعنى أن التكوين البيولوجي للذكر والأنثى ليس له علاقة بالنشاط الجنسي الذي يُمارس، ويمكن حسب هذا التعريف أن يقوم الرجل بأدوار الأمومة، وتقوم المرأة بأدوار الأب، وأن تكون المرأة زوجا تتزوج امرأة من نفس جنسها، وبهذا تكون قد غيرت صفاتها الاجتماعية وهذا الأمر ينطبق على الرجل أيضاً” وهذا بالطبع ما يفتح المجال في الاتفاقيات الدولية لتقبل وتقنين الشذوذ على انه طبيعة اجتماعية لا غضاضة فيها.

والملاحظ ان كثيرا من الاتفاقيات والاعلانات لم تعد تستخدم كلمة homosexuality لتعني الشذوذ بما تحمله من ظلال سلبية وتجريمية واقصاء وبعد عن الفطرة المحصورة بالذكر والأنثى واستبدلتها بكلمة gay وبالرجوع إلى قاموس المورد العربي فإن المرادف بالعربية هو مرح أو مبتهج أو متحرر في علاقاته الاجتماعية،وليس هناك أي إشارة إلى اللا اخلاقية التي تحملها كلمة الشذوذ والشاذ التي استبدلت بالعربية أيضاً إلى كلمة المثليين، وكأنهم جنس ثالث طبيعي الوجود في الحياة، ولم يكن ما أقدم عليه بعض الشاذين في الدول العربية من طلب ترخيص جمعية لهم خارجاً عن السياق العالمي في النظر إلى الشواذ باعتبارهم أصحاب حقوق ومواطنة كاملة ، ففي الغرب لهم نوابهم وجمعياتهم وامتيازاتهم الأسرية، ويُعاقب بالسجن والغرامة من يميز ضدهم

مصطلح المتحدين والمتعايشين

ومن المصطلحات أيضاً مصطلح المتحدين والمتعايشين unions and couples الذي استخدم أول مرة في مؤتمر القاهرة بعد الدعوات لتغيير هياكل الأسرة النمطية المكونة من أم أنثى وأب ذكر، والسماح باسر الالتقاء الحر بدون زواج أو عقد شرعي أو كنسي عن طريق المساكنة والمشاركة المدنية civil parsitetnership بين زوجين من نفس الجنس أو جنسين مختلفين، ودعم الأسرة بكافة أشكالها The family in all its forms . .

ومن المصطلحات الخطيرة مصطلح الجنس الآمن والصحة الجنسية sexual health والتي تفسرها وثيقة مؤتمر القاهرة بكونها حق لجميع الأفراد (وليس الأزواج) مما يعني إمكانية ممارسة الجنس دون الزواج بشرط أن يكون مأمونا بتوفير حبوب منع الحمل للإناث، والواقيات للذكور، وتوفير الثقافة الجنسية لكل الناشطين جنسيا من المراهقين، ودعم المراهقات الحوامل بتوفير خدمات رعاية الطفولة المبكرة، وكذلك كان كل طفل يولد من علاقات غير شرعية يُعرف بابن زنى أو طفل غير شرعي illegitimate child، ثم أصبح يطلق عليه طفل مولود خارج إطار الزواج out of wedlock، ثم تطور ليصبح طفلاً طبيعياً natural child، ثم أصبح المصطلح في قمة الإيجابية ليطلق عليه طفل الحب love baby، ومن سيعترض على الحب أو يجرمه؟.

سيداو ومصطلح التمييز

أما اتفاقية سيداو، فقد بنت على حرب المصطلحات هذه، وأصبحت تطالب بإعطاء المرأة حقوقها بغض النظر عن حالتها الزوجية irrespective of her marsiteital status، ومعنى ذلك سواء أكانت متزوجة أو غير متزوجة ومرتبطة بعلاقة مع رجل قد ينتج عنها أطفال، أو متزوجة من إمرأة مثلها و ترغب بالإنجاب بالطرق البديلة، و ليس فقط المعنى الذي نعرفه في دولنا العربية بان تكون المرأة إما عزباء أو متزوجة أو مطلقة أو أرملة . أما الأدوار النمطية stereotypical roles والتي يُنظر إليها سلباً فهي تتمحور حول دور المرأة كأم، حيث يُنظر للأمومة كعمل غير منتج أو مربح ،ولا يساهم في التنمية أو الدخل القومي الذي يمكن للمرأة أن تحصله لو خرجت للعمل وتخلت عن دورها كأم، كما يُنظر في هذه الاتفاقيات للأمومة على أنها دور اجتماعي وليس بيولوجي، وبالتالي تكون الأمومة ليست حكراً على المرأة ويمكن للرجل والأب أن يمارسها.

أما المصطلح الأهم والتي تدور حوله اتفاقية السيداو فهو مصطلح التمييز discrimination وهو في اللغة الانجليزية يعبر عن واقع الظلم والإجحاف أكثر من تعبيره عن مجرد التفرقة بين الرجال والنساء، فليست كل تفرقة بين مختلفين (الذكور و الإناث) ظلما، وليس كل اختلاف في الوظيفة الحياتية بسبب الاختلاف في الجنس تمييزا أو عنفا ضد المرأة، فالمساواة لا تتحقق إلا بين متماثلين في السمات والخصائص والوظائف، أما العدالة فتنطبق على المختلفين وهذا ما ينادي به الإسلام.

إن التعامل مع هذه المصطلحات وترجمتها أمر في غاية الخطورة إذا لم ندرك أبعادها الاجتماعية، وللتدليل على ذلك ففي مؤتمر اسطنبول للمستوطنات البشرية عام 1996 تفجر الصراع بين الوفود المشاركة على تعريف الأسرة، وكان السؤال : هل الأسرة خلية اجتماعية يجب تدعيمها. أم هي الخلية الاجتماعية التي يجب تدعيمها؟ أي حول إضافة أل التعريف، وما تحمله من مفهوم التعدد و الاختيارات إذا غابت، أي أن الأسرة إحدى الخلايا الاجتماعية و ليست الخلية الوحيدة، وما تحمله من معنى الحصر و الاستغراق بإضافة أل ، لتكون الأسرة هي الشكل الاجتماعي الوحيد المقبول به، وانتهى الصراع أمام إصرار دول الاتحاد الأوروبي بوجود أنماط مختلفة من الأسرة .

في السياسة من قبل ضاعت فلسطين بإضافة حرف الواو وإسقاطه بين النسخ الأصلية من الوعود وقرارات التقسيم و ترجماتها، فهل ستضيع الأسرة وهي اللبنة الأساسية و القاعدة الأقوى في حفظ أوطاننا بأل التعريف، وبسوء نية أو سذاجة في استيراد وترجمة المصطلحات و المعاهدات؟ قيل قديما “عندما يسوء الزمان تصبح الأذن سلة للمهملات و العين جرابا للخردوات”، فهل أصبحت آذاننا و أذهاننا جرابا تفرغ فيه الأمم حثالة تجاربها؟؟.

مصطلح الأصولية

إن استبدال كلمة الشذوذ بالمرح ليس خبط عشواء، إن هذا الاستخدام اللغوي كمثال يؤثر على منظومة الأخلاق والممارسات الاجتماعية و ينطلق إلى دوائر أكبر ليكشف عن خطورة هذا السلاح، سلاح الكلمات و المفردات و الترجمة الذي تمسك بزمامه أمريكا و بريطانيا، بلغتهما الانجليزية الأكثر تداولا وسيطرة على مستوى العالم، فتلبسا ثوب الأخلاقية و الديمقراطية والعدالة لمن تريدا وتنزعانه عمن تشاءا لتكشفا عن عورات تريدا إلصاقها بالعالم العربي والإسلامي بدأتها بمصطلح الأصولية fundamentalism وترجمة كلمة fundamental وهي الصفة من المصدر بمعنى أساسي أو أولي أو جوهري أو رئيسي، ولو رجعنا لتاريخ الكلمة لوجدنا أنها تدل على مذهب العصمة و هو مذهب بروتستانتي انتشر في القرن العشرين يؤكد على أن الكتاب المقدس معصوم عن الخطأ ، ولكن الكلمة حورت وسيست إلى معنى آخر مراد بعينه لضربة بعينها وهي وصف العالم العربي والإسلامي بالتزمت والتشدد والتعصب، فأصبح الإسلام ليس أساسياً و جوهرياً كما معنى كلمة fundamental وصار الانتساب إليه وممارسة شعائره أصولية متعصبة fundamentalism طورتها السياسة اللغوية الأنجلو – أمريكية إلى إرهاب ومحاور للشر..حقا هي حرب المصطلحات.