بعد وفاة المجدد العظيم الشيخ “عبد القادر الكيلاني”، وهجوم التتار على بغداد في القرنين السابع والثامن الهجريين اضطر بعض أبناء الشيخ عبد القادر للهجرة إلى بلدان أخرى، فقصدت مجموعة منهم الأندلس، واستقرت بها، ومن هذه المجموعة تفرّعت الأسرة أكثر؛ فبعد سقوط غرناطة وتعرُّض أهلها للاضطهاد في محاكم التفتيش، اضطر أحد فروعها للفرار إلى المغرب. ومن هذا الفرع وُلد أبو بكر القادري سنة 1914، بعد سنتين من وقوع المغرب في براثن الاستعمار، ونشأ في أسرة متدينة؛ كان والده ملجأ لسكان مدينة “سلا”، ومرجعا لهم في العديد من القضايا لحل مشاكلهم وخلافاتهم. وكان أبو بكر القادري مثالا للثورة بالتعليم والثقافة

عندما نتحدث عن أبو بكر القادري كمثال للثورة بالتعليم والثقافة، نجد أنه بلغ من كثرة توافد المظلومين عليه بحثا عن الإنصاف.. أن أصدر الملك مولاي حفيظ ظهيرا “بيانا” يتولى القادري الأب بموجبه العدالة في الرباط، لكنه رفض المنصب؛ لأنه لم يكن يحبّذ الاشتغال في وظيفة تابعة للسلطة.

تُوفي الوالد وعمر الصغير 8 سنوات، أثّرت أيام اليتم المبكرة بشكل بالغ على حياته.. فأصبح ذلك الطفل المثابر المُجدّ الذي تحمل المسؤولية قبل الأوان يعمل ويدرس في آنٍ واحد، كما سنجده ذلك الطفل مرهف الحس الرافض لكل أشكال الظلم والاعتداء على الآخرين.

كفله أحد إخوته، وكان من الشباب العلماء؛ فرباه تربية دينية، حفظ القرآن على يده، وما زال أبو بكر يحفظه عن ظهر قلب؛ لأنه يخصص وقتا يوميا لمراجعته.

بدايات النضال.. الطرد من المدرسة الفرنسية

قرر أبو بكر القادري دخول مدرسة فرنسية لتعلّم اللغة الفرنسية رغم أن سنه قد وصلت 16 سنة؛ وهو ما يعني أنه سيزامل مَن هم أصغر منه كثيرا، لكن ذلك لم يؤلمه؛ لإصراره على تحصيل العلم، وبعد ثلاثة أشهر قررت الإدارة أن ينتقل إلى القسم التالي في التعليم لتفوقه على أقرانه، وبعد مدة وجيزة انتقل مرة أخرى إلى القسم الثالث، وفي هذه المرحلة سيتلقى المبادئ الأولى لمهنة التدريس؛ إذ سيكلفه أستاذه بتصحيح بعض دفاتر التلاميذ؛ لأنه كان متفوقا في اللغة الفرنسية، وهكذا أصبح في نظر التلاميذ أستاذهم.

لكن المعلم الصغير يتم توقيفه من طرف الإدارة الفرنسية، والسبب كان بسيطا جدا؛ إذ دعته معلمة فرنسية إلى الوقوف في الساحة مع التلاميذ الصغار فرفض؛ لأنه ليس من سنهم؛ فاستدعاه مدير المؤسسة، وطلب منه أن يعتذر للمعلمة، لكن أبا بكر رفض؛ لأنه يرى أنه لم يقلل من شأن المعلمة، ولم يخطئ في حقها؛ فتم طرده من المدرسة.

وكان هذا الطرد بداية حركة طلابية ثائرة؛ حيث أضرب التلاميذ عن الدراسة؛ فطردت الإدارة بعضهم من المدرسة، ولما جاء بعض التلاميذ وسألوه عن الخطوة التي يمكن اتخاذها أمام الإجراء الجائر الذي اتُّخذ في حقهم.. قرر أبو بكر القيام بحركة قرآنية، وهكذا بدءوا يجتمعون بعد صلاة المغرب لتلاوة القرآن؛ فكانت الحركة القرآنية حركة مباركة، وضّحت معالم طريقه النضالية المرتكزة أساسا على القرآن، والمبنية كذلك على تجميع القلوب وتربيتها على مبادئه.

ظهير بربري مشؤوم.. ومقاومة حضارية

أصدرت الإدارة الفرنسية في مايو 1930 ظهيرا بربريا، حاولت من خلاله خلق نوع من الفصل بين المغاربة الذين يتكلمون العربية والذين يتكلمون الأمازيغية؛ وذلك لجلب الأمازيغيين للفرنسيين بدعوى أنهم يعيشون في المغرب منذ القدم، وليس لهم ارتباط بالذين يتكلمون العربية، ويجب إحياء الأعراف القديمة لهم، مثل: ألا ترث المرأة، وألا تخضع لأحكام القضاء، وألا يكتبوا باللغة العربية، ولا يتعلموها ولا يتكلموا بها… فعمدت السلطات الفرنسية إلى تأسيس مدارس بربرية تدرّس فيها البربرية والفرنسية.

أمام هذه الغطرسة الاستعمارية تحرك شباب الحركة الوطنية في موجة احتجاجية سُميت بحركة “اللطيف”، وسميت بهذا الاسم لأنها اعتمدت في أساسها على اتخاذ المساجد كمنفذ أساسي لتوعية المغاربة بخطورة السياسة الفرنسية الرامية إلى إحداث التفرقة بين العرب والبربر، وطُلب من المصلين ترديد هذا الدعاء: “اللهم نسألك اللطف فيما جرت به المقادير ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابرة”.

كان المجاهد أبو بكر من الشباب الفتيّ الذين انشغلوا بهذه الحركة والقضية الوطنية.. وكان يشعر بأن عليه واجبات ثلاثة:

أولا: تحقيق حلم الوالد بأن يكون فقيهًا كما كان يُلقِّبه دومًا.

ثانيا: المسؤولية تجاه أبناء الوطن، ومحاولة تحسين أوضاعهم.

ثالثا: إذكاء روح النضال ضد الاحتلال.

وعندما نتحدث عن أبو بكر القادري كمثال للثورة بالتعليم والثقافة، يجب أن نقول أنه وضَع يده على الداء، واختار المقاومة في ميدان التعليم، واتجه بعزيمة الشباب إلى تأسيس مدرسة حرة (التعليم بالمجان) بزاوية “ابن عبود”، مباشرة بعد إصدار الظهير البربري، وعُرفت هذه الزاوية بالمكتب الإسلامي الذي سيؤرق بال السلطات الفرنسية؛ لأنه بدأ ينافسها من جهة، ويقاومها من جهة أخرى، فقد كان لا يتوقف عن العمل إلا مدة 15 يوما لا غير في الصيف، وبدأت المدرسة تنشغل تماما بالتلاميذ الواردين إليها من المدارس الرسمية.

وكان نتيجة ذلك أن تعتقله فرنسا لكونه صعّد من وتيرة المقاومة التعليمية والثقافية التي اختارها، حيث قام بفتح فرع للمدرسة السابق ذكرها لمَّا كثُر الإقبال عليها؛ لأن المغاربة وجدوا ضالتهم في تعليم ينتمي إلى هويتهم العربية والإسلامية، وفي ذلك التاريخ كانت هي المدرسة الحرة الوحيدة التابعة للحركة الوطنية.

مطالب الوطنيين ومظاهرات المسجد

في سنة 1934 تقدم عشرة من الوطنيين المغاربة من بينهم علال الفاسي والهاشمي الفلالي والمكي الناصري – وكان منهم القادري وهو إذ ذاك أصغرهم سنا (20 عامًا) – بمذكرة تضم مطالب الشعب المغربي في ميدان الحريات العامة كحرية الصحافة وإصلاح العدالة والقضاء على الفساد، لكن السلطات الفرنسية ماطلت وسوَّفت إلى أن أعلنت رفضها بشكل قاطع سنة 1936، وعقدت المجموعة مؤتمرا مصغّرا لصياغة مطالب مستعجلة للشعب المغربي في نفس الوقت الذي تقود فيه مجموعة من المظاهرات. وتم القبض على “أبو بكر القادري” مرة ثانية، ورغم الإفراج عنه فقد لجأ إلى مهد المظاهرات: المسجد، فقد كانت الحركة الوطنية المغربية عقب كل صلاة تقود مظاهرات ضد الحماية الفرنسية، وألقى أبو بكر خطبة في المسجد احتجّ فيها على إلقاء القبض على مجموعة من الوطنيين، ودعا إلى تنظيم مظاهرات تضامنية، فقاده خليفة الباشا من المسجد إلى السجن مرة أخرى سنة 1937.

السجن امتحان ومدرسة

وأثناء استنطاقه في الدار البيضاء خضع للتعذيب، وبعد اجتياز مرحلة التعذيب أُنزل إلى قبو وقضى مدة تقرب من 20 يوما لا يتناول فيها إلا الخبز والماء فكانت تُسلَّم له كسرة خبز صغيرة يابسة مع كأس من الماء، وكان صدى صراخ الذين يتعرضون للتعذيب يصل إليه. ثم نُفي إلى “تافينغولت” وهي منطقة نائية بمدينة “تارودانت” في بيت مغلق لا يُسمح له بالخروج إلا نصف ساعة في الصباح ونصف ساعة في المساء.

يروي أبو بكر عن فترة السجن: “السجن معيار للثبات والصدق وحسن المعاشرة والإيثار ولا تعرف أهمية هذه المواصفات إلا في الامتحان، والسجن مدرسة من مدارس الحياة الحقيقية، المتخرج منها لا بد أن يحصل على شهادة في معرفة الحياة…”.

ويُتوج المجاهد القادري نضاله الوطني بالتوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال وبتكوين مجموعة من الوطنين الذين سيوقعون على هذه الوثيقة.

تعليم الفتيات.. فرض ديني

مما قاله أبو بكر القادري: “إننا عند الكلام عن حرية المرأة ومساواتها لا بد أن نفرق بين التقاليد والعادات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبين ما أقره الإسلام للمرأة من حقوق وواجبات.. ودورها دور أساسي لا يمكن التقليل من أهميته، وينبغي العمل على إزالة العوائق..”.

والكثيرون يعرّفون أبو بكر القادري كمثال للثورة بالتعليم والثقافة، بأنه صاحب الفضل الأول بعد الله تعالى على الفتاة المغربية وحصولها على فرصتها في التعليم، فقد أخذ على عاتقه – وهو رجل تعليم بامتياز – تعليم المرأة المغربية في وقت كان فيه تعليمها محالا، فأَوْلى مسألة تعليم الفتاة عناية كبيرة، وبذل في سبيل ذلك جهدا كبيرا بتدشين مدرسة عربية للفتيات، وتمزقت بذلك خرافة التمييز بين الرجل والمرأة في التعليم، وتخرَّق الصمت المطبق على الأمر.

وحتى ندرك التغيير الذي أحدثه الرجل بدعوته هذه نذكر أنه حتى عام 1946 كان عدد مدارس البنات لا يتجاوز أصابع اليد في المغرب كله، وكان الاستعمار يقصر تعليمهن على الخياطة والتطريز والمبادئ البسيطة للكتابة، ومن الطريف أن الرجل بدأ أول قسم للثانوي في مدرسة النهضة ببنتين فقط هما ابنة صديق له وابنة شقيقه؛ وذلك لأن الأمر تعدّى الاستعمار ليصل إلى أن فكرة تعليم الفتيات لم يكن المجتمع المغربي يستوعبها تمامًا، فبدأ القادري يعمل على “تطبيع” العلاقات بين الأسر المغربية وبين قضية تعليم البنات، فبدأ يقيم الحفلات المدرسية، حيث تتولى فتاة إلقاء خطبة بحضور الأمهات اللواتي بدأن ينقلن الأمر للبيوت، فأخذ الآباء يقتنعون بضرورة تعليم بناتهم.

أسرته وحياته الخاصة

ولعل هذا التحايل اللطيف وروح الدعابة والمزاح البريء هو سمة مشتركة بين العظماء، فلا نجدهم – كما نتصورهم – وقد علا وجوههم العبوس والضيق طول الوقت.. فأبو بكر القادري كانت زوجته له بمثابة السند والحضن الدافئ الذي يلجأ إليه كلما اشتدت الأزمة مع المستعمر الفرنسي، فكانت خير رفيق وخير طرف يتجاذب معه أطراف الحديث عن واقع الأمة المغربية وطموحه للنهوض بها.

وبما أن القادري كان يؤمن بفكرة تعليم الفتاة فقد بدأ هذا المشوار بزوجته غير المتعلمة التي تمكّنت خلال سنوات من نفض غبار الأمية عنها، بل وشاركت في تعليم فتيات مدينة “سلاهي” ومجموعة من النساء اللواتي يُعتبرن الرعيل الأول لمدرسة أبو بكر القادري التي أُسست لخدمة المرأة المغربية.

خلّف القادري ستة أولاد، فكان أبًا راعيًا صاحبًا ناصحًا، شديدًا أحيانا، ولينًا أخرى، فلم يستعمل – كما يقول عن نفسه – يوما سوطا أو عصا لعقاب أبنائه، وإنما يكتفي بالتوجيه واللوم.

أثمر هذا النموذج التربوي تفوق الأبناء في تربيتهم، وحصولهم على شهادات عليا خوّلت لهم تقلد مناصب عليا في المجتمع.

ويتذكر “أبو بكر” جلسات سمره مع أسرته التي لا يزال حريصًا على عقدها نهاية كل أسبوع، ويتم فيها سماع الأغاني التقليدية، ويختم بموشح من الموشحات الأندلسية.

وبالمقابل كان القادري لا يغفل الزاد الروحي الذي يجب أن يتشبع به أبناؤه، حيث كانت الأسرة القادرية معتادة على القراءة الجماعية للقرآن.

استمرارية في العطاء

ورغم حصول المغرب على استقلاله يظل المجاهد أبو بكر متواجدا على الساحتين السياسية والفكرية.. إذ تولى مسؤولية الكتابة العامة لجمعية الكفاح الفلسطيني لمدة عشرين سنة ومسؤولية أمين عام مساعد للمؤتمر الأفريقي الإسلامي، وأيضا أمين عام مساعد للمؤتمر العالمي للإعلام، كما سيُشرَّف بالعضوية بمجلس الوصاية على العرش.

لم يفارق أبو بكر القلم والتأليف، فقد أثرى المكتبة الإسلامية بمجموعة من المؤلفات منها في الميدان الإسلامي:

في سبيل مجتمع إسلامي – في سبيل وعي إسلامي – التعليم.. المهمة الأولي في الإسلام – دفاعا عن المرأة المسلمة – في سبيل وحدة إسلامية.

وفي ميدان العمل القومي: المغرب والقضية الفلسطينية.

كما أن له كتابات في مسألة أدب الرحلات.

شهادات

إن المجاهد المغربي أبو بكر القادري سيبقى من الشخصيات التي ساهمت في صنع التاريخ المغربي ومن المؤسسين الرواد للفكر الاستقلالي بالمغرب، ولا غرابة في أن يناديه أحد رجال الحركة الوطنية وهو عبد الرحيم بوعبيد “أستاذي في الوطنية”.

ولا عجب أن يقول عنه عبد الكريم غلاب عضو الأكاديمية المغربية ومدير جريدة العلم: “الأستاذ أبو بكر القادري بنشأته الأسرية وبتعليمه وثقافته، وبعقيدته الدينية وارتباطه بالمثل الإسلامية وبرغبته في أن يناضل من أجل الإسلام في كل مكان كما يناضل من أجل المغرب.. استحق أن يكون من رواد الحركة الوطنية ومن مؤسسيها”.


حنان أعميمي – بشرى مهيب