امتاز العصر العباسي بظهور عدد من الفقهاء النابغين، ذاع صِيتهم وانتشر فقههم، وصار لهم أتباع وتلاميذ ينشرون علمهم، وينتصرون لهم، ويدعون لمذهبهم بين الناس، وكان الإمام أبو يوسف القاضي أبرز تلاميذ الإمام أبي حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفي، الذين قاموا بجهد هائل في نشر مذهب الحنفية ووضع أصوله.

النشأة

ولد يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري المعروف بأبي يوسف في الكوفة سنة (113هـ=731م)، وبها نشأ وتعلم، واتجه مبكرا إلى دراسة الحديث، فسمع أبا إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعطاء بن السائب، ودرس المغازي على محمد بن إسحاق، صاحب السيرة النبوية المعروفة باسمه، ثم تتلمذ على عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، ثم اتصل هارون الرشيد فيما بعد: إن أبا حنيفة كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.

اشتغل أبو يوسف بالقضاء في سنة (166هـ = 782م) في عهد الخليفة العباسي “المهدي”، وبلغ الغاية في عهد الخليفة “هارون الرشيد” حيث تولى منصب قاضي القضاة، وهو منصب استُحدث لأول مرة في تاريخ القضاء، وشاءت الأقدار أن يكون أبو يوسف هو أول من يشغله في التاريخ الإسلامي.

وقد أتاح هذا المنصب الجليل لأبي يوسف أن ينشر مذهبه وفقه شيخه أبي حنيفة، وجعله الفقه الرسمي بالقضاء والإفتاء والتدوين، وأتاح له الذيوع والانتشار، وصقله عمليًا، فإن القضاء فيه مواجهة لمشاكل الناس، ووضْع طرق لمعالجتها، ووقوف على الشئون العامة، ومن ثم مكّن أبو يوسف للمذهب الحنفي بأن يسود ويعم بتعيين أتباعه في كراسي القضاء، حيث كان يناط به تعيينهم في الولايات؛ باعتباره القاضي الأول في الدولة العباسية.

أبو يوسف والرشيد

ارتبط أبو يوسف بعلاقة وثيقة مع الخليفة الرشيد، وتبوأ عنده مكانة عالية، فكان يؤاكله ويحج معه ويؤمه ويعلمه.. كتب له في كتاب “الخراج”: “وقد كتبت لك ما أمرت وشرحته لك وبينته فتفقهه وتدبره، وردد قراءته حتى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلك والمسلمين نصحا”.

وهذا الكتاب الذي يعد من أعظم كتب الفقه الإسلامي، كان استجابة لرسالة من الرشيد إلى قاضيه أبي يوسف في أن يضع له كتابا في مالية الدولة وفق أحكام الشرع الحنيف، وقد تضمن الكتاب بيانا بموارد الدولة على اختلافها، حسبما جاءت به الشريعة، ومصارف تلك الأموال، وتطرّق إلى بيان الطريقة المثلى لجمع تلك الأموال، وتعرض لبعض الواجبات التي يلزم بيت المال القيام بها.. وهو ما أغفله بعض الولاة.

والكتاب وثيقة تاريخية مهمة في تصوير بعض الأحوال المالية والاجتماعية في هذا العصر، فهو يندد ببعض ممارسات بعض الولاة مع أهل الخراج، حيث يطالبونهم بما ليس واجبا عليهم من أموال، ويشتطون في تحصليها.

ويقترح أبو يوسف في “الخراج” على الخليفة أن يجلس للنظر في مظالم الرعية مجلسا واحدا في الشهر أو الشهرين، يسمع فيه من المظلوم، وينكر على الظالم؛ حتى ينتهي الولاة عن ظلم رعيتهم، كما حثّه على أن يجيب مطالب المزارعين وأهل الخراج في كل ما فيه مصلحة لهم، كحفر الأنهار. ويلتزم بيت المال بالإنفاق على تلك المشروعات.. وخلاصة القول إن أبا يوسف وضع نظاما شاملا للخراج يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.

أبو يوسف مجتهدا

يتفق المؤرخون في أن أبا يوسف يعد صاحب الفضل الأكبر في نشر المذهب الحنفي، وأنه كان من أفقه أهل عصره، فهو أول من وضع في أصول الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، وأملى المسائل، وبث علم الإمام في أقطار الأرض.

ومع اتصاله بأبي حنيفة اتصال التلميذ بالأستاذ، وأخذه الفقه عنه.. فإنه خالف إمامه في مسائل متعددة، واستقل في تفكيره عنه؛ ولذا عدّه بعض العلماء من المجتهدين المستقلين الذين يستخرجون الأحكام من الكتاب والسنة وليسوا تابعين لأحد في اجتهادهم، كالأئمة الأربعة.

.. مؤلفًا

ولأبي يوسف كتب كثيرة دوّن فيها آراءه وآراء شيخه، ذكرها ابن النديم في “الفهرست”، فقال: ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة ، كتاب الصيام، كتاب الفرائض، كتاب البيوع، كتاب الحدود… غير أن أشهر كتبه: كتاب الخراج، وقد تحدثنا عنه، وكتاب الآثار، وهو مسند لأبي حنيفة رواه أبو يوسف عنه، ويضم طائفة من الأحاديث التي اعتمد عليها أبو حنيفة في بعض ما استنبطه من أحكام وفتاوى، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من فتاوى التابعين من فقهاء الكوفة والعراق.

“وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلي، وهو كتاب جمع فيه أبو يوسف مسائل اختلف فيها أبو حنيفة مع ابن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، وهو يصور ما كان يجري بين علماء ذلك العصر من دراسة عميقة للمسائل المختلفة، وعُنِي أبو يوسف فيه بذكر آراء المختلفين مدعومة بالدليل، وإن كان ينتصر كثيرا لآراء شيخه أبي حنيفة”.

وكتاب الرد على سير الأوزاعي وفي هذا الكتاب يرد أبو يوسف على الأوزاعي فيما خالف فيه أبا حنيفة من أحكام الحروب، وما يتصل بها من الأمان والهدنة والأسلاب والغنائم، وينتصر لشيخه على الأوزاعي في هذه المسائل وما يتصل بها.

وفي 5 من ربيع الأول 182 هـ= 21 من إبريل 798م توفي أبو يوسف وصلى عليه الخليفة هارون الرشيد، وأمر بدفنه في مقابر قريش، وسمعه السامع يوم مات يقول: اللهم إنك تعلم أنني لم أَجُر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدًا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.


أحمد تمام


مراجع الدراسة :
بن خلكان – وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس- دار الثقافة – بيروت – 1968.
أبو الوفاء القرشي – الجواهر المضية في طبقات الحنفية – تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو – عيسي البابي الحلبي- القاهرة – 1399هـ – 1979.
محمد أبو زهرة – أبو حنيفة حياته وعصره – دار الفكر العربي – القاهرة – 1977م.
محمد ضياء الدين الريس- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية – دار المعارف – القاهرة – 1969م.