من الأمور التي تسترعي الانتباه مشاركة عدد غير قليل من الأطباء في عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ إنشائه سنة (1351هـ=1932م)، وقد انضموا إلى مجمع الخالدين باعتبارهم سدنة للغة وحفظة لها قبل أن يكونوا ضالعين في تخصصاتهم العلمية الدقيقة، وكان الدكتور علي إبراهيم الجراح المشهور ورائد النهضة الطبية في مصر والعالم العربي أول طبيب يدخل مجمع اللغة العربية سنة (1359هـ= 1940م) في الدفعة الثانية التي ضمت عشرة من نوابغ الفكر والأدب، كان منهم عباس محمود العقاد وطه حسين، وأحمد أمين، وأحمد لطفي السيد، ومحمد مصطفى المراغي. ثم ينضم عام (1383هـ= 1963م) الدكتور أحمد البطراوي موضع حديثنا.

وكان “علي إبراهيم باشا” في عضوية المجمع الطبيب النابغة (علي توفيق شوشة)، حيث انضم سنة (1361هـ=1942م)، وشارك في لجان المجمع، وأسهم في وضع وتعريب كثير من المصطلحات الطبية، وعلوم الأحياء والزراعة، ثم ينضم إلى الطبيبين النابغين ثالث لهما في هذه الفترة المبكرة من تاريخ إنشاء المجمع الطبيب المعجمي محمد شرف، وكان من الغيورين على اللغة، الداعين إلى إنشاء مجمع لغوي لا تقتصر عضويته على المشتغلين بالأدب واللغة، بل يكون معهم جماعة من المهندسين والأطباء وعلماء الزراعة والصناعة، والمتخصصين في اللغات السامية كالعبرية والآرامية والسريانية.

وكان محمد شرف قبل أن ينضم إلى عضوية المجمع سنة (1366هـ=1946م) قد وضع معجمه الضخم المعروف باسم “معجم شرف للمصطلحات الطبية”، وبعد دخوله المجمع شارك في لجانه، وأسهم ببحوثه العلمية الرفيعة، وفي سنة (1371هـ=1951م) انضم إلى عضوية المجمع الدكتور أحمد عمار، وكان جراحًا نابغًا، تولى عمادة كلية الطب بجامعة عين شمس، واشتهر بحبه للغة والأدب، وحفظه لعيون الشعر في الأدب العربي.

ويذكر أن أحمد عمار كان من أصغر الأعضاء الذين انضموا إلى المجمع، حيث شرف بعضويته وهو في السابعة والأربعين من عمره، وانتخب نائبًا لرئيس المجمع في سنة (1396 هـ= 1976م) وظل في منصبه حتى وفاته سنة (1404 هـ= 1983م).

وبعد عام واحد من انضمام أحمد عمار إلى عضوية مجمع الخالدين لحقه الطبيب الأديب والعالم الناقد “محمد كامل حسين” صاحب الأثر الأدبي الخالد “قرية ظالمة” والتفسير البيولوجي للتاريخ، وقد أسهم ببحوثه اللغوية والأدبية العميقة في أعمال المجمع.

ثم انضم إلى المجمع الدكتور محمد أحمد سليمان سنة (1382هـ=1962م) وكان متخصصًا في الطب الشرعي، وتولى وكالة جامعة القاهرة، وأسهم منذ دخوله المجمع ببحوثه الدقيقة، وإشرافه على إخراج المعجم الطبي الذي يصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ثم ينضم بعده بعام سنة (1383هـ= 1963م) الدكتور أحمد البطراوي موضع حديثنا.

المولد والنشأة

شهدت قرية “طه شبرا” التابعة لمحافظة المنوفية بمصر مولد أحمد محمد البطراوي سنة (1320هـ= 1902م)، ونشأ في أسرة كريمة، يشتغل عائلها بالعلم والتدريس، فأبوه محمود البطراوي كان عالمًا جليلا، يعمل بالتدريس في مدرسة دار العلوم العليا التي كانت تضم أساطين اللغة ونوابغ الأدب، وجهابذة العلم، وقد تلقى أحمد البطراوي في قريته تعليمًا أوليًا، فحفظ القرآن الكريم في الكتاب، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم انتقل إلى القاهرة، وأتم تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارسها، ثم التحق بمدرسة الطب العليا، بقصر العيني وتخرج فيها سنة (1345هـ=1926م)

الاشتغال بالطب

وبعد تخرجه مباشرة عمل لفترة قصيرة في وزارة الصحة، ثم عين معيدًا بقسم التشريح بكلية الطب، وفي أثناء هذه الفترة كانت تجرى عملية تعلية خزان أسوان، فاختير ضمن بعثة أثرية لإنقاذ الآبار قبل إتمام تعلية الخزان، وكلف بجمع البقايا البشرية التي تشكف عنها الحفائر، فقام بعمله على خير وجه، وقدم تقريرًا علميًا عن عمله هذا ، فكوفئ على ذلك بإرساله في بعثة لإنجلترا للتخصص في علم التشريح البشري وعلم الأجناس البشرية.

وهناك في إنجلترا حصل على درجة البكالوريوس بعد ثلاث سنوات في التشريح البشري وبعد عامين من الدراسة الجادة حصل على درجة الدكتوراه في علم الأجناس البشرية، وكانت أطروحته لنيل الدرجة العلمية الرفيعة عن “سكان مصر في عهد ما قبل الأسرات حتى العصر الروماني من الناحية الأنثربولوجية” وتعد هذه الرسالة من أوفى ما كتب في هذا الموضوع الدقيق.

الدعوة إلى تعريب الطب

قضى البطراوي خمس سنوات في إنجلترا تزود خلالها بمناهج العلم الحديث، ودرس وطالع خلاصة النتائج العلمية في علم التشريح، ثم عاد إلى القاهرة ليعمل في كلية الطب بقسم التشريح، أستاذًا ومعلمًا لمئات من طلابه، ولم يكن ميدان التدريس هو الذي انصرف إليه البطراوي كلية، بل كان له نشاط علمي بارز، فكان عضوًا بـ”جمعية علم الحيوان المصرية”، ثم وكيلا لها، وعضوًا بـ”المجمع المصري للثقافة العلمية”، وعضوًا بـ”أكاديمية العلوم المصرية”، و”جمعية تاريخ الطب”.

على أن أبرز أنشطته كانت دعوته إلى تعريب الطب، وتدريس الطب باللغة العربية، مع وضع مصطلحات طبية باللغة العربية، والإسراع في ترجمة المراجع الوافية وملاحقة الجديد في عالم الطب، وأهمية توفر الأستاذة المتمكنين من اللغتين والمتحمسين للعربية لغة للعلم.

ولم يكتفِ “البطراوي” بالقول دون العمل، والدعوة دون التطبيق، فنهض مع بعض زملائه إلى ترجمة كتاب من أعظم المراجع العلمية المعروفة في علم التشريح (Gray’s Amatamy) فترجم ثلث الكتاب بمفرده في نحو ألف صفحة، وراجع ترجمة ثلث آخر منه، والقيام بمثل هذا العمل الجبار يقتضي تمكنا من اللغتين، تضلعًا في علم التشريح، وقدرة على وضع المصطلح العربي الدقيق لمقابله الإفرنجي، وكان هذا العمل رسوله إلى مجمع اللغة العربية، فاختير عضوًا فيه سنة (1382هـ= 1963م)

وأقام المجمع حفلا لاستقباله وهذه سنة متبعة في هذا المجمع أن يقام احتفال للعضو الجديد، يلقي فيه أحد الأعضاء كلمة صافية في استقبال الوافد الجديد، تتضمن الترحيب به والتعريف به وبجهوده العلمية، وفي هذا الحفل ألقى الدكتور محمد مهدي علام كلمة بليغة جاء فيها:

“إن هذا الأستاذ الجليل الذي كتب عن الإنسان في ماضيه وحاضره، وعن الحيوان في خلقته وتكوينه، وعن الطير في هجرته وإقامته… هو العالم الذي يستطيع أن يتعامل على قدم المساواة مع كتاب  Gray’s Anbatomy وكتاب مخصص ابن سيده، إنه طبيب عكف على الدرس والتدريس ولم يزاول علاج الأجسام وآثر علاج الفكر وآثار الأقلام…”.

مؤلفاته

ترك البطراوي نتاجًا علميًا من المؤلفات والبحوث والدراسات والتقارير العلمية، بعضها نشر بالإنجليزية وهو أكثر إنتاجه، وبعضها الآخر نشر بالعربية.

أما بحوثه الإنجليزية فمنها:

تقرير عن البقايا البشرية التي كشفت عنها بعثة بلاد النوبة.
تعليقات على الغدد الجنسية لبعض الطيور الأوروبية المهاجرة.
التاريخ الأنثرويولوجي لمصر والنوبة.
التقرير التشريحي عن دراسة الأهرام.
دراسة مجموعة من الجماجم من عهدة الأسرة الأولى، ومن الأسرة الحادية عشرة.
دراسة مومياء صغيرة وجدت داخل هرم دهشور سنة 1948م.
تقرير عن البقايا البشرية التي عثر عليها في مقبرة “أخت ـ حتب” ومقبرة “بتاح أيرو ـ كاو” مع بعض تعليقات على تماثيل “أخت ـ حتب” سنة 1948.

وأما ما نشر من مؤلفاته وبحوثه باللغة العربية، فهي:

–   تطور الجنس البشري.

–   الجنس البشري في معرض الأحياء.

–   على هامش تاريخ الطب.

–   سكان الصحراء الغربية.

وفاته

بعد دخول البطراوي مجمع الخالدين كان يُنتظر منه كثير من الدرس والبحث، ومساهمات واسعة في أعمال المجمع وأنشطة، وكان هو جدير بذلك، لكن القدر لم يمهله، فلقي ربه في (18 من رجب 1384هـ= 23 من نوفمبر 1964م).


أحمد تمام


من مصادر الدراسة:
محمد مهدي علام ـ المجمعيون في خمسين عامًا ـ الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ـ القاهرة ـ (1406هـ=1986م)
خير الدين الزركلي ـ الأعلام ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ 1986م
محمد أحمد سليمان ـ أحمد البطراوي (كلمة في تأبينه) ـ مجلة مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ـ العدد (20) ـ (1384هـ=1964م)
محمد رفعت أحمد ـ أحمد البطراوي ـ مجلة مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ـ العدد 22(1386هـ=1996م).