أحمد تمام

أحمد نشأت باشا

كان أحمد نشأت ثالث ثلاثة من الذين تولوا وزارة المعارففي مصر، فنهضوا بها وتركوا في مسيرة التعليم أثرًا لا يُنسى، ويد فضل لا تزال قائمة تشير إلى حسن صنيع ما قدموا، أما أولهما فهو “مصطفى مختار باشا” أول ناظر للمعارف، سعى ما وسِعه الجهد لاستقلال المدارس عن ديوان الجهادية الذي كان يتولى أمرها، فتحقق له ما تمنى، وتولى هو نظارة ديوان المدارس الذي أصبح مسئولاً عن التعليم في مصر.

وأما الثاني فهو الوزير العالم “علي باشا مبارك“، تولى ديوان المدارس في ظروف حرجة وإمكانات ضعيفة، وتقتير في الإنفاق على التعليم، فنجح الرجل في قيادة الركب، وأعاد تنظيم ديوان المدارس وفق الأوضاع الصعبة وذلك في عهد عباس الأول، فلما تحسنت الأحوال في عهد الخديوي إسماعيل نجح في إقامة صرحين لا يزال أثرهما باقيًا حتى الآن، وهما: مدرسة دار العلوم، ذلك المعهد العتيد الذي لا يزال يُمد المدارس 

بصفوة معلمي اللغة العربية. وأما الصرح الآخر فهو دار الكتب المصرية. وأما الوزير الثالث فهو “أحمد نشأت”، وهو موضع حديث اليوم.

المولد والنشأة

في قرية “كفر المصيلحة” التابعة لمحافظة المنوفية بمصر ولد أحمد نشأت في (15 من المحرم 1275هـ=25 من أغسطس 1858م)، ونشأ في أسرة كريمة متوسطة الحال، فعنيت بوليدها، فدفعت به إلى كُتّاب القرية مثل غيره من الأطفال، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم. فلما بلغ العاشرة من عمره التحق بمدرسة بنها الابتدائية، وفيها تفتحت مواهبه، وأظهر تفوقًا واضحًا في دراسة اللغتين العربية والفرنسية، وتعلق بالرياضيات وبرز فيها، وبعد أن أتم تعليمه الابتدائي انتقل إلى القاهرة، والتحق بالمدرسة التجهيزية بأبي زعبل بالقاهرة، وكانت تعد الطلبة للالتحاق بالمدارس العليا، فلما أنهى دراسته بها انتقل إلى مدرسة الإدارة (كلية الحقوق)، لما وجد في نفسه ميل إلى دراسة القانون والعلوم الشرعية.

وفي مدرسة الإدارة لفت الأنظار إليه بجده في الدرس والتحصيل وتفوقه على أقرانه، فابتعثته الحكومة ضمن بعثاتها العلمية إلى فرنسا لاستكمال دراسته العليا في القانون، فسافر سنة (1292هـ=1875م)، وحصل هناك على ليسانس في الحقوق بعد ثلاث سنوات من الدراسة الجادة.

ولم يعد أحمد نشأت إلى مصر بعد حصوله على إجازة الحقوق، وظل مقيمًا في مدينة “أكس” الفرنسية، وعمل محاميًا بها أمام المحاكم الابتدائية والاستئنافية، جامعا بين الدراسة والتطبيق. وأتقن المرافعة بالفرنسية وإعداد المذكرات القانونية، وفي الوقت نفسه كان يعد للحصول على الدكتوراه، ففاز بها من جامعة مونبلييه في سنة (1299هـ=1881م).

في خضم الوظائف

وبعد عودته إلى مصر التحق بسلك القضاء، وتدرج في مناصبه. ويذكر أنه عُهد إليه بتشكيل المحاكم الأهلية مع أحد زملائه فكان له أعمق الأثر في نهضة المحاكم وترقيتها وانتشارها في البلاد، وظل يعمل به حتى سنة (1312هـ=1894م) حيث انتقل إلى العمل الإداري، فعين مديرًا لمديرية جرجا (محافظة سوهاج)، وظل بها عامين، قضاها في إصلاح شؤونها ونشر الأمن في ربوعها، وتوفير أسباب الحياة الكريمة لأهلها، فأنشأ في “سوهاج” عاصمة المديرية متنزهات عامة، وشيد طرقًا معبّدة، وأقام أعمدة الإنارة في أرجائها، ثم انتقل أحمد نشأت إلى مديرية أسيوط، ثم عين مديرًا لمديرية الدقهلية، ثم أحيل إلى التقاعد سنة (1321هـ=1903م).

في وزارة المعارف

وبعد خمس سنوات من ابتعاده عن الوظائف استدعاه بطرس غالي باشا رئيس الوزراء المصري في سنة (1326هـ=1908م) وزيرًا للمالية، ثم عينه محمد سعيد باشا وزيرًا للمعارف في الوزارة التي شكلها في (13 من صفر 1328هـ=23 فبراير 1910م).

وفي الفترة التي قضاها في الوزارة أنجز أعمالاً عظيمة وقام بإصلاحات عديدة، وقوم اعوجاجًا في الوزارة، وأصلح أخطاء كثيرة، ويأتي قراره في جعل اللغة العربية لغة الدراسة في جميع المواد الدراسية في المرحلتين الابتدائية والثانوية، بعد أن كانت تدرس باللغة الإنجليزية منذ سنة (1307هـ=1889م) في هذا السياق.

وارتباطًا بهذه الخطوة الجادة شكل أحمد نشأت في وزارته لجنة برئاسته، عرفت باسم لجنة الاصطلاحات العلمية، تقوم بوضع اصطلاحات العلوم باللغة العربية، وكانت تضم أعلام اللغة والأدب في مصر، مثل أحمد الإسكندري، وأحمد زكي باشا، وإسماعيل رأفت، وقامت هذه بما تقوم به المجامع اللغوية في وقتنا الحاضر من تعريب المصطلحات الأجنبية أو وضع ما يقابلها.

ثم تقدم بالكتاب المدرسي المطبوع خطوات واسعة، فدعا إلى ضبط النصوص المستخدمة في كتب اللغة العربية ضبطًا تامًا، حتى لا يخطئ التلاميذ في قراءتها، ويتعودوا على القراءة الصحيحة. واستكمالاً للقراءة الصحيحة، طلب أحمد نشأت من شيخ العروبة أحمد زكي باشا وضع علامات تقسم العبارات، وتساعد الطالب على فهم الكلام، والوقوف على المواضع التي يحسن السكون عندها، فاستجاب أحمد زكي لهذا الطلب، وكان في نفسه ميل إلى القيام بمثل هذا العمل، فوضع كتابه المعروف “الترقيم وعلاماته” باللغة العربية، فكان أول من أشاع إدخال علامات الترقيم الحديثة في المطبوعات العربية.

إحياء التراث العربي

ولم يكتف أحمد نشأت بتحسين الكتب المدرسية وإخراجها في الصورة اللائقة، بل شارك في نشر التراث العربي وإخراجه مضبوطًا على نحو دقيق وجميل، ووافق على المشروع الذي تقدم به أحمد زكي إلى الوزارة لإحياء نشر التراث العربي، وإخراج كنوزه القديمة ومخطوطاته النفيسة، وكان من شأن هذا المشروع أن طبعت أمهات الكتب العربية وموسوعاته، مثل نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري، وهو موسوعة أدبية علمية جغرافية تاريخية، وصبح الأعشى في صناعة الإنشاء للقلقشندي، والطراز في حقائق الإعجاز لأبي حمزة اليمني.

التوسع في التعليم الفني

عني أحمد نشأت عناية فائقة بالتعليم الفني والتوسع في إنشاء مدارسه في أنحاء مختلفة في مصر، فأنشأ أول مدرسة صناعية أهلية في الإسكندرية سنة (1328هـ=1910م)، وأنشأ مدرسة للزراعة المتوسطة بمشتهر التابعة لمحافظة القليوبية سنة (1329هـ=1911م)، ثم أتبعها بمدرسة ثانية في دمنهور سنة (1331هـ=1912م)، وأخرى في شبين الكوم سنة (1333هـ=1914م)، ثم قام بتحويل مدرسة الزراعة بالجيزة إلى مدرسة عالية وهي الآن كلية الزراعة التابعة لجامعة القاهرة في سنة (1329هـ=1911م).

ولم يكتف بإنشاء مدارس متوسطة للتعليم الصناعي والزراعي، بل اتجه أيضًا إلى التعليم التجاري فأنشأ مدرسة متوسطة للمحاسبة والتجارة سنة (1331هـ=1912م)، تقبل من أنهى دراسته من طلاب المدرسة الابتدائية، وأنشأ في العام نفسه مدرسة التجارة العليا، وكانت تقبل من أتم دراسته الثانوية من الطلاب، وامتدت عنايته إلى إنشاء مدارس التدبير المنزلي للفتيات، وكانت تدرّس فيها مواد خاصة بهن، وفي الوقت نفسه قام بإدخال مواد تعليمية خاصة بالفتيات في خطط مدارس التعليم العام للفتيات من سنة (1330هـ=1911م).

ويذكر له التاريخ أنه في أثناء توليه وزارة المعارف وضع حجر الأساس لمبنى الجامعة الأهلية المصرية في (3 من جمادى الأولى 1332هـ=30 من مارس 1914م)، وذلك في حفل كبير رأسه حسين رشدي رئيس وزراء مصر، وكان إنشاء الجامعة أملاً عزيزًا راود كثيرًا من زعماء مصر وكتابها ومفكريها، وهذه الجامعة الأهلية كانت النواة لجامعة القاهرة العريقة.

رئاسة لجنة الدستور

بعد قيام ثورة 1919م، وتحقق بعض مطالب الوفد المصري، وإعلان الاستقلال -وإن كان منقوصا- تشكلت لجنة من ثلاثين عضوًا تمثل طوائف الشعب المصري عرفت بلجنة الثلاثين لوضع الدستور المصري، وتولى أحمد نشأت رئاسة هذه اللجنة التي وضعت الدستور المصري، ثم استدعاه يحيى إبراهيم باشا ليتولى وزارة الخارجية في الوزارة التي شكلت في (27 من رجب 1314هـ=15 من مارس 1923م)، ثم ترك وزارة الخارجية، وتولى المالية في الوزارة نفسها إلى أن قدمت استقالتها في (11 من جمادى الثانية 1342هـ=17 من يناير 1924م)، وكان ذلك آخر عهده بالوزارة.

وفاته

لم يترك أحمد نشأت سوى مؤلفين، أحدهما بالعربية بعنوان “من قديم الزمان إلى هذا الأوان” يتناول فيه تاريخ التعليم بمصر، والآخر بالفرنسية عنوانه “التربية والتعليم”، ولم تطل به الحياة بعد خروجه من الوزارة، فتوفي في (6 من ذي القعدة 1345هـ=18 من مايو 1926م) تاركًا ذكرى عطرة في تاريخ التعليم في مصر.

من مصادر الدراسة:

  • زكي محمد مجاهد: الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشر الهجرية – دار الغرب الإسلامي – بيروت – 1998م.
  • إلياس زاخورة: مرآة العصر في تراجم ورسوم أكابر الرجال بمصر – القاهرة – 1916م.
  • أحمد عطية الله: القاموس الإسلامي – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة – 1386هـ=1966م.
  • المركز القومي للبحوث التربوية: وزراء التعليم في مصر وأبرز إنجازاتهم – القاهرة – 1980م.
  • مجموعة من العلماء: دائرة سفير للمعارف الإسلامية – القاهرة – 1990م.