من المعلوم أن أعمدة المسجد النبوي في عهد النبي () كانت من الخشب، وورد أن أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) رأى بعضها أكلته الأَرَضة فأبدل بها أعمدة أخرى من الخشب، ولكن عمر (رضي الله عنه) غيّر أعمدة المسجد النبوي، وبناها باللَّبِن لأول مرة ولم يغير مكانها، وكذلك الخلفاء الذين جددوا ووسعوا المسجد النبوي الشريف بعده لم يغيروا مكان أعمدته على مر الزمان، وهو ما ترك للمسلمين فرصة التعرف على مكان هذه الأعمدة، وتوخي ما ورد في أمكنتها من فضل وبركة. وظل خلفاء الإسلام وسلاطين المسلمين وملوكهم يحرصون على إبقائها في أمكنتها، ويكتبون عليها أسماءها، كلما جدد بناء المسجد النبوي الشريف.

تسمى الأعمدة بالأساطين أو السواري، ويُقصد بها القوائم التي يرتكز عليها السقف. وكان الصحابة (رضي الله عنهم) والسلف من بعدهم يتحرون الصلاة عند تلك الأعمدة أو الأساطين التي كانت لا تخلو من جلوس النبي () ونومه وتهجده بل وحياته. وبما أن جلوسه () كان عند هذه الأسطوانات تحديدًا؛ فكانت هذه الأعمدة محلا لنزول الكثير من الآيات القرآنية، وورود الأحاديث النبوية، وارتياد جبريل (عليه السلام) على النبي ().

كانت أعمدة المسجد النبوي الشريف في زمن النبي () (35) عمودًا من جذوع النخل، وكان ارتفاع الجدران 3.50 أمتار. ثم جددها أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) في خلافته حين نخرت، وزادها عمر الفاروق (رضي الله عنه) فبلغت (44) عمودًا.

وبناها ذو النورين عثمان (رضي الله عنه) بالحجارة المنحوتة، ووضع بها قطعًا من الحديد مغطاة بالرصاص المصهور لتثبت الحجارة مع بعضها، مع المحافظة على أماكن الأعمدة الخشبية التي كانت زمن الرسول ()، وزاد فيها (رضي الله عنه) فبلغت (55) عمودًا.

وفي توسعة الوليد بن عبد الملك (88-91هـ) عملت أعمدة المسجد النبوي على غرار ما قبلها من الحجارة المنحوتة، وربطت مع بعضها بالحديد المغطى بالرصاص المصهور، وجعل لها قواعد مربعة وتيجان مذهبة، كسيت الأعمدة الجنوبية بطبقة من البياض تصقل وتلمع فتظهر كأنها رخام أبيض، بينما كسي الباقي بالرخام، و بلغ عددها (232) عمودًا. وفي توسعة المهدي العباسي (161-165هـ) وصل عدد الأعمدة إلى ما يقرب من (290) عمودًا.

وزادها السلطان المملوكي قايتباي في توسعته (886-888هـ) فبلغت (305) أعمدة.

وفي توسعة السلطان العثماني عبد المجيد (1265-1277هـ) عملت أعمدة المسجد النبوي من الحجر الأحمر بعضها من قطعة واحدة، وغطيت بطبقة من الرخام المزخرف المزين بماء الذهب، عليها عقود تحمل أعلاها قبابًا، بلغ مجموع الأعمدة في هذه التوسعة (327) عمودًا.

وفي توسعة الملك عبد العزيز (1370-1375هـ) أزيلت الأجزاء الشمالية من المسجد، وحوفظ على الجزء الجنوبي منه الذي يحتوي على (173) عمودًا، حيث أجريت عليها بعض الإصلاحات، فدعمت أعمدة الروضة الشريفة، وكسيت بالرخام الأبيض الجديد، وحسنت الأعمدة الأخرى بعمل أطواق نحاسية حولها على ارتفاع (2.50)م، وأضيف إليها (474) عمودًا متصلة بجدران التوسعة، و(232) عمودًا مستديرًا، ارتفاع الواحد منها حتى بداية نقطة القوس (5.60) م وعمق أساسه (7.35) م تحمل تيجانًا من البرونز، زخرفت بزخارف نباتية جميلة، وكسيت بالبياض، وغطيت قواعدها بالرخام.

وفي التوسعة الأخيرة -توسعة خادم الحرمين الشريفين (1406-1412هـ)- صُممت الأعمدة والتيجان بشكل متناسب ومتناسق مع نظيرها في التوسعة السعودية الأولى، وكُسيت بالرخام الأبيض المستدير، تعلوها تيجان من البرونز، في داخلها مكبرات الصوت، وفي قواعدها فتحات مغطاة بشبك نحاسي يخرج منها الهواء البارد القادم من محطة التبريد المركزية.

ومع هذه الزيادات المتلاحقة في المسجد الشريف ظلت الأساطين المبنية في زمن النبي () محافظة على أماكنها، حيث تحرى ذلك كل من زاد أو رمم في المسجد الشريف على مر التاريخ، خاصة الأعمدة المشهورة الواقعة في الروضة الشريفة، التي ارتبط اسمها بمآثر مدونة في كتب الحديث والتاريخ، وهي:

1 – أسطوانة السيدة عائشة: وتقع في وسط الروضة الشريفة، وقد اتخذ النبي () مكانها مصلى بعد تحويل القبلة مدة، ثم تحول إلى مصلاه، وكان أفاضل الصحابة والتابعين يفضلون الجلوس عندها.

وسبب تسميتها بأسطوانة عائشة (رضي الله عنها) أن بعضًا من الصحابة (رضي الله عنهم) كانوا جلوسًا عند عائشة (رضي الله عنها)، ومعهم ابن أختها التابعي الفقيه (عروة بن الزبير)، فقالت عائشة (رضي الله عنها): “إن في المسجد أسطوانة لو عرفها الناس لاستهموا على الصلاة عندها بالأسهم”، فسألوها عنها فأبت أن تعينها لهم ثم بعد قيامهم أسرَّت ابن الزبير بشيء، ثم قام واتجه إلى هذه الأسطوانة وصلى عندها.

وكان بعض أولئك الصحابة يرقب ماذا سيفعل، فلما صلى عندها جاءوا وصلوا في مكانه؛ فسُميت هذه الأسطوانة بعد ذلك (أسطوانة عائشة) كما هو مكتوب الآن في أعلاها، كما سميت أيضًا بأسطوانة القرعة لرواية (لاقترعوا عليها بالسهام). وروى بعض التابعين عن زيد بن أسلم أنه رأى موضع جبهة رسول الله () عند هذه الأسطوانة، وأنه رأى بعد ذلك موضع جبهة أبي بكر الصديق دونها، ثم رأى موضع جبهة عمر دون موضع جبهة أبي بكر رضي الله عنه عن الجميع، وهو ما يؤكد أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يعرفان فضل الصلاة عند هذه الأسطوانة.

2 – أسطوانة الوفود: وهي ملاصقة لشباك الحجرة الشريفة، وهي الأسطوانة التي كان النبي () يجلس عندها لوفود العرب القادمة عليه لكي تبايعه على الإسلام، وهي التي وقع عندها نداء بني تميم من وراء الحجرات، حيث نادوا رسول الله ()، وقالوا: “يا محمد اخرج لنا نفاخرك”؛ فأنزل اللَّه تعالى في شأنهم قوله: “إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ” (الحجرات: 4-5).

وعند هذه الأسطوانة أيضًا قدم على النبي () ضمام بن ثعلبة وافدًا عن بني سعد بن بكر، فلما أقبل ووقف على الرسول () وأصحابه ولم يكن يعرف الرسول ()، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله (): أنا ابن عبد المطلب، فقال له ضمام: محمد يا بن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدنَّ في نفسك، فقال : “لا أجد في نفسي، قل عما بدا لك”. فقال ضمام: أنشُدك الله إلهك، وإله مَن كان قبلك، وإله مَن هو كائن بعدك؛ آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟

قال : اللهم نعم، قال ضمام: فأنشدك الله إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك؛ آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ فقال (): اللهم نعم، ثم جعل ضمام يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة وبالأسلوب نفسه، ثم قال في النهاية: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعًا. فقال رسول الله (): “إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة”، وكم عند هذه الأسطوانة حصلت مناسبات! وكم جرى من حوار بين النبي () ووفود العرب؛ كالذي وقع بينه وبين وفد نجران وغيره.

3 – أسطوانة التوبة: وتسمى أيضًا أسطوانة أبي لبابة، وموقعها الرابعة شرق المنبر، وهي الأسطوانة التي ربط فيها الصحابي الجليل “أبو لبابة” الأنصاري (رضي الله عنه) نفسه، وظل فيها أسيرًا، وقال: “والله لا أفك هذا الأسر عن نفسي حتى يتوب الله عليَّ، ويحلني رسول الله () بيده”.

وقصة أبي لبابة هذه سببها أن النبي () عندما حاصر اليهود بني قريظة بعد غدرهم بعهده وانضمامهم إلى معسكر الأحزاب، وطال عليهم الحصار، وامتلأت قلوبهم من الرعب، وضاقت الأرض بهم، وجهلوا النكاية التي سوف تحل بهم طلبوا من النبي () أن يبعث إليهم أبا لبابة (رضي الله عنه)؛ لأنه كان حليفًا لهم قبل الإسلام لكي يتفاوض معهم، فلما جاء إليهم أرسلوا الصبيان في وجهه يجأرون وصاحت نساؤهم مستعطفة لرحمته، ثم حاولوا استغلال عاطفته فقالوا له: ماذا ترى؟ أننزل على حكم محمد؟ فقال لهم: إن نزلتم على حكم محمد (وأشار بيده إلى حلقه) يعني سوف يذبحكم. فقال أبو لبابة: “فوالله ما تحركت قدماي حتى علمت أني خُنْت الله ورسوله”، فلم يعد إلى الرسول ()، بل ذهب مسرعًا إلى المسجد النبوي وربط نفسه في هذه الأسطوانة.

فلما سمع ذلك رسول الله () قال: “أما إنه لو جاءني لاستغفرت له”. وبعد انتهاء حصار بني قريظة عاد النبي () إلى المدينة ولا يزال أبو لبابة مستأسرًا في ساريته فتأتيه بنته وتطلقه للصلاة وقضاء الحاجة ثم تعيده إلى أَسْره. وقد كان رسول الله () قال: “أما إذ فعل بنفسه ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه”. فلما أنزل الله توبته على النبي () وهو في بيت أم سلمة (رضي الله عنها)

قالت أم سلمة: لقد سمعت رسول الله () في السَّحَر يضحك، فقلت: مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟ قال: “تيب على أبي لبابة”. فقالت أم سلمة: ألا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت فقامت على باب حجرتها (والحجاب لم يُضرب بعد)، وقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك (وهذا يعني أن باب دارها كان مفتوحًا على المسجد) فلما سمع الناس التوبة على أبي لبابة ساروا إليه ليطلقوه من أَسْره، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله () هو الذي يطلقني بيده، فلما مرَّ عليه الرسول () صلاة الفجر أطلقه من الأسر.

وهذه الأسطوانة مكتوب عليها حتى الآن (أسطوانة أبي لبابة) وتُعرف بـ”التوبة”، وتقع إلى الشرق من أسطوانة عائشة، وهذه الأسطوانة أيضًا هي التي أَسَر النبي () فيها ثمامة بن أثال سيد اليمامة حين جاء به الصحابة في سرية أسيرًا؛ فأكرمه النبي ()، وكان يبعث إليه كل يوم بلبن عدة شياه فيشربه كله.

وكان ثمامة في أَسره يراقب تصرفات المسلمين وأفعالهم؛ فرأى من التقوى والمحبة والتعاطف والتواضع وكثرة العبادة ما لم يرَ في حياته، فدخل في قلبه حب الإسلام، وأُعجب بأهله وأضمر في نفسه الدخول في الإسلام، ولكن أنفة الزعامة والعزة جعلته يؤخر إسلامه إلى نهاية أسره، وكان إذا قال الرسول (): “أسْلم يا ثمامة. يرد عليه بقوله: يا محمد إن تنعم عليَّ تنعمْ على شاكر، وإن تقتلني تقتل ذا دم. وفي اليوم الثالث من أسره أمر النبي () بإطلاق ثمامة من أسره، وقال له: اذهب حيث شئت. فذهب ثمامة واغتسل وفاجأ المسلمين بإعلان إسلامه.

وورد أن النبي () كان يصلي أكثر نوافله عند أسطوانة التوبة، وتقع عن يمين حجرة النبي () ضمن أسطوانات الروضة الشريفة.

4 – الأسطوانة المُخَلَّقة (أي المطيبة بطيب الخلوق): وهي الأسطوانة الملاصقة لمصلى النبي () من جهة القبلة، وكان النبي () يصلي إليها بعد تحوله عن أسطوانة عائشة (رضي الله عنها)، ولكن هذه الأسطوانة اليوم متقدمة عن محلها الأصلي؛ إذ محلها الأصلي عن يمين الإمام إذا وقف في المصلى الشريف.

عن يزيد بن عبيد: “كنت آتي مع سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف –أي المخلقة- فقلت: يا أبا سلمة أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة، فقال: فإني رأيت رسول الله () يتحرى الصلاة عندها” رواه البخاري.

وهذه الأسطوانة اليوم يرتكز عليها المحراب النبوي الشريف، ومكتوب في أعلاها: “الأسطوانة المخلقة”، وسبب تسميتها بذلك أن النبي () رأى عليها نخامة فساءه ذلك؛ فقام أحد الصحابة وحك النخامة وطيب مكانها بطيب يسمى الخلوق؛ فسُرَّ النبي () لذلك.

5 – أسطوانة السرير: وهي الأسطوانة التي تقع في مكان اعتكاف النبي ()، وكان يوضع له عندها سرير، وكان هذا السرير من جريد النخل وفيه السعف. وتقع هذه الأسطوانة شرقي أسطوانة التوبة، وهي اليوم ملاصقة لشباك الحجرة الشريفة.

6 – أسطوانة المحرس أو الحرس: وتقع خلف أسطوانة التوبة من الشمال. سميت بذلك لأن بعض الصحابة كان يجلس عندها لحراسة النبي (). وكانت تسمى أيضًا أسطوانة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)؛ لأنه كان يجلس عندها حارسًا للنبي ()، فلما نزل عليه قوله تعالى: “وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ” (المائدة: 67) ترك الحراس حينئذ.

7 – أسطوانة مربعة القبر، سميت بذلك لوقوعها في ركن المربعة الغربية الشمالية من الحجرة الشريفة، وتقع هذه الأسطوانة داخل الحجرة الشريفة، وبالتالي لا يصلى عندها.

8 – أسطوانة التهجد: وهي التي في مكان تهجده () من الليل، وتقع أيضًا داخل الحجرة النبوية الشريفة.