السنة النبوية المطهرة أصل من أصول الدين، وحجة على جميع المسلمين، والسنة الفعلية تحديدا هي أصل أصيل في تقسيمات ما صدر عن النبي ، وهي من الموضوعات الهامة التي يترتب على فهمها –فهمًا صحيحًا وسطًا لا غلو فيه ولا شطط- إجابة عن كثير من الأسئلة التي تلوكها ألسنة كثير من الشباب المسلم اليوم..

ذلك لأن آفة كثير من الذين يحرصون على التأسي برسول الله تكمن في أنهم يصبغون مسلكهم بلون من الغلو، فيضيقون ما وسعه الشارع، ويوجبون ما حقه الندب، ويرمون غيرهم بعدم التأسي فيما علمت صفته من الإباحة، ويخلطون في ذلك خلطًا شديدًا مما يتواكب مع تغير في القلوب في غير موطن، وعداوة في غير محل، وجدال لا أصل له، وفرقة نحن في غنى عنها، وربما دفع البعض حرصه الشديد على التأسي إلى التشدد فيما رُخص فيه والإنكار فيما فيه سعة.

إن التأسي بالنبي الكريم مطلقًا –باستثناء خصوصياته- جائز بلا نكران، ولكن ما نعمد إليه ونقصده في هذا الصدد هو ضرورة أن يقترن التأسي بصحة الفهم ورحمة الخلق، حتى يقع التوجيه والإرشاد في حب ورفق ولين ورحمة، وإلا كانت النفرة والانفضاض.. وصدق الله العظيم الممتن على رسوله بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

أقسام أفعال الرسول

من هنا نؤكد على أن للأصوليين تقسيمات لأفعال الرسول ، ولكل منها حكمة، ولكل تقسيم وجهة ارتآها.. فمنهم من أجمل ولم يهتم إلا بما كان موضع تحقيق على اعتبار وضوح الأقسام الأخرى، مثل الرازي في “المحصول”، والغزالي في “المستقصى”.

ومنهم من فصل مثل الآمدي في “الأحكام”، حيث جعلها خمسة أقسام، على حين جعلها الشوكاني في “إرشاد الفحول” سبعة أقسام، وقد نحا أبو شامة منحى الشوكاني أو قريبًا منه في “المحقق من علم الأصول”.

وقد رجحنا أن أقسام أفعال الرسول ستة وهي:

1 – الأفعال الجبلية.

2 – الأفعال الخاصة بالنبي .

3 – الأفعال التي وقعت منه بيانًا.

4 – الأفعال المعلومة الصفة من وجوب أو ندب أو إباحة.

5 – الأفعال التي ظهر فيها قصد القربة.

6 – الأفعال التي لم يظهر فيها قصد القربة.

أولًا: الأفعال الجبلية:

وهي كل فعل وقع منه جبلة مما لا يخلو البشر عنه من حركة وسكون على اختلاف أنواع الحركة المحتاج إليها بحكم العادة، من قيام وقعود ونوم وركوب وسفر وإقامة وقيلولة تحت شجرة أو في بيت، وتناول مأكول ومشروب معلوم حله. «المحقق من علم الأصول لأبي شامة» ص40.

ومن أمثلة ذلك في حياته أكله القثاء بالرطب، وأنه كان يحب الحلو البارد، وكان يحب الحلو والعسل، وسائر ما روي عنه في هيئة لباسه وطعامه وشرابه ونومه وكيفية مشيه، وجميع ما نقل عنه من شمائله مما لم يظهر فيه قصد القربة.

ومما يلحق بالجبلي كل فعل فعله النبي مما علمت إباحته شرعًا إباحة مطلقة له ولأمته، مثل ما روي أنه أكل التمر وشرب العسل واللبن ولبس جبة شامية ضيقة الكمين، ودخل مكة وعليه عمامة سوداء. «المحقق من علم الأصول» ص47.

وبتعبير الشوكاني يلحق بهذا القسم ما كان من هواجس النفس والحركات البشرية كتصرف الأعضاء وحركات الجسم. «إرشاد الفحول» ج1 ص138؛ لأن ذلك كالواقع منه من غير قصد أو كالموجود منه اضطرارًا. «المحقق» ص45.

حكم الأفعال الجبلية

يرى جمهور الأصوليين أن الأفعال الجبلية التي وقعت منه لا تدل على أكثر من الإباحة، قال الآمدي: “لا نزاع في كونه على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته” «الإحكام في أصول الأحكام» ج1 ص148، وقال الشوكاني عن الفعل الجبلي: “ليس فيه تأسٍ ولا به اقتداء، ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور”. «إرشاد الفحول» ج1 ص136.

ورأى أبو شامة أنه لا دليل يدل على أنه يستحب للناس كافة أن يفعلوا مثله، “بل إن فعلوا فلا بأس وإن تركوا فلا بأس، ما لم يكن تركهم رغبة عما فعله ” «المحقق» ص47.

وهذا التفصيل من أبي شامة في القول بالإباحة هو أعدل الأقوال، وعليه يحمل ما فعله بعض الصحابة في مبايعتهم لرسول الله في كل ما وصل إليهم من أفعاله الجبلية، فضلاً عن غيرها، مثل ابن عمر.

قال نافع مولى ابن عمر عنه: “كان يتبع آثار رسول الله ، كل مكان صلى فيه، حتى إن النبي نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهدها فيصب في أصلها الماء لئلا تيبس… وكان يعترض براحته في كل طريق مر بها رسول الله ؛ يتحرى أن تقع أخفافها على مواقع أخفاف ناقة رسول الله . «المحقق من علم الأصول» ص49.

وأكثر من ذلك ما وصفه به نافع فيما رواه أبو نعيم في حلية الأولياء قال: “لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع آثار رسول الله لقلت: هذا مجنون”. حلية الأولياء ج1 ص310.

وروى أيضًا أن ابن عمر كان إذا رآه أحد ظن أن به شيئًا من تتبعه آثار النبي . «حلية الأولياء» ج1 ص310.

وقد كان هذا التتبع لآثار النبي حال كثير من الصحابة، وإن تفاوتت النسبة بينهم؛ فقد روى الترمذي في سننه عن أبي طالوت قال: دخلت على أنس بن مالك وهو يأكل القرع وهو يقول: يا لك من شجرة! ما أحبك إلا لحب رسول الله إياك. «!– /wp:paragraph –>

وهذا السلوك من الصحابة رضوان الله عليهم وممن ينتهج نهجهم في تتبع آثار الرسول في الأفعال الجبلية لا يخرجه عن حكم الإباحة، ولا ينكر على من يفعله، بل إنه مأجور -فيما نرى- إذا نوى التأسي برسول الله ؛ لأن فيه دلالة على عظيم حب رسول الله في نفس من يقتدي به في ذلك { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران: 31].

ثانيا: الأفعال الخاصة بالنبي :

وهي الأفعال التي ثبت بالدليل أنها خاصة به مثل “إباحة الزيادة على أربع في النكاح، ووجوب قيام الليل، وجواز الوصال في الصوم”. (المحقق من علم الأصول ص43).

ومنها اختصاصه “بوجوب الضحى، والأضحى، والوتر، والتمييز لنسائه، ودخول مكة بغير إحرام وخمس الخمس من المغنم” (الإحكام للآمدي ج1 ص148).

وكذلك “الزواج بغير مهر، وأن ما تركه من مال صدقة لا ميراث”. (أصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص287).

حكم الأفعال الخاصة

أجمعت الأمة على عدم متابعة النبي فيما ثبت أنه من خواصه، قال الآمدي: “ما ثبت كونه من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد فلا يدل ذلك على التشريك بيننا وبينه فيه إجماعا”. (الإحكام ج1 ص148)، وانظر (المحقق ص43)، (أصول الفقه للشيخ الخضري ص287).

ولكن من هذه الأفعال الخاصة بالنبي من يشاركه فيها أمته مثل صلاة الضحى، وقيام الليل، والأضحية، فكيف تكون خاصة به ، ومع ذلك يفعلها بعض أمته أو كثير منهم.

وللإجابة على هذا الإشكال نورد ما فصله الشيخ أبو شامة في هذا الصدد حيث قال: “خصائص النبي منقسمة إلى واجبات ومحرمات عليه ومباحات له” (المحقق ص53)، ثم شرع في توضيح كل قسم من ذلك وحكمه..

فالمباحات مثل نكاحه أكثر من أربع وكالوصال في الصوم، وأن ماله صدقة لا ميراث، فحكم هذه الأفعال أنه ليس لأحد أن يتشبه به فيها وإلا زالت الخصوصية.

والواجبات عليه مثل الضحى والأضحى والوتر والتهجد وتخيير المرأة إذا كرهت صحبة زوجها، وحكم هذه الأفعال أنها تقع مستحبة من غيره لأن التشبه به في ذلك واقع بلا خلاف وموضع الخصوصية الوجوب عليه دون أمته.

أما المحرمات عليه فمثل أكل الزكاة، وأكل ما لهُ رائحة كريهة مثل الثوم والبصل، والأكل متكئا، فحكم هذا النوع من الأفعال أنه يستحب التنزه عنها ما أمكن.

وهذا التفصيل في أفعاله بديع ودقيق، وليس عليه مأخذ ولا يصطدم بقول من قال عن الأفعال الخاصة به لا يشاركه فيها أحد على الإطلاق، لأنهم لو فصلوا على نحو ما فصل أبو شامة لما حكموا بغير ما قال.

وقد استدل أبو شامة على ما ذهب إليه بما يثبت من أفعال الصحابة.. قال: “قد ثبت أن ابن عباس اقتدى به في صلاة الليل ليلة بات في بيت خالته ميمونة، وقال له أبو أيوب الأنصاري حين امتنع عن أكل طعامه لأجل الثوم: “إني أكره ما تكره” ولم ينكر عليه . (المحقق من علم الأصول ص55 ، 56).

ثالثا: الأفعال التي وقعت منه بيانا :

وهنا لا بد أن نؤكد على أن الله عز وجل قد منح نبيه حق التبيين فقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].

وقد أمرنا الله عز وجل بالصلاة، والزكاة، والحج، والطهارة، وإقامة الحدود وغيرها، وجاءت هذه الأوامر مجملة أو عامة أو مطلقة، وجاء دور النبي المبين لما في الكتاب من أوامر، محددًا كيفية أخذ الزكوات، ومقدار الواجب، وتقدير النصب –جمع نصاب- وكيفية الصلاة، وكيفية قطع يد السارق وذلك من الكوع، ومسح اليدين في التيمم.

وأفعاله في ذلك دليل بلا خلاف، وهذا ما ذهب إليه الأصوليون جميعا، قال الآمدي: “هو دليل من غير خلاف”. (الإحكام ج1 ص148)، وكذا قال الغزالي والشوكاني (المستصفى ص472، إرشاد الفحول ج1 ص140).

وقال أبو شامة: “لا خلاف أن كل ذلك مأمور به ومتعين فعله لإيقاع المأمور به على شكله لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}”. [النحل:44]، ولقوله فيما صح عنه: “صلوا كما رأيتموني أصلي” (صحيح البخاري كتاب الصلاة – باب الآذان للمسافرين إذا كانوا جماعة)، وقوله: “خذوا عني مناسككم. (صحيح مسلم كتاب الحج –باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا).

كيف يعرف كون الفعل بيانا؟

وقبل الشروع في استكمال أقسام أفعال الرسول نجد من تتمة الفائدة هنا أن نتوقف مع نقطة هامة وهي: كيف يعرف كون الفعل بيانا؟

يوضح الغزالي أن للفعل طريقتين لمعرفة كونه بيانا، ونص على ذلك بقوله: “إما بصريح قوله وهو ظاهر، أو بقرائن وهي كثيرة” (المستصفى ص278).

وقد فصل أبو شامة في معرفة هذه القرائن على النحو التالي:

1- أن يصرح النبي بأنه يفعل فعلا بيانا للواجب المجمل كقوله لعمار بن ياسر حين أراد أن يعلمه التيمم: “إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه على الأرض”. (صحيح البخاري -كتاب التيمم- باب التيمم هل ينفخ فيهما؟) (صحيح مسلم –كتاب الحيض- باب التيمم).

2- أن يجمع العلماء على فعل له أن المقصود منه بيان.

3- أن يرد خطاب مجمل، ولم يبينه بقوله إلى وقت الحاجة، ثم فعل عند الحاجة والتنفيذ للحكم فعلا صالحا للبيان، فيعلم أنه بيان مثل قطع يد السارق من الكوع.

4- أن يترك عمدا ما ظُن لزومه فيكون تركه بيانا أنه غير لازم.

مثل أن يترك النبي الجلسة في الركعة الثانية، فيسبح به فلا يرجع فيعلم أنها غير ركن في الصلاة.. (صحيح البخاري كتاب الأذان –باب من لم ير التشهد الأول واجبا). (صحيح مسلم كتاب المساجد –باب السهو في الصلاة والسجود له).

ومن هذا الباب القنوت وتركه (صحيح البخاري – باب القنوت قبل الركوع)، وكذلك تركه ستر فخذه مع القصد إلى ذلك. (صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة –باب من فضائل عثمان)، يدل ذلك على أنها ليست بعورة.

5- أن يرد لفظ عام بصفة، ويحكم على من وصف بتلك الصفة بحكم، فيختزل النبي بعض من دل عليه ذلك اللفظ عن ذلك الحكم بفعله؛ فيدل ذلك على تخصيص العموم.

ومثاله قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]، فهذا يعم من سرق حبة فما فوقها، فإذا رأينا النبي لم يقطع من سرق ما دون النصاب، أو من سرق نصابا من غير حرز مع انتفاء شبهة أخرى تدراً إلى قطع، علم بذلك أن المراد بالآية من أوقع النبي الفعل فيه دون غيره، ومن هذا الباب قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}[التوبة:103].

فأخذ النبي من بعض الأموال وترك بعضا، فعلم أن المراد بالآية ما أخذ منه النبي دون ما ترك.

6- أن يُسأل عن بيان مجمل فيفعل فعلا، ويُعلم بقرائن الأحوال أو بقوله أنه قصد جواب السائل، وذلك مثل ما ورد في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن أعرابيا سأل النبي عن مواقيت الصلاة فقال: “صل معنا هذين اليومين” ففعل، فصلى النبي الصلوات الخمس في اليوم الأول في أوائل أوقاتها، وفي اليوم الثاني في أواخر أوقاتها، ثم قال: “أين السائل؟ الوقت ما بين هذين”.

فتحي أبو الورد