في الخطاب السياسي العربي المعاصريبدو مفهوم “المجتمع المدني” اليوم أشبه بالموضة، فما من بحث فلسفي أو تاريخي أو سياسي، وما من مقال أو تعليق أو تصريح إلا ويعرض لمفهوم المجتمع المدني برؤى وتصورات متعددة وتوظيفات مختلفة، ومن المؤكد أن المفهوم قد اكتسب ذيوعاً وانتشاراً في السياق الثقافي والسياسي العربي، حيث انتقل المفهوم (مفهوم المجتمع المدني) إلى مصطلح؛ وتحول المصطلح إلى شعار؛ ثم تحول الشعار إلى “قيمة مرجعية” في حد ذاته، مثل مفاهيم “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” التي ارتبطت أساساً بتطور التشكيل الحضاري الغربي؛ فهذه المفاهيم جميعاً وغيرها تحولت في واقعنا العربي إلى منظومة متكاملة يستخدمها البعض بدلالات ومعانٍ ومضامين معينة، تمثل في أحيان كثيرة رؤيته هو لهذه الدلالات وتلك المعاني والمضامين، وجعلها هؤلاء معياراً لتحديد الموقف من القوى السياسية والاجتماعية الموجودة على الساحة العامة: قبولاً ورفضاً، وتحوّل هؤلاء من مجرد مفكرين وباحثين أو حتى سياسيين إلى “حراس” على “بوابة” المجتمع المدني يُدخلون فيه من شاءوا، ويحرمون منه من شاءوا. هذا الذيوع والانتشار الذي تحول إلى هوس، عبر عنه بعض المتفيهقين قائلين: “إن المرء يخشى أن يطالعه مفهوم المجتمع المدني اليوم ليس حين يفتح كتاباً أو مجلة، بل حين يفتح الباب أو يطالع من النافذة”.
ويمكن رصد عوامل متعددة وبواعث شتى وراء الاهتمام المتزايد بالموضوع أهمها:

1

المثقف العربي والموضة الفكرية:

يلاحظ بصفة عامة أن كثيراً من المثقفين العرب -على خلاف طائفة العلماء والفقهاء في تاريخنا القديم وإلى حد ما في تاريخنا الحديث- قد عانوا -بشكل كبير- من مشكلة انصراف الأمة بطوائفها وفئاتها عنهم نتيجة أسباب متعددة، ليس مجال سردها الآن، ولكن ما يعنينا في الأمر أن الطائفة المتغربة من المثقفين ارتبطت أجنده تفكيرها وأولويات اهتمامها بما هو قائم في الغرب من موضوعات وقضايا، والغرب هنا المقصود به التشكيل الحضاري الغربي بشقيه الرأسمالي والاشتراكي قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، وبقواه المهيمنة في النظام الدولي المنعوت بالجديد.
جزء من مثقفينا العرب ولّى وجهه شطر الغرب فاتخذه “قبلة”، يردد في رجع للصدى ما يتردد في الغرب من قضايا ومفاهيم وإشكاليات؛ فإذا قال الغرب: “ديمقراطية” قال هؤلاء المثقفون: “ديمقراطية”، “ديمقراطية”، “ديمقراطية”، وإذا قال الغرب: “مجتمع مدني” قالوا: “مجتمع مدني”، “مجتمع مدني”، “مجتمع مدني”…وإذا قال الغرب: “عولمة”، قالوا: “عولمة”، “عولمة”، “عولمة”، وإذا قالوا قالت طائفة أو جمع معهم مثلما قالوا، وقلنا نحن ما قالوا.
ولقد انتقل اهتمام المثقفين العرب من قضية لأخرى على مدار العقود الثلاثة الماضية؛ ففي سبعينيات القرن العشرين شهد العالم العربي اهتماماً متصاعداً بين طائفة من المثقفين بفكرة الديمقراطية، وبات هؤلاء المثقفون ينظرون إلى الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي على أنها الوصفة السحرية التي ستزول بها كل أسقام وأمراض المجتمع العربي، واستثار الجدل حول الموضوع خيال الكُتّاب العرب للمساهمة في المناقشات المترامية الأطراف على صفحات الجرائد والدوريات والمجلات المتخصصة التي صدرت في أماكن شتى، كما عقدت في الثمانينيات مؤتمرات وندوات، وصدرت كتب ومجلدات تناقش مكانة الديمقراطية في المجتمعات العربية المعاصرة، وتحول النقاش والجدل إلى حركة في الواقع السياسي العربي، فشهدنا تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان سنة 1983م، التي أعقبها تأسيس منظمات ومؤسسات قطرية تعنى بحقوق الإنسان في بلدانها، ثم تلى ذلك في التسعينيات زيادة كبيرة في إنشاء هذه المنظمات، وتوسع في نطاق ومجال عملها بحيث أصبح عندنا عدد من المنظمات المتخصصة في موضوعات وقضايا بعينها من قضايا حقوق الإنسان (منظمات للمرأة وأخرى للسجناء وثالثة فكرية فقط…).
ويلاحظ بحق د.وليد قزيها -أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية- أن كثيراً من المثقفين الذين اهتموا بموضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان كانت خلفيتهم علمانية، أو ذات صلة بالحركات الوطنية العربية والشيوعية، ويعزو ذلك إلى انهيار الناصرية وفشل حزب البعث في التصدي لمهام الصحوة الوطنية والاجتماعية وتحرير فلسطين، كل ذلك نزع المصداقية عن حقبة كاملة من الصراع العربي السياسي. لذا أضحى كثير من المثقفين العرب، بعد إصابتهم بخيبة الأمل والإحباط إزاء تجربتهم السياسية وامتلائهم بالغضب تجاه أداء الأنظمة العربية ينظرون إلى الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي على أنها الحل لمشاكل ومعضلات الواقع العربي.
ومع اتساع المناقشة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في الثمانينيات ازداد تداول مصطلح المجتمع المدني أكثر فأكثر في الخطاب العربي بالنسبة للشيوعيين والماركسيين والتحرريين من المثقفين العرب، وكان الشيوعيون والماركسيون هم أكثر المثقفين اهتماماً به وبخاصة في التسعينيات، وهذه المرة ليس نتيجة فشل مشروع دولة ما بعد الاستقلال، ولكن نتيجة سقوط “المشروع الشيوعي” بسقوط الاتحاد السوفيتي، وأراد هؤلاء أن يجددوا مشروعهم السياسي ويضخوا فيه دماء جديدة، فكانت قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني هي المرشحة لضخ هذه الدماء، خاصة أن جزءاً كبيراً منهم قد أدركوا التحولات العالمية بعمق، ورأوا أن هذه القضايا هي أيدلوجية النظام الدولي الجديد فتجاوبوا معها سريعاً.